الهجرة السرية الى افريقيا
الزمان أنفو _
ابروكسيل،ميلانو،داكار
مدة من العمل في الاذاعة بابروكسيل وتدريس القرآن الكريم لمغتربين من أصول موريتانية مغربية،كانت كافية لتحصيل مبلغ أذكر أنه كان في حدود الثلاثة ألاف اورو،هذا طبعا بعد تبذير الجزء الأكبر منه في يوميات المدينة،كان لابد من العودة للأهل للجدة رحمها الله والوالدين والاخوة والأصدقاء..
كنت قد دخلت موريتانيا مرتين عبر السنغال،الأولى كانت عبر رحلة قادتني الى ليشبونة وسمحت لي بالتسكع ساعات على “فنيدادروما” حيث يتجول الغينيون حاملين حقائب وجرب جلدية وينتظمون أحيانا في حلق لممارسة الشعوذة ومايقولون إنه استحضار الأرواح..شوارع ليشبونة عريضة وتختلف كثيرا عن ابروكسيل، حركة البناء نشطة فدخول فضاء “الشينغن” جلب مساعدات بغرض الاعمار،أما الوجوه فمتوسطية واضحة.
الرحلة تأخذك لاحقا الى داكار بثمن زهيد لأنك تسافر على أجنحة برتغالية، ،وبنفس الثمن تقلك “آل ايطاليا” عبر ميلانو في توقف يدوم خمس ساعات،لكن في العودة ستبقى لساعة واحدة مايعني أنك لن تخرج من المطار حتى لاتفقد طائرتك.سافرت مرة على الرحلتين.
اخترت هذه المرة الخطوط الايطالية،قضيت ساعات من التجوال في المنطقة المحاذية ل”ميلان سانترال استسيون”،وجوه ايطالية طبيعية تماما كأنني في “الكود فاثر” أو العراب،لا أثر ل “آل باتشيينو” ولا ل”دينيرو”،ربما من بين هؤلاء من عرف “باولو روسي” ملهمي الكروي..لاشيئ ألهمني خلال الساعات هذه فأسوأ انطباع تخزنه عن مدينة هو ذلك الذي تمنحه فرصة يوم واحد للتشكل، خاصة حين تكون جاهلا بما يرطن به القوم،أفقت منذ صغري على ايقاع تتكرر بعده لازمة تقول ” افليسيتا” في أغنية وحيدة كان التلفزيون الموريتاني يبثها مرتين يوميا،ومتى كبرت عرفت أنها للثنائي آلبانو ورومينا،كلماتها أنطقها وترجمتها “غوغليا” بعد سنوات من هذه السفرة.كنت أتمنى أن أزور ايطاليا لأسأل عن القاضي “انطونيو دي بييترو” ذلك الرجل الذي نذر حياته للوقوف الى جانب الحق ضد المافيا و” افورزا دي ايتاليا”..لكن من انا ؟
عدت الى “مالبينسا” في رحلة قطار دامت مايزيد قليلا على الأربعين دقيقة.في المطار جلست الى جانب بعض المسافرين السنغاليين،أحدهم يهز رِكوة يبدو أنه اشتراها لصنع القهوة في بلاد المغاوير..فتحنا تلك الأحاديث التقليدية المؤدبة التي لاتستدعي هذه المرة قذارة تجار ابكين من الموريتانيين ولا النشل الذي تشتهر به كولوبان..فنحن متحضرون نظريا.
وصلت داكار التاسعة مساء، ينتظرني أحد الأقارب ليقلني نفس الليلة الى انواكشوط،تم الختم على جوازي،وبينما أنا وقريبي ننتظر خروج الأمتعة اذا بشرطي يتقدم نحوي: سيدي اعطني الجواز
سلمته اياه،لم يفتحه ولم يتفحصه
-خذ حقيبتك ورافقني فنحن بحاجة اليك
استلمت الحقيبة وتبعته حيث أدخلني مكتب المفوضية الخاصة بالمطار فهناك يجلس ضابط مسن،أشار علي بالجلوس وبدون مقدمات:
– لايمكنك الدخول بدون تأشيرة
– – فعلت مرتين ولم يعترض معترض،فأنا أحمل جوازا أمميا يمتاز بذات مزايا جواز الدولة التي منحته، والبلجيكيون كما تعلمون لايحتاجون التأشيرة للدخول الى السنغال
– -اربح وقتك،قدم طلبك الآن ففي الغد لابد من ترحيلك ليلا في حال لم تحصل على التأشيرة،الآن يمكنك العودة الى المنطقة الدولية.
– عدت الى منطقة العبور،ولمدة ساعات لم يزرني زائر، وبما أنني منهك وخائر القوى حجزت غرفة متواضعة في فندق العبور المتواضع هو الآخر،استلقيت وغيرت أسمالي وطلبت العشاء فأخبروني بأن الطلبية تأتي من خارج المطار وان أحد العمال سيتولى المهمة وبمقابل..طبعا، -أدرك ذلك.
