في رثاء سيدمحمد خطري
الزمان انفو ـ كتب د. بدي ابنو المرابطي : رحم الله سيدي محمد ولد خطري، رحم الله رجل الفكر والإيمان والميدان
-1-
عرفتُ الكاتب والمناضل الكبير المرحوم سيدي محمد ولد خَطري بباريس أواخر التسعينات، ربّما خلال سنة 1999.
أعتقد أنّ أوّل حديث بيننا جرى عبْرَ الهاتف. فقد كانت هنالك خلافات حادّة بين بعض مجموعات المعارضة بالمنفى أو بين بعض أفرادها، فكلَّمني رحمه الله في إطار ما أراده أن يكون مسعًى مصالحة أو تقريب لوجهات النظر.
ثم توطدتْ العلاقات بسرعة بيننا وتبادلنا الدعوات. وأصبح بعد ذلك مُشاركاً دائماً في لقاء كنّا نُنظمه أسبوعياً سنتي 2000 و2001 في مقرّ إحدى الجمعيات المغاربية في الدائرة الحادية عشرة في باريس. كانت اللقاءات تحتَ اسم منتدى التفكير حول موريتانيا (Forum de Réflexion sur la Mauritanie FRM) وكان يَحضرُ معنا إخوة وزملاء من انتماءات سياسية متعددة (أذكر منهم الأصدقاء مودي كامارا وانجايدا سولي وماء العينين ديالو وعمر دياني وأحيانا حسنّا ولد علي عندما يأتي من حين لآخر من “لمان” إلى باريس).
كما كنّا ننشرُ معظم المداخلات التي تُعرَض في المنتدى في المجلة النضالية Refus (الناطقة باسم تحالف قوى الرفض، ربما ما تزال توجد منها أعداد على الأنترنت) التي كنتُ أديرها حينها رفقة المرحوم محمد ولد الدوقي والدكتور موسى سي والدكتور محمد علي ولد الولي حفظهما الله وآخرين.
-2-
وقد نشرنا في Refus حينها سلسلةً مقالات للمرحوم سيدي محمد ولد خطري كما أجرى لنا مقابلات بينها واحدة مع صديقه الفيلسوف روجيه غارودي. نشرنا المقابلة أواخر سنة 2000 أو بداية 2001 وكتبتُ لها مقدّمة لربطها بسياق اهتماماتنا حينها، وبشكلٍ خاص فيما يتعلق بالالتحام بين الجهد الفكري الذي تُفترض فيه الرصانة والجهد النضالي الذي يُفترض فيه الفاعلية الميدانية.
كانت هذه الفكرة الأخيرة لصيقة باهتمامات سيدي محمد فقد لا أبالغ إن قلتُ إنّه كان مسكوناً بسؤال العلاقة بين العمق الفكري والفاعلية الميدانية. وكانت لذلك دلالة لا تخفى بخصوص علاقته الوطيدة بالفيلسوف غارودي. فقد كان سيدي محمد مهتماً كثيراً بأطروحات الفيلسوف في عددٍ من كتبه حول ضرورة إخراج الفلسفة من الجامعة إلى الميدان، أي بتعبير غارودي نفسه ضرورة أن تكفّ الفلسفة المعاصرة من جهة عن أن تكون تكريساً وتبريراً للمركزية الأوربية وعن أن تكون أساساً تكويناً لأساتذة يكوِّنون بدورهم أساتذة إلخ. وفي المقابلة المذكورة صدى بيّن لتلك الجوانب.
-3-
لم أعد أذكر تفاصيل علاقته بغارودي التي روى لي بعضها والتي تعود إلى بداية إقامة سيدي محمد في باريس كطالب أعتقد في الثمانينات. وإذا لم تخني الذاكرة فقد دفعت الثورة المبكّرة ضدّ الظلم المرحوم سيدي محمد وهو ما زال في مقتبل عمره إلى محاولة الالتحاق ببعض الفصائل الثورية في لبنان وفي الأرض المحتلّة.
لم يكن هو نفسُه يتحدّثُ عن ذلك كثيرا ولكنه كان يستشهد ببعض ذكرياته حين يجرّنا النقاش إلى بعض المواضيع.
