أسعد طه: لهذه الأسباب تركت قناة الجزيرة
” هو أسعد طه … الذي مر من هنا”، والذي يؤمن بأن “العشق والثورة” دوما متلازمان، والذي يؤمن بالإنسان، ويدور مع الحق حيث كان، والذي طاف الهند وبلاد التركمان.. قلبه مترع بالألم مما رأى، حروب البوسنة وكوسوفو والكونغو والصومال والشيشان، ومغرم أيضا بنشوة الرؤية، لذلك يود لو يطوف الكرة الأرضية، هو مخرج ومنتج الأفلام الوثائقية المميز، الذي انتقل من الصحافة للتليفزيون.
لو فتشت قلبه ستجد “حجرات كازخستان”، حيث كان مسلمو أسيا يتعبدون لله سرا في زمن الشيوعية، ستجد فقراء فنزويلا ونفط بحر قزوين، صوفية السنغال وحروب نيجيريا، كردستان وطاجستان وصراع السودان، تيمور الشرقية وأزماتها الانفصالية، إندونسيا وحركاتها الإسلامية، التبت ورهبانها، والهند وهندوسها ومسلميها.
ستجد اليمن وربيعها، والمغرب وحراكها.. وستجد مصر، التي منها فر، منذ ٣٠ عاما، إلى فرانكفورت ثم إلى العالم حيث قابل زعماء واهتم بالفقراء على حد سواء، سافر لقرابة ٨٠ دولة، عمل ووثق وحكى الحكايات، من خلال شاشة قناة الجزيرة التي أنهى رحلته معها قبل أيام بعد ١٧ عامًا، ويكشف في الحوار سر هذا الفراق.
في مصر قدم عن الثورة وثائقيات “منتهى الثورة” ثم “من يحكم مصر”.. وأطلق مبادرة منذ عامين من أجل ” دمقرطة” الإعلام، عن المشهد الإعلامي ومبادرته وعن مصر حاورناه …
رغم أن الحوار جرى قبل إعلانه ترك الجزيرة، إلا أنه تفضل بالإجابة عن سؤال ردده متابعوه ” لماذا تركت قناة الجزيرة ؟”
فيقول “يعتقد الناس أن أي اختلاف بين طرفين يعني أن أحدهما شرير، والواقع ليس كذلك بالضرورة، بعد تجربة طالت سبعة عشر عاما قد يكون في تغيير المواقع ضخ دم من جديد، ليس هناك خصام، فشركتي تواصل عملها المعتاد مع مؤسسة الجزيرة بقنواتها المختلفة السؤال الأهم هو ماذا بعد، ما هي الخطوة القادمة وقد حدثني كثيرون عن ضرورة أن يكون لي دور في الساحة المصرية في هذه الفترة وعلى الصعيد الإعلامي، وهذا هو محل الدراسة الآن”.
وأما عن المشهد الإعلامي في مصر فيضيف أن المشهد بعد عامين من بدء الثورة “متخبط” و يحيل ذلك للتخبط في المشهد العام، يظن أن الإعلام عليه دور أكبر، ورغم ذلك يرى أن “المؤسسات الإعلامية أشبه بمؤسسات حزبية وليس مؤسسات مهنية وكأنها منشور لصالح طرف ضد طرف”.
كما يرى أن كل الجهود التي تبذل هي جهود سياسية بحتة، لانتقاد النظام أو معارضته، ويرى أن من يقوم بهذا ” معه حق” لكنه يطالب أن يكون هناك بالتوازي جهود لتأسيس مؤسسات أو هيئات أو قنوات “لابد أن يكون هناك خط للبناء وإعطاء البدائل” ويطالب “كمواطن بسيط” أن يشعر أن بالإعلام شيء من التغيير لأن “الإعلام لابد أن يقود”!
