انسحاب ثلاثة أحزاب من الموالاة لتسهيل إجراء الانتخابات.. (تحليل)
اهتم الصحفيون والمحللون السياسيون الموريتانيون مؤخرا بخبر انسحاب ثلاثة أحزاب (اللقاء الوطني/ التحالف الوطني لاحقا) من الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد عبد العزيز والتحاقها بركب المعارضة.
وذهب أغلب المتابعين إلى اعتبار هذا التحول بمثابة “ضربة سياسية لائتلاف الأغلبية”، و”نقطة كسب جديدة لقوى المعارضة السياسية”؛ وذلك في ظرف وطني يتسم بالحساسية والدقة والتباس الرؤية حول مصير الانتخابات المؤجلة ومدى قدرة “مبادرة الرئيس مسعود” على تجاوز الوضع القائم وجر مختلف الأطراف للوقوف على أرضية مشتركة تسمح لهم جميعا بالمشاركة في إجراء تلك الانتخابات والقبول بها وبما ستسفر عنه من نتائج.
ولا شك أن الربط بين ذلك الانسحاب والوضع السياسي الداخلي المتسم بالتوتر عموما؛ هو ربط في محله؛ لكنه ربط يحتاج لقراءة غير سطحية لدلالات الحدث وما تلاه من تطورات كان أبرزها الإعلان عن رد وصف بالإيجابي من منسقية المعارضة على مبادرة مسعود بعد طول صمت وتلكؤ ورفض..
إن أي اعتقاد بأن انسحاب أحزاب: التجديد وعادل وحركة إعادة البناء؛ من الأغلبية هو ضربة للنظام أو مكسب للمعارضة؛ سيكون استنتاجا متسرعا وخاطئا في ما نعتقد؛ حيث إن المعطيات الجلية تؤشر إلى أن تحول هذا القطب الثلاثي إلى المعارضة هو تحول لصالح النظام؛ أو على الأقل هو في غير مصلحة منسقية المعارضة، ولكنه بالقطع سيكون في صالح إجراء الانتخابات البرلمانية والبلدية، ووضع حد لتأجيل مواعيد إجرائها المتواصل.
ذلكم أنه منذ أعلنت اللجنة المستقلة عن موعد إجراء الانتخابات في نهاية السنة الجارية؛ أصبح واضحا أن التحدي الأكبر الذي سيواجه إنجاز هذا الاستحقاق الانتخابي هو مستوى وحجم قبول مختلف الأطراف السياسية للمشاركة فيه؛ حيث بدا أن هنالك ثلاثة مواقف موزعة على ثلاثة أقطاب؛ وذلك على النحو التالي:
1) موقف النظام وأغلبيته الداعمة؛ وهو موقف يقوم على احترام كل ما تقرره تلك اللجنة؛ إضافة لمطالب هذا القطب المعروفة بضرورة الإسراع في إجراء الانتخابات المؤجلة..
2) موقف أحزاب المعاهدة من أجل التناوب، أو ما يسميه البعض ب”المعارضة المحاورة”، وهذه الأحزاب باعتبارها شريكا في الحوار السياسي الأخير؛ ظلت وما زالت تعتبر نفسها ملزمة وملتزمة بكل نتائجه بما فيها “اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات” وما تقرره بخصوص ظروف ومواعيد وآليات إجراء تلك الانتخابات، وبالتالي فمن المؤكد أنها لن تتردد في المشاركة في أي استحقاق انتخابي تقرره تلك اللجنة.
3) منسقية المعارضة الديموقراطية، وهو قطب سياسي معروف أنه لا يعترف بالنظام الذي يطالب برحيله؛ كما لا يعترف بالحوار الذي لم يكن طرفا فيه؛ وبالتالي فإن رفضه المشاركة في أي انتخابات تدعو لها لجنة “مستقلة” لم يكن له دور في تشكيلها، سيكون موقفا منسجما تماما مع مجمل مواقفه تلك..
إن معنى ذلك ببساطة أن النظام وكل القوى المتحمسة لإجراء الانتخابات والمشاركة فيها تدرك تماما أن أكبر تحدي يواجهها هو ما بدا شبه مؤكد من احتمال مقاطعة منسقية المعارضة لتلك الاستحقاقات، وما يستتبع ذلك من ظهورها بمظهر الانتخابات غير التوافقية والفاقدة لرضا جناح كبير من أجنحة المعادلة السياسية الوطنية.
