المحاكم المرتقبة: بين مخاطر الفتنة و إكراهات المرحلة/ بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن
الزمان انفو _ أود في البداية التنبيه إلى أن ثمة دخان في الأفق، وأعني أن هذه التحقيقات الجارية ومسارها القانوني والسياسي والأمني، مهما كانت النتائج المرجوة منها، على الصعيدين الايجابي النزيه أو المغرض التصفوي، فلن تمر بمسارها كله ومحاكمها المرتقبة لاحقا، دون بعض المخاطر على الدولة والمجتمع، رغم أن ايجابيات هذه التحقيقات والمحاكم المأمولة، قد تكون أكثر من سلبياتها ومخاطرها.
وحصيلة صفر مخاطر، وصفر نتائج فتنوية، في مثل هذه التحريكات، لمثل هذه الملفات المحاسبية الكبيرة، أقول هذا الصفر،في الجانب السلبي، قطعا قد يكون مستحيلا وإن لم يعني ذلك منع الدولة، أي دولة، من اتباع منهج المحاسبة والمساءلة، في حالة مثل هذه.
حيث تدل كل الوقائع والمؤشرات المفحمة، لدى أغلب العارفين أو حتى المتابعين البسطاء، للشأن العام الموريتاني، بأن الضابط الانقلابي، محمد ولد عبد العزيز، وتحديدا، منذ يوم الأربعاء 3 أغسطس 2005، وإلى يوم خروجه من السلطة، أقدم على الكثير من المساعي المشبوهة، أدت إلى حصوله على ثروة كبيرة طائلة، تستحق فعلا المساءلة، على نسق من أين لك هذا!.
كما أنه على منوال السمسرة وخلق “مافيا” تؤمن حصوله على المنافع الكبرى، في أغلب الأحيان، فقد اشتهر بعض أقاربه ومقربيه بحصولهم على منافع مادية مشبوهة واسعة.
ومنذ سنة 2005 وإلى وقت انتهاء العشرية المثيرة للجدل، ظهرت طبقة جديدة من رجال الأعمال والمنتفعين، اعتمدوا أحيانا، لتحقيق الثراء على صلاتهم بشكل مباشر أو غير مباشر بالسلطة، وما سمحت به من تلاعب بمختلف الأشكال والطرق والاحتيال، على المال العمومي الموريتاني المستباح، وبشكل فظيع لافت.
وإن كانت الدولة في شقها البرلماني التشريعي، وعبر لجنة التحقيق البرلمانية، قد اختارت الاقتصار على بعض ملفات العشرية، دون الرجوع إلى ما قبلها من فضائح وعثرات الأنظمة السابقة، إلا أن هذا لا يعني أن دولتنا وشعبنا، ليس بإمكانه أو من حقه الاستفسار عن طريقة تسيير شأنه العمومي، وبوجه خاص، في الجانب المالي، الذي حصلت فيه تجاوزات بمليارات الأوقية ، في مرحلة ولد عبد العزيز على وجه أخص، ولا يعني هذا تزكية أو تبرئة غيره من الرؤساء السابقين.
ولهذا وجب التنبيه إلى ضرورة استعداد الدولة الحالية والنظام القائم للأوجه المحتملة المختلفة، لهذه التحقيقات الجارية والمحاكم المرتقبة.
فعلا قد تتمكن السلطة التشريعية والقضائية لاحقا ومع رقابة السلطة التنفيذية للمشهد كله، من رعاية هذا المسار المحاسبي حتى يكتمل، مهما كانت مخاطره نسبيا وهزاته وانعكاساته المحتملة العابرة، إلا أن الوضع المحاسبي الجاري والمرتقب، وبغض النظر عن نتائجه المحتملة، الهزيلة أو المتوسطة، يفرض علينا جميعا، المزيد من الحذر وضبط النفس.
أولا: حتى لا يكون هذا المسار التحقيقي الراهن والقضائي المحتمل، فرصة لفتنة قد لا نتمكن من تسييرها.