ويذهب للإعلام الحكومي “لم نشعر فيه بأي تطور، سواء في رؤيته، دوره، مهنيته، بغض النظر نوافق عليه أو لا نوافق، نريد أن نرى تغيير ثم نرى إذا كان جيدا أم غير ذلك” ولا يرى الإعلام الخاص بعيدا عن ذلك وأن كل الجهات الإعلامية ترى ما يريده الناس وتسير وراءه، وترتفع نبرة صوته بالحماس” جزء كبير من حل المشكلة، هو المهنية، هناك شيء اسمه “نضال مهني” يجب أن يتم، هذا ليس معناه الانعزال والبعد عن العمل السياسي والنضال السياسي والمقاومة والمعارضة” مؤكدا أن القنوات الخاصة لم يلحظ فيها تغيير فيما قبل الثورة عما بعدها، مؤكدا على دورها – القنوات الخاصة – في تقديم بديل للقنوات الحكومية أو ما يجب أن تكون عليه.
أما عن مبادرة “قناة الشعب يريد” التي كان يُأمل أن تقدم إعلاما يموله الشعب ويناقش همومه فيقول: ” فكرتها كانت تأسيس قناة شعبية يساهم فيها عامة الناس، بحيث تضمن ألا يكون هناك فريق أو تيار يتحكم في رأس المال أو التوجه، كان السؤال في كيف نقوم بالاكتتاب؟ وعندما أعلنا الفكرة خرجت وزارة المالية والدولة وحذرت من التبرع وقالت ليس من حقكم أن تقوموا باكتتاب فأصبحت المسألة هي البحث عن الصيغة القانونية التي تمكننا من الإكتتاب ، البدائل التي قدمت أن هناك بعض الأطراف تشجعت وقالت يمكن أن ندعم ونقدم أموالا، ولكن لم يكن هذا هو الهدف، ليس الهدف تأسيس قناة [فقط] بل شرط التأسيس تأمين اكتتاب الشعب، والقوانين الموجودة لا تسمح بذلك”
الثورة تم تجميدها!
رغم تحذيره لنا في رسالة بريدية قبل الحوار أنه لا يريد أن يلعب دور الناشط السياسي إلا أن حديث تمويل مشروع الإعلام الشعبي يأخذث مجرى الحديث للسياسة فيقول ” الأمور ترجع لنفس الفكرة، وهي: كأن الثورة تم تجميدها، الثورة هي تمرد علي كل القوانين، فهذا لم يحدث في أي شيء، معظم الناس الذين شاركوا في الفساد يخرجون تباعا، لا يوجد قانون [ ثوري] ، لا يوجد تمرد حدث !”
المسألة شبه مجمدة، حجة واهية تماما ألا نستطيع أن نجمع أموالا لقناة شعبية ؟ فالناس “الذين” يفترض أننا اخترناهم ليعبروا عننا ويمسكوا الحكم كأنهم الثورة، كان يجب أن يتمردوا هم على هذه القوانين، لكن هذا لا يحدث”.
أما عن دوره فهو ” أفكر جديا في العمل داخل مصر، لكن من خلال شاشة مصرية، لكن طبعا في الجانب الذي أتقنه وأعرفه، [ وهو] العمل الوثائقي، السوق المصرية لا يستوعب الفكر، يستوعب فكرة ” التوك شو”، وحسب الإحصاءات برامج التوك شوز الآن تجاوزت ٦٠ برنامجا، والفترة القادمة هناك مجموعة من القنوات سوف تظهر، مبنية مشاريعها على التوك شو، والتغريد خارج السرب لا بد من أن يجد له داعمًا.