وهذا يعني (لا ريب) أن النظام وشركاءه لا شك درسوا كيفية التعامل مع هذا الاحتمال والحد من تداعياته وآثاره السلبية على العملية الانتخابية المزمع تنظيمها قريبا، ونعتقد أن تحول ثلاثة أحزاب من الموالاة إلى المعارضة له على الأقل هدفان غير معلنين هما:
– الأول تقوية جبهة أحزاب “المعاهدة من أجل التناوب” وزيادة حجمها وقيمتها العددية بالمقارنة مع قطب المنسقية المطالبة برحيل النظام والرافضة للتعاطي معه سياسيا وديموقراطيا.
– أما الثاني فهو إظهار قوى المعارضة بمظهر المنقسم على نفسه؛ حيث لا شك أن ستة أحزاب معارضة (المعاهدة + التحالف الوطني) لن تتردد في المشاركة في الانتخابات ولن تقبل بتبني شعار الرحيل مهما كانت درجة معارضتها للنظام؛ وهو ما من شأنه أن يقلل من أهمية مقاطعة المنسقية في ظل مشاركة كل التشكيلات الموالية وما يمثل نصف الخزان الانتخابي للمعارضة أو يزيد..
دليلنا على هذا الاستنتاج هو ذات الدليل الذي رأى فيه غيرنا دليلا على عكس ما ذهبنا إليه.!!
أي ما رافق ذلك الانسحاب من تصعيد ظاهري بين الأحزاب المنسحبة والنظام؛ وهو تصعيد تمثلت أوضح تجلياته في الاستقالة الجماعية لعدد من قيادات حزب “عادل”، ثم المسارعة بإعادة فتح ملف “الأرز الفاسد” واستدعاء الوزير الأول السابق يحيى ولد الوقف (رئيس حزب عادل) للمثول أمام قاضي التحقيق مجددا، وانتهاء بتعيين واحد من أبرز الأطر التي انسحبت من الحزب اعتراضا على تحوله نحو المعارضة..
الكثيرون رأوا في كل هذا دليلا على جدية معارضة الحزب للنظام، وعلى مدى سخط النظام على الحزب المتخلي لتوه عن دعمه ومؤازرته.
لكننا نعتقد أن هذا هو الاعتقاد المراد أن يصل إليه المهتمون بالشأن السياسي الوطني (أي الاعتقاد بجدية تحول الأحزاب الثلاثة إلى صف المعارضة)، ويراد لمنسقية المعارضة تحديدا أن تعتقده حتى يسهل على هذه الأحزاب “احتلال مكانة لائقة” داخل صفوف المعارضة تسمح لها بأن يكون لها رأي مسموع قد يساعد مستقبلا في الحد من “تطرف” المنسقية وجرها للمشاركة في الانتخابات المقبلة نزولا عند رغبة حلفائها الجدد؛ فضلا عن رغبة أحزاب المعاهدة..!!
وإلا فأي درجة من الغباء يكون عليها نظام يسارع ببعث ملف قضائي ميت ومتجاوز لمضايقة شخصية سياسية تخلت لتوها عن مناصرته؟؟!..
وثم؛ إن كان استهداف ولد الوقف عقابا له على موقفه الجديد هو استهداف جدي؛ فلم هذه السرعة في طي الملف.. كما كانت السرعة في فتحه؟!!
على كل حال؛ نعتقد أن منسقية المعارضة الديموقراطية قد توصلت لذات الاستنتاج الذي توصلنا له؛ وهو ما يؤكده ردها الإيجابي على مبادرة مسعود..
لقد تعودت منسقية المعارضة الديموقراطية على تلقف كل حدث تحسبه في غير صالح النظام لتجعل منه مناسبة لزيادة حدة تصعيدها تجاهه، ولتوسيع مساحة الخرق الفاصلة بينها وبينه، وربما كان هذا النهج الثابت في تعاطي المنسقية مع مختلف الأحداث الوطنية (وحتى الإقليمية) هو ما جعلها تتبنى “مطلب الرحيل” فجأة وتحشر نفسها في زاوية ضيقة؛ نعتقد أنها مازالت تتلمس طرق الخروج من مأزقها.