شطيرة بورغر بنكهة افريقية،أذكر انه في وقت متأخر زارني قريبي الشيخ أحمد بدي حفظه الله وهو أحد كبار رجال الأعمال في السنغال وله صلات مهمة بالرئيس والساسة هناك،طمأنني الى أنه سيسوي الأمر متى فتحت الادارات أبوابها،بعد خروجه جاء شرطي ووقف أمام الغرفة وتسمر دون أن يكلمني
– ماخطبك؟
– لاشيئ أنا هنا معك حتى يتم حل مشكلتك
هي الحراسة اذا، وفي منطقة دولية!!!لابد أن القضية معقدة
في الصباح الباكر زارني الشيخ احمد بدي للمرة الأخيرة ومعه بعض الأقارب وهاشم سيدي سالم الصحافي اليوم بقناة “بين اسبورت”..
اخبرني هاشم لاحقا انهم اعتقلوه امام المطار ظنا منهم انه انا.
في نهاية اللقاء أخبرني الشيخ أحمد بأن الأمر معقد وانه فهم من السنغاليين أن ثمة سرا خطيرا وكبيرا ووعد بمتابعة الموضوع وقال المهم انهم لن يتصرفوا ضدك أكثر من هذا.
حين غادر الجمع دخلت الغرفة وحاولت البحث في المسألة فلم يتضح لي أي أمر،بقيت طيلة النهار في حيرة من أمري،الى ان توصلت الى أنهم سيسلمونني لأمن انواكشوط وغن تأخرالطائرة القادمة من هناك هو الذي جعلهم يرتبكون ويكذبون بشأن التأشيرة..هكذا بدا لي الأمر وأنا على سرير تلك الغرفة البائسة في “النزل الاسباني” كما يقال.
الساعة السابعة مساء، دخل علي الضابط المسن يحمل طردا بني اللون ومعه شرطيان
– السيد محمودي،نحن ملزمون بتسفييرك كما أننا ملزمون للأسف بوضع هذا القيد في يديك الى أن تكون في الطائرة.
لم ينتظر الشرطي ردة فعلي ولاماسيصدر عني،وضع قيدا في معصمي وآخر في معصمه وقال: الآن ستكون مؤدبا ولاتتحرك لأن كل حركة ستجعل القيد يضيق أكثر ..اوكى؟
– أوكى طبعا
أخذ الشرطي الآخر الطرد من الضابط وسار أمامنا،وبدون اجراءات وجدنا أنفسنا جالسين في منطقة المغادرة..الرحلة متوجهة الى ميلانو كما هو مكتوب على اللوحة الالكترونية.. شرطي عن يميني وآخر عن شمالي، ويتحدثان عني دون أن أعلق،هل هو الغضب! الوجوم! الخوف! الحزن،لا أعرف طبيعة ذلك الشعور، ففي الخلاصة وفي أحسن الأحوال لن أكون الى جانب أكثر من أهتم لهم في هذا العالم وربما لن أكون أبدا،الركاب ينظرون الي بخوف،عيونهم تفضح ذلك الهلع من المغاربيين،لاشك انه ارهابي!
الشرطيان كانا ذكيين ونزعا منزعا آخر
– الم أقل لك إن مكر البيظان عابر للقارات..
– -ومن قال لك إنه زور الجواز،لقد سمعت الضابط يتحدث عن أن الجواز طبيعي
– ذاك كلام فقط الأمر معقد،فيه تزوير،وفيه انقلاب وسياسة وأشياء اخرى
يلتفت الي: ولماذا أنت حزين،انها اول مرة أشاهد فيها افريقيا يرحل الى أوروبا ولايريد ذلك.
فكرت فعلا في هذه الجزئية العجيبة والمفارقة التي لاتتكرر عادة..شخص يهاجر سرا الى افريقيا ثم يتم ضبطه ويعاد الى اوروبا..لو استغلت افريقيا ثرواتها وقضت على لصوصها لأصبح هذا ممكن التحقق.
بعدما ركب الجميع صعد الشرطي الأول ثم عاد ويداه فارغتان،أين حقيبتي؟
سألته
– ستجدها أمامك مع وثائقك
وقف الشرطي فوقفت،و تقدم فتقدمت معه كظله، صعدت معه الى الطائرة،أدخلني من الباب الخلفي،أجلسني على آخر مقعد،ثم جلست الى جانبي سيدة اوروبية،كأنها كانت تنتظر جلوسي،وضعت القيد في يدها، وقبل أن أحدد من وماذا ولماذا،نزعت القيد من يده ووضعته في يدها صبت فقرات متصلة من كلام ايطالي فهمت من وقعه وحركات عينيها انه مهم وخطير لأن اغلب الركاب التفتوا الى الخلف قبل ان تعتذر لهم
– اسكوزا اسكوزا
محمدالأمين محمودي