التجربة كانت هكذا في “الجزيرة”، ما قمت به من وقت مبكر عندما بدأنا نخرج خارج المنطقة العربية ونقوم بالعمل في مناطق بعيدة مثل “أذربيجان وأرمينيا”، سانده أن القائمين على العمل كانوا يستوعبون الفكرة [ويدعمونها] قبل حتى الدعم المادي ، هذا ما كنت أتحدث عنه مع الزملاء الذين لديهم قنوات، [البعض ] ليس مع أو ضد برامج التوك شو ، لكنه مبدأ تجاري ، المعلنون يذهبون للتوك شو، حيث يصرخ ويزعق الناس ، ما يحدث الآن أن نفس الوجوه تقول نفس الكلام، وأرى أن الساحة المصرية والمشاهد المصري يحتاج إلى كمية ضخمة من توثيق الوضع الحالي، أو إلى العمل الوثائقي، من على الأرض، من خلال الناس هناك، كيف تعيش، ما هي المشاكل، الناس في الصعيد في سيناء، المجتمع المسيحي شريكنا، هل نعلم عنه قدر كاف ؟! ”
تبدو مبادرة جيدة ولكن يبقى السؤال ما فائدة التوثيق إذا غاب القانون؟ نسأله فيجيب ” دوري كإعلامي أو كفنان أن أقوم بالتوثيق … بأكبر قدر من الموضوعية … فمن سيقص حكاية الثورة [ يجب أن ] يكون موضوعيًا فيحكي حكاية الأطراف كلها، والفيصل لدي أن تحكي الحكاية بطريقة تبقى في المكتبة المصرية والعالمية على مدى سنوات، فالتاريخ قبل ذلك زُور وُيزور وقابل للتزوير، التوثيق في هذه الحالة على الأقل سيقلل من حجم التزوير”.
“الحلم لا يتبدد … يختفى حتى تستحقه”
يتحدث أسعد طه كثيرا عن الأحلام يقول “الحلم لا يتبدد .. يختفي حتى تستحقه”، “الأحلام لا تنتهى إذا آمن بها آخرون” يتحدث عن مركبة فضائية يطوف بها الأرض وعن سلم للقمر.. عندما نسأله عن حلمه في ظل “كل ما حققه” يضطرب صوته، وكأنه ينفى تهمة.
يقول ” أنا ماعملتش حاجات كتير ، ده رأي، مش حاسس أني عملت حاجة تخليني آجي أقعد في البلكونة واستريح وأقول كفاية شغل، مش حاسس، لأ ، ليه ؟ يمكن لأننا موجودين في زمن وعصر فيه كمية تحديات شديدة، في اللحظة دي يكون عليك دور كبير ، دوري هو دروي ، ولن تستطيعي أن تصنيفه حلمي هو دوري هو العمل الذي أقدمه”.
يرى أن دوره الآن هو أن يساهم في توسيع وعي المواطن المصري عن الاهتمام بالشأن المحلي فقط، ويحيلنا إلى أمنيته التي لم يقم بها في أن يقدم عمل عن دروس من ثورات أوروبا الشرقية “لأن ما حدث لنا هنا حدث ما هو مشابه له هناك، بالطبع لكل دولة خصوصياتها، وأوكرانيا وجورجيا، لديهم تجارب أكثر عملية، على سبيل المثال كيف غيروا النظام الشرطي”.
ويضيف “أحلم أن أكون محرضا، محرض على قيم ما، هذا بالنسبة لي أكثر شيء يسعدني، وأشعر به أنني مسحت عن جبهتي العرق، عندما أحس أنني نقلت فكرة لأحد ما، لم أتعامل مع ما أقوم به على أنه مهنة ومصدر للدخل، هي بالنسبة لي هي أكثر من مهنة، أشعر أن ربنا سبحانه وتعالى منحني بعض الأدوات، وأنا أريد أن أسخرها في المساهمة في وعي الناس، المساهمة في المعرفة، المساهمة على التحريض القيمي، ده الدور الذي أتمناه”.
مصر .. العودة والقادم!
نسأله عن مصر في سؤال مفتوح فيقول “مصر الآن مرتبكة جدا، قيادة ومعارضة وشعبا” الارتباك “هو لفظ مهذب، هناك إحباط، ويأس، هذا كله يجعل الرؤية صعبة جدا، بالتالي، يكون البحث عن الطرف الذي يؤمن بما تؤمنين به، وهذا صعب، الأمور متداخلة، وهناك حسابات أخرى، إما حسابات سياسية أو مالية، حتى بعض الأطراف الوطنية منحازة لأفكارها، لا أحد يحاول أن يتجرد ليرى مصر ماشية فين وراحة فين!!”.