أعتقد أيضا أنه ذكر لي أنه حصل على الثانوية العامة في المشرق العربي وربما درس كذلك في المملكة المغربية. أما في باريس فقد درَسَ الاقتصاد ثم حين تخرَّج كان مولعاً بالفلسفة فأردا متابعة دراستها في شكل دبلوم دراسات عليا. وتمّ السماح له بذلك بالرغم من اختلاف التخصص الأصلي بعد أن قدّم مذكرة كان موضوعها إن لم تخني الذاكرة عن فلسفة اللاهوت الإسلامي (أي ما يعرف في التقليد الإسلامي بأصول الدين وعلم الكلام) ولاحقاً أكمل دراسته في الأبستمولوجيا.
-4-
في ليلة من ليالي 2000 أو 2001 دعاني على العشاء ليطلعني على بعض نصوصه. وقال لي وهو يُخرج أوراقه إنه يريد أن يقرأ لي رسالة كتبها إلى أحمد ولد عبد القادر. شاهد قبل يوم أو يومين مقابلة مع الشاعر الكبير في قناة الجزيرة، فاستعاد تلك الصور النضالية السبعينية التي يلخّصها عنوان صحيفة “صيحة المظلوم”. الرسالة التي صاغها بالفرنسية تبدأ باستشهاد هو عبارة عن ترجمة لمطلع رائعة ولد عبد القادر النضالية الشهيرة: “في الجماهيرِ تكمنُ المعجزاتُ ومن الظلمِ تولدُ الحرياتُ”.
كان محتوى الرسالة هو أن الشعر يتضمّن ضميراً أخلاقياً جمعياً هو وحده القادر على أن يقود الجماهير بما يتجاوز الحسابات السياسية. وفي ذلك جانب من اهتماماته التي كثيراً ما عبّر عنها في لقاءاتنا، أي تحييد السياسة الصغيرة، أيْ السياسة بالمعنى التقليدي المحلّي (بلتيك) وبالتالي تحييد حسابات سياسة الغُرف الضيقة عن السياسة بسين جليلة كفعلٍ يهدفُ إلى تخليص التاريخ من الجبرية والاستسلام. ومن ثمَّ كانت أنسنة السياسة وإنقاذها من نفسها من المواضيع التي تلحّ على تفكير سيدي محمد، وبشكل خاص ذلك الموضوع الذي شغلَ كثيراً الفلسفة السياسية المعاصرة، أي خطر الميول الأحادية الشمولية أو الكلّيانية لدى المجموعات السياسية التي ترى نفسَها طليعية.
-5-
في مقابسات أخرى كان يقرأ لي بعض قصائده بالعربية. كانت نصوصاً متوهجة مترعةً بقاموس التجلّي الصوفي الذي كان قاموسَه التلقائي، تتكّشف عبقريتُه الشعرية عمْقياً في سبره لمفردات الوجد الصوفي ذات الحمولة الدلالية الفلسفية الواسعة، كتلك الثنائية بين عالم الجمْع وعالم الفرْق التي أذكرُ أنها كانت تعود في كثير من نصوصه الأدبية بل حتى في نقاشاتنا ومقابساتنا البينية. كان يُسمّي تلك النصوص الوجدية باللحظة الصوفية (Le moment mystique). وكان لديه مشروع كتاب – لا أعرف إن كانت الظروف سمحتْ باكتماله أم لا – موزعٍ كما أراني على ثلاثة أجزاء سمّاها لحظات: اللحظة السياسية (le moment politique) واللحظة الشعرية (le moment poétique) واللحظة الصوفية (Le moment mystique).
-6-
عاد إلى البلد سنة 2002 أو 2003. لم ألتق به بعد ذلك إلا في أواسط فبراير سنة 2006 ونحن حينها في نواكشوط حيث جمعتْنا دعوة كريمة فاخرة من المرحوم العظيم الدكتور الشيخ ولد حرمة في بيته. كانا يرتّبان معاً لمشروعٍ سياسي وكان الأمل حينها كبيراً بوجود آفاق جديدة واعدة. وجدتُ سيدي محمد كما عهدتُه بشهامته وتأمّلاته الباصرة وعزيمته التي لا تعرف الكلل ولا الملل، وبأريحيته وإنسانيته الأصيلتين والعميقتين.
شاءت مصادفات الزمان والمكان ألّا نلتقي كثيراً في السنوات الأخيرة إلى أن كانت الصدمة الفاجعة منذ ساعات حين أبلغتُ، ويا للصدمة، برحيله، رحمه الله جلّ جلاله في أسمى جنات الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
رحم الله سيدي محمد ولد خطري، رحم الله رجل الفكر والإيمان والميدان.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.