من زاوية المرحوم حبيب محفوظ
نص ساخر كتبه الفقيد في نقد تدخل البنك الدولي في بلادنا
كتب الراحل حبيب ولد محفوظ:
كان رجل من أولاد ديمان يعاني ألما في عينه اليمنى وكان الألم شديداً جداُ، ومن المعروف انه يجب أن يكون الم عين “الديماني” شديدا جداً جداً حتى يقال إنه يجد ألماً في عينه. ومع ذلك فهذا الألم الشديد في العين لم يزعج صاحبنا كثيراً إذ أنه كان يقول في قرارة نفسه لا بأس مادامت الأمور عند هذا الحد، لأنها يمكن أن تكون أسوأ بكثير.
وفي تلك الأثناء مر به راكب على جمل، كان الراكب “جيكي” فظيع، والجيكي هو شخص من تلك الدهماء الغريبة من غير الديمانيين يهرج ويمرج هنا وهناك لأتفه الأسباب ويحشر انفه في كل شيء، وقد تفطن إلى أن الديماني لديه ألم في العين. ومن المعروف انه لا ينبغي التفطن إلى أي شيء عند الديمانيين. لكن الراكب لم يكن على أية حال من اولاد ديمان وعليه فله أن يفعل ما يروق له، ولهذا انطلق في الحديث عن “رجل ممتاز وصديق ممتاز ماهر في علاج العيون عموماً والعيون اليمنى على وجه الخصوص”، أصر الرجل وتمادى حتى أصغى إليه صاحبنا ولم يزل به حتى اقتنع بضرورة زيارة عاجلة لطبيب العيون اليمنى، وليست الزيارة بداعي أن عينه تقلقه أكثر من المعتاد بل فقط تطييباُ لخاطر هذا الراكب الذي يرهق نفسه ليجلب زبوناُ لصديقه.
حزم صاحبنا حقائبه أي بمعنى انه ادخل ما معه من متاع في جرابه وطلب من صديقه الجديد أن