يقول: إن ما أعاده إلى مصر هو مشهد الشباب ينظف الشوارع ويطلى الأرصفة، ويقول إن هذه الروح لم تعد موجودة الآن “الفساد مس كل واحد فينا، والثورة المطلوبة، ثورة ضد كل واحد فينا، هي معادلة بسيطة ، يجب أن نغير في طريقتنا في ثقافتنا، في رؤيتنا، ومن المشكلات الكبرى التصنيف، والحرص على الكلام الجارح جدا، كيف نبني وطن في ظل ذلك؟”
يضيف “قضية التلاسن الشديد، والحدة الشديدة، هذا بالنسبة لي يجرحني جدا، مثلا” الإخوان” ليسوا فصيل إسرائيلي أطالب بتحرير البلد منه لنخرجه برة الحدود وخلاص، هو يعيش معي، أي جرح له لابد أن أعرف أنه سيعود علىّ بجرح، عندما نستخدم ألفاظ “الحيوانات” ، هل سيصمت؟ أيضا هو بطبيعة الأشياء سيفقد الحكم يوما ما، وسيكون هناك تيار آخر … والمطلوب حركة تغيير للمجتمع”.
نذكره بما قال في نهاية فيلمه الوثائقي عن الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز “كلما الظلم كبر، خرج من خلف الحجر رجل، ترى منا هذا الرجل” ونسأله عن هوية هذا الرجل الذي يخرج من خلف الحجر ليقود هذا التغيير المأمول في مصر؟.
يجيب “هل لابد أن يكون مجهودا فرديا؟ أم يمكن أن يكون مجهودا لمجموعة ؟ لماذا لازلنا نبحث عن سعد زغلول وعبد الناصر ؟ واضح جدا أن هذا الزمان هو زمن القيادة الجماعية، وليس مصادفة ما حدث في تونس وليبيا ومصر، ليس هناك رمز أو قيادة نتجمع حولها، ربما كان ذلك من سمات التغيير، الحركة جماعية …
ويرى أن من طبائع الأشياء أن البلد ستنتقل لمرحلة أفضل ويرى أن الله سبحانه وتعالى لن يخزل البسطاء المخلصين الواعيين “لكن المسألة محتاجة وقت ، وحتى نصل لهذه النقطة لدينا فترة طويلة من التمن والتضحية، أنا أتخيل أننا في حاجة لنراجع ثقافتنا وفي حاجة لمراجعة اخلاصنا، لأن أحيانا تكون خصومتي للطرف الثاني للبلد والوطن فكناية في الطرف الثاني، أخذ القرارات والمواقف ليس إخلاصا لبلدي، بل نكاية فيه”.
ينتهى الحديث كما بدأ بسؤال للزميلة إسراء الطويل المصورة الصحفية التي رافقتنا لإجراء الحوار… عن مالا ينساه بعد أسفار طالت قرابة ٨٠ دولة ، فيتحدث عن ذلك الرجل الرواندي الذي كان يحتضر جوعا في معسكر للأسرى وما استطاع أسعد طه أو أي ممكن كان حوله من الصحفيين من جميع أنحاء العالم تقديم كسرة خبز تنقذ حياته، فيكون السؤال عن إذا كان هذا الألم الأعظم يجعله “يكره” مهنته فينفني ويتذكر اتهامات مواطنون بسنويون للصحفيين أثناء الحرب أن الصحفيين يحصلون على الأموال، بينما الموت من نصيب البوسنيين ويقول أن لذلك أثر “مزعج” على المستوى النفسي لكن لكل مهنة آثارها.
عندما تلملم أوراقك بعد الحوار مع أسعد طه تلملم معها رغبة شديدة في أن تطلب منه أن يحكي لنا حكايته هو الطويلة جدا، حكاية تمتلئ بالوجوه والأشخاص من أطراف العالم، أطفال وعجائز ، شباب وشيوخ وأمهات ومدن وبحار وجبال ، وطائرات وسفن ، وقطب شمالي وغابات أمازون غرست سيارته فيها وقت هطول الأمطار، ستشد على يده في المصافحة وتقول إن ثمة حكايات لابد لها أن تحكي.. حكايته هو؟ ربما ! حكاية مصر؟ حتما !!
وتقول كما ظل هو يودع مشاهديه عبر الشاشة الصغيرة.. ” إلى الملتقي”
بوابة الأهرام