…نحن والسياسة /بقلم عبد الله السيد
تأسست الدولة الموريتانية أول ما تأسست على إبعاد مشائخ الطرق عن الشأن العام وذلك اجتهاد اقتضته مصلحة عامة حسب رأي البعض ،مؤداها أن قيام الدولة بسلطانها الجمعي المهيمن يستلزم توهين ما ينافسها من قوى تقليدية نافذة سواء كانت بقايا إمارات أو مشيخات دينية.
وركبت منهجيات الإدارة الموريتانية على هذا الأساس ،عكسا لما هو واقع في السنغال المجاورة ،حيث يتمتع المشائخ بمكانة عرفية في الإدارة تخولهم حمل جوازات السفر الديبلوماسية والمرور بالصالات الرسمية ومزايا أخرى. وساعد في تجذر هذا الإقصاء أن الصوفيين أصلا بعيدون عن بلاط السياسة التي كانت ذلك التاريخ ،تفهم على أنها “معاملة النصارى” لا على أنها “الانتصاب لخدمة الغير والسير في مصالح المسلمين وتديير الشأن العام، والتماس المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم، سواء كانت المصالح المذكورة قد نص عليها الشارع أم احتاجت لاجتهاد وإعمال للعقل من أجل استخراج ما يلزم”. كان صوفيتنا وهم في نفس الوقت علماؤنا أيضا إذ أن علماءنا هم ما بين قادري الطريقة أو شاذليها أو تيجانيها ،هاربين بدينهم يمسكون بالغداة والعشي سبحات يذكرون الله بها منعزلين في زوايا يعيشون على حلائبهم ومزارعهم. وعامل الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله ،المشائخ بمقتضى الحال مع الاحترام الشديد ومع التجلة لكنهم ظلوا في عزلتهم رغم أنه أدخل بعضا من أطرهم في حكوماته الأخيرة ضمن توازنات اقتضتها تقوية الجبهة الداخلية في ظرف كان عصيبا. وأذكر أن الإدارة كانت بعد وصول العسكر للسلطة عام 1978م،تعامل المشائخ في منطقتنا ( أرض العقيلات)،بطريقة سيارات الإطفاء فمتى احتيج إليها استدعيت ومتى لم يحتج إليها تنوسيت. ثم كان أن انكب الجميع مستهل التسعينيات في أتون الحزب الجمهوري الذي شكل على مدى عقدين ،مركز استقطاب سياسي لا يمكن الشذوذ عنه بحال من الأحوال. وكانت الدولة تعامل القرى الصوفية المحتاجة لخدمات الصحة والتعليم وماء الشرب،بحسب درجة الولاء للنظام فالخدمات تمنح للموالي ويحرم منها المعارض وتقارير الاستخبارات التييقيمة للولاءات والمعارضات تعرض يوميا على الرئيس معاوية، والمشاكل تحل حسب اسطرلاب السياسة. وطبيعي خلال هذه الفترة أن تختلط المفاهيم وتتقاطع المصالح ويتناقص مدى الرؤية لحدوده دنيا. وكان في الجماعات الصوفية التي تغيرت قياداتها على مراحل متقاربة وأصبحت شؤونها تدار بيد شبان جامعيين متنورين ،معارضون مخفون (بضم الميم وسكون الخاء) لا يرضون عن الولاء الأعمى للأنظمة أحرى لنظام كبت الحريات وسلط أبناء القبيلة على رقاب أصفياء الله. غير أن ذلك النفس المعارض بقي مكبوتا بالجاه المحلي والمال السياسي وبسلطة التمشيخ الذي تجعل “المريد السالك كالميت بين يدي غاسله”. ومن مظاهر تلك المعارضة الكامنة ان جميع المشائخ زاروا بصورة علنية وبروح صادقة ،تحت عدسة الاستخبارات وأمام أعين النمامين ،جماعة الإسلاميين عندما سجنها معاوية ولد الطايع. هكذا كانت الأمور إلى أن جاء انقلاب 2005م ليشكل بداية جديدة للجميع ،حيث روجعت الحسابات وحددت فيها الغايات وتغيرت التموقعات ،فقد أزيح النظام الذي كان يخوف الجميع والذي كان الناس يوالونه اختيارا أو اضطرارا. خلال الفترة الانتقالية خف الضغط كثيرا ووجدت المعارضة الكامنة مجالا واسعا للتنفيس عن دخائلها ،فقد توزع سياسيو القرى الصوفية بين الأحزاب وبين المترشحين لانتخابات 2007م مع أن الغالبية منهم كانت لاعتبارات كثيرة ،إلى جانب الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله. وبعد انقلاب اغسطس 2008 عادت الأمور في موريتانيا كلها لما كانت عليه في عهد ولد الطايع مع فروق بسيطة. وكانت الأمور ستعود أيضا على مستوى قرانا لنفس الفترة لولا أن النظام العسكري استهدفها بصلافة وبدون تمحيص للمواقف رغم أن محمد ولد عبد العزيز خصص في حملة 2007 الرئاسية،لقاءات للمشائخ ليقنعهم بالتصويت لولد الشيخ عبد الله لأن بعضهم كان يضمر التصويت للسيد أحمد ولد داداه. فبعد الانقلاب وضع الجنرال عزيز الجميع في سلة واحدة على أساس أن قرى “لعكل” علوية ومعارضة للنظام العسكري فعزل أطرها واستهزأ بها بجميع طرق الاستهزاء والسخرية واستمع إلى