وقد كان منطقيا ومفهوما؛ بل وضروريا أن يشكل انسحاب ثلاثة أحزاب من الموالاة مناسبة وفرصة نادرة لجعل منسقية المعارضة تصبح أكثر شراسة في معارضتها للنظام، وأشد تشبثا بمطلب رحيله؛ بل “ترحيله”.. كيف لا وقد بدأت المعارضة تأتي من داخل ائتلافه الداعم؟!
لكن الذي حدث كان العكس تماما؛ حيث ردت المنسقية على هذا التحول بإعلان ترحيبها بمبادرة مسعود واستعدادها للتعاطي معها إيجابيا؛ رغم أنه ليس في تلك المبادرة ما يقبل بفكرة الرحيل، أو أي فكرة تخرج عن نطاق الممارسة الدستورية والتعاطي الديموقراطي مع الشأن السياسي عموما.. وهو ما يؤشر على تطور نوعي في العقلية السياسية للمنسقية، وعلى توجه جديد أكثر واقعية وإدراكا للحقائق والوقائع السياسية الثابتة التي ظل النظام يحسن التعامل معها في كل مناسبة؛ بينما ظلت المنسقية تدفع ثمن محاولات القفز عليها مزيدا من الإرباك، والحيرة، والعزلة، والإخفاق.
لا يعني هذا أننا نعتقد (ضرورة) بوجود صفقة بين النظام والأحزاب المنسحبة عنه؛ ولكنه يعني بالقطع أننا ندرك جيدا (وكذلك المنسقية) أن هذه الأحزاب ستكون في معارضتها للنظام أقرب إلى جناح المعاهدة من أجل التناوب، وأنه لا يتوقع مقاطعتها للانتخابات القادمة، وأنه لن يكون في صالح المنسقية مقاطعة انتخابات تشارك فيها أحزاب الموالاة وستة أحزاب معارضة أو تزيد..
نعتقد أيضا أن النظام يدرك هذه الحقائق؛ وهو ما جعله يمتنع عن الرد على مبادرة مسعود حتى اللحظة؛ انطلاقا من شعوره بأنه يقف على أرض صلبة؛ وأن المنسقية تقف على أرض رخوة لن تساعدها في التحرك بالحرية التي تريد في أي اتجاه تريد..
لكنه إذا كان النظام قد تعود على اكتساب كل أوراق اللعبة السياسية مع المعارضة منذ “اتفاق داكار” وحتى الآن؛ فإن منسقية المعارضة تبدو حريصة على استخدام ورقة أخرى يبدو أنها متفوقة في اللعب بها على النظام حتى اللحظة، ألا وهي ورقة الإعلام الذي حرره النظام ليكون ضده بشكل عام!!..
صحيح أن أغلب الدعاية الإعلامية ضد النظام ورئيسه كثيرا ما ينكشف زيفها بسرعة جعلت الكثيرين غير متحمسين لتصديقها وحتى الاهتمام بها؛ غير أن حجم التدفق الإعلامي والدعائي الذي تمارسه قوى عديدة معارضة سيكون من شأنه (مع مرور الوقت) أن ينجح في خلق رأي عام إن لم يكن معارضا للنظام؛ فلا أقل من أن يكون مرتابا فيه، وربما يكون النظام قد أدرك هذه الحقيقة متأخرا، وقد يكون تعيين وزير للإعلام من بين أنشط قياداته السياسية وأكفئها هو محاولة لمعالجة هذا التأخر..
والخلاصة أن موريتانيا تقف الآن على أعتاب مرحلة جديدة سيتخذ فيها الصراع السياسي شكلا أكثر عقلانية وهدوءا، لكنه أكثر تأثيرا بفعل الأداة التي ستكون أكثر فعالية فيه وهي سلاح الإعلام الذي لا يعادل مضاءه وتأثيره الكبير إلا تكلفته الباهظة ماديا ونفسيا، وهي تكلفة يمكن للمتخاصمين تجنب دفعها بتغليب المصلحة العليا للمجتمع والدولة على مصالحهما السياسية التي لا تخلو في كثير منها من الأنانية والاعتبارات الشخصية التي لا مصلحة عامة ترجى من ورائها.. وذلك ما نرجوا صادقين أن يوفق الله ساستنا فيه ويهديهم إليه.. وهو وليه والقادر عليه..
محفوظ الحنفي