ثانيا: ضرورة الحرص على أن تكون الحصيلة يحسن السكوت عليها، فكثير منا لا يريد الاقتصار على صدور أحكام بالسجن مع وقف التنفيذ على ولد عبد العزيز أو غيره، مع مطالبة فلان أو علان برد أموال محدودة، يرجح أن يثبت الحصول عليها بطرق غير قانونية، ولعل هذا الحكم القضائي، وفق ما يروج البعض، الهدف من جانبه المتعلق بعزيز،منعه لاحقا من الحصول على شهادة تبريز، بسبب الإدانة المرتقبة، وبالتالي إفساح المجال للرئيس الحالي من أجل الترشح لعهدة رئاسية ثانية، دون إعطاء فرصة منافسته انتخابيا، قد تثير الجدل الأخلاقي والسياسي، لرجل عرف بسوء التسيير والأنانية وتصفية الحسابات، ضد خصومه حتى لو كانوا من أقرب مقربيه، عائليا وسياسيا كما حصل ضد ولد غده وولد بوعماتو، وحتى سيد محمد ولد محم، رئيس حزبه الحاكم ووزيره المقرب، في آخر مراحل حكمه، أما خلافه مع ولد بوعماتو، فكان مبكرا كما هو معروف، فترة وجيزة، بعد انتخابات 2009 الرئاسية.
ثالثا: يتوقع الكثيرون أن تكون حصيلة هذا المسار المحاسبي، ما بين هزيلة أو متوسطة، لكن الظروف والضغوط المحلية المتعلقة بقدر من الوعي بدأ يظهر بوجه خاص لدى النخب الصاعدة، قد يفرض على السلط الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالدفع بالأمور، لتكون الحصيلة في مستوى يمكن السكوت عليه، وإلا فإن ردة الفعل قد تفرض الجنوح إلى خيارات أخرى، على غرار النموذج التونسي، الذي تولد عن جملة تناقضات، أدت بخروج خيوط كثيرة من أيدي أغلب اللاعبين، التقليديين المعروفين هناك، لدى تونس الشقيقة.
فظهر قيس سعيد ولم تتمكن النهضة من إجازة تشكيلتها الحكومية عبر البرلمان، وتراجع كثيرا نفوذ حزب “نداء تونس”، الذي تجمع تحت يافطته في فترة معينة الكثيرون، من بينهم تيار واسع، عرف طيلة عهد بن علي، وحتى بورقيبه من قبله.
واليوم تونس سياسيا، خلاف تونس المعروفة تقليديا، وباتت تبشر بتراجع الإرهاب وتقدم الاقتصاد والديمقراطية وتكريس العدالة ولو نسبيا، والحريات المتنوعة على نطاق واسع، يتجاوز أحيانا المطلوب، على رأي بعض المدارس الدينية و الأديولوجية.
وكذلك ربما المشهد الموريتاني من بعض الأوجه، فالرأي العام عندنا في موريتانيا بدأ يتوق إلى دولة مؤسسات، وربما التغيير سيفرض نفسه تلقائيا، حسب مسار الوقت والوعي وجملة عوامل محلية وإقليمية ودولية.
وبالتالي فإن مسار التحقيق الحالي في موريتانيا، إن لم يجري بشكل جاد ومتوازن، دون أن يجنح للتساهل مع المجرمين أو حتى في المقابل تصفية الحسابات ضد أي كان، فإن الأمور قد تتغير فجأة لمسار آخر.
لأن سنة الله في خلقه، أن الطبيعة لا تحتمل الفراغ وأن الأمور إلى صيرورة وتغير مستمر، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
ولكل فعل رد فعل مضاد له في الإتجاه ومساوي له في المقدار، وفق ما تمليه قاعدة “نيوتن” في الفيزياء، وقد تطبق في كثير من المجالات ، مهما كانت الفوارق النسبية والاختلافات المحتملة، بالنسبة للشأن العام مثلا، ولا مانع من الاستدلال بهذه القاعدة الفيزيائية البليغة، في هذا المقام السياسي.
ويفهم من هذا أن الطقس السياسي العام الراهن قد يفرض على الرئيس الحالي، محمد ولد الشيخ الغزواني، القيام بالكثير من التغييرات الجذرية، ولو تم ذلك تدريجيا، ليحقق للرأي العام ودعاة التغيير وطلائع الجيل الراهن، بعض أغلب ملامح التغيير المنشود، مع كنس الطاولة من جميع رموز الفساد، من يوم لحظة استقلال موريتانيا وإلى الآن، دون استثناء أو تمييز، ودون اقتصار على العشرية، في سياق الجنوح الفعلي الايجابي المبشر لبروز ملامح نظامه الخاص (نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني)، وتكريسا لبعض أهم ملامح دولة المؤسسات، ولا داعي إطلاقا للتقيد بالعاطفة في باب صداقة الرجلين (عزيز وغزواني)، أو من جهة اشتراكهما في انقلابين، وحكم البلد بصورة مباشرة أو غير مباشرة، منذ يوم الأربعاء 3 أغسطس2005.
فولد الغزواني يمثل أمل الكثيرين لأسباب عدة، لكن أمل التغيير المأمول، قد يكون مربوطا بفترة زمنية محدودة، فإن لم يعجل بمشروع تغيير جاد صارم ومبشر، فقد يتجاوزه القطار لسيناريوهات أخرى، قد تفرض نفسها بنفسها، لكنني متفائل في هذا الصدد، والتفاؤل تفرضه خلفيتنا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو قائدنا وقدوتنا، ومن حديثه الشريف من رواية بن ماجه: “إن الله يحب أن يسمع الفأل الحسن”.
ومن أكثر ما يثير السخرية في هذا المقام المحاسبي، وخصوصا على مستوى البرلمان ولجنته، محاولة بعض أصحاب السوابق، أو المتهمين على الأصح إدانة بعض المتهمين الآخرين.
وبدأ ذلك يتصاعد اليوم، عندما اعترض صاحب مقولة (امتليت أنا وامتلات موريتان)، العقيد المتقاعد، الشيخ ولد بايه، على محاولة استدعائه في أمر قطاع الصيد، على مستوى العشرية، والذي أثرى منه فعلا، بشكل فظيع ومشبوه بامتياز.
لأن الغرامات التي قاسها عزيز على ولد بايه، صديقه السابق وأثرى منها ولد بايه، بصورة مثيرة للتساؤل، على الأقل لم تطبق بشكل سليم، أي تلك القرارات المتعلقة بالغرامات، وقت تسييره لمندوبية الصيد، كما أنه هو و ولي نعمته عزيز، استهدفوا في ذلك القطاع خصومهم السياسيين، من أقارب معاوية بوجه خاص، وغيرهم من الفاعلين الاقتصاديين في قطاع الصيد البحري.
وعموما المساءلة لا تفسد للود قضية، “لا تنخلعو سابك أوان الخلعه”، “ال ما كال شي ما خاف شي”.
وربما، كل الذين يبدون في الوقت الراهن رجة ورعشة جلية فاضحة، قد يدل ذلك بصورة أو بأخرى ،على أنهم معنيون بتجاوزات من مستوى خطير أو متوسط.
ولننتظر جميعا ساعة المحاسبة، فقد بدأت مناقصة المحامين المحليين والدوليين، وبدأت ملامح الصرامة، وجدية الملف تتضح تدريجيا، مهما تكن سوابق بعض أعضاء اللجنة، سمكة أو أرزا، أو غيرها من مركبات “مار والحوت”، على طريقة العشرية وما قبلها.
و قد تعودت في أمر الفتن، مهما كانت الجوانب الايجابية الهزيلة أو المتوسطة المنتظرة، من هذا المسار التحقيقي، أن أكرر الدعاء المعروف، “اللهم سلم سلم”اللهم آمين.
اللهم أحفظ موريتانيا، وأدرأ عنا البلاء، سواء كان “كورونا” أو خطر تحقيقات، قد يتهمها البعض بتصفية الحسابات، أو يرجو لها في المقابل، كثيرون، أن تكون جادة عادلة، بعيدة عن الظلم، أو التقصير، في آن واحد،محاولة لرد الحقوق، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لموريتانيا المغدورة، دولة وشعبا، عسى أن يتكرس جزء من العدل،بحذر وعدالة وصرامة، وبعيدا عن تصفية الحسابات والتشفي.