أعدائها واستمرأ نصائح مكفريها. والغريب أن القرى قابلت هذا الاستهداف بأريحية الصوفي فدفعت بالتي أحسن السيئة فلم تغب القرى عن أي من زيارات ولد عبد العزيز للترارزة ولم تتخلف عن أي من مهرجانات حزب الاتحاد المقززة والتي كانت تذكر حاضرها (بفتح الراء)،بأن موريتانيا مشلولة وعقيمة لا تلد ولا تتجدد. رغم كل هذه الجهود لم تجد القرى من كانت بينه وبينها عداوة ،وليا حميما ،فقد واصل النظام أخطاءه ولم يصحح وجهته ولا مواقفه. من هنا انتبه الجميع وعلموا أنهم يطاردون خيط دخان وأن ولد عبد العزيز لا يقرأ الرسائل السياسية ولا يفهم “الغمزيات” لأنه تربى في مدرسة الأوامر بمادتها الوحيدة “الرئيس دائما معه الحق”،وسجل سكان القرى “الذاكرين الله كثيرا والذاكرات” أول موقف تاريخي في انتخابات يوليو 2009م حيث لم يصوت للمنتخب الجنرال محمد ولد عبد العزيز سوى قلة قليلة جدا (خيب عزيز أمل هذه القلة)،وخالف المريدون ضغوطا صادرة من هوائيات السلطة ومن هرموناتها الكامنة. لقد شكلت هذه الانتخابات طلاقا نهائيا مع ولد عبد العزيز الذي زاد غضبه وسخطه على القرى بعد أن اطلع على نتائج الانتخابات وتأكد أيضا أنه شخص لا يملك “شعرة معاوية”. لكن أهمية هذا المنعطف هو أن اتجاها كبيرا معارضا لنظام ولد عبد العزيز قد نشأ نشأة سريعة حيث طفت على السطح أعلام مناوأة نظام الجنرال التي كانت تكتم معارضتها له والتي كانت أماراتها قد ظهرت بعد انقلاب 2008م،انتصارا للديموقراطية أولا ولأخ في الطريق انتخب فأبلى وظلم فصبر ثانيا. لقد اقتنع الجميع مشائخ وأطرا أن لا مصلحة لهم ولا لقراهم ولا للبلد بعامة في النظام الحالي،وتأكد الجميع أن التصوف في صورته السنية يزاوج بين مفهوم الرباط الروحي التربوي’ ومفهوم ‘الرباط السياسي’ الذي هو الانخراط في هموم الأمة وحماية الثغور والسير في مصالح الخلق والوطن. ومن هنا بدأ التفكير في طريقة لدخول معمعان السياسة فاتفقت الغالبية خلال مشاورات دامت أشهرا على أن دخول المعترك يعتبر فرض عين أحرى في ظل نظام يتسرطن منذ عقود نخطير في سياساته معاد في مواقفه واستهدافاته. واتفق الجميع على أنه من العار أن تبقى هذه الجماعة الصالحة شاة بيفاء لك ولأخيك وللذئب ،شاة تتبادلها الأنظمة صماء بكماء عمياء لا تعقل. واتفق المتشاورون وهم بحمد الله كثيرون ،على أن يترك المشائخ في مواقعهم العليا كمرجعيات دينية توالي وتعارض بالدعاء في أوقات الإجابة وأن يتحرر الأطر والمثقفون ليدخلوا السياسة فليدخلوها إن شاء الله آمنين. ومع أن كل واحد حر في اتخاذ مواقفه،فقد اتفقت مجموعة هامة تتشكل من نوازع من مشارب شتى(ليس هذا دعاية)،مجموعة ذات شأن في الطريقة ،مجموعة ذات أبعاد مختلفة على أن مكاننا المناسب هو صفوف حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل”. فهذا الحزب هو في الحقيقة حزب الساحة الإسلامية بجناحيها والذي كان لبعض النافذين الموفقين منا دور كبير في الترخيص المشرف له في عهد الرئيس ولد الشيخ عبد الله،ذلك الترخيص الذي كسر موقفا تأسس في عهد ولد الطايع واحتفظ به أعوانه بعد قلب نظامه. فقد هيأ لنا هذا الحزب المؤسس على المرجعية الإسلامية ،خطابا وسطيا معتدلا وأمامنا فيه رجال صادقون نحسن بجميعهم الظن. وبانضمامنا الوشيك لهذا الحزب والذي سيتسع نطاقه بإذن الله،نكون قد سددنا نافذة خطيرة على الأمة هي نافذة تأجيج الخلافات بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة ؛فمن الأخطاء التاريخية تطور المنهجين بعضهما في انفصال عن البعض الآخر بل أحيانا في نزاع وتشاكس بينهما في فرعيات وجزئيات. وبانضمامنا نرجو أن نكون قد ساهمنا في ضم جهود الأمة وتوحيد قدراتها. ونحن ندرك أن هذا الانضمام كغيره من الخطوات الصعبة ،يزعج بطبيعة الحال أعوان النظام والمفتونين بطروحات تجوزوت وأصحاب المصالح في منطقتنا..لكن ليسامحنا الجميع “لقد رأينا رأينا وأنتم روا رأيكم”.. وليست هذه الخطوة تحرفا سياسيا ظرفيا ولا مخاتلة لنظام يتشظى بل هي أبعد من ذلك ،قربة منا إلى الله تعالى وقرار استيراتيجي نرجو أن يتحقق مثيله وأكثر في البلاد العربية والإسلامية التي ترد الأخبار عنها بخلافات بين هذين الطرفين اللذين يشكلان قوة واحدة ذلك أن الخلاف لا يعني بالضرورة الاختلاف.المقال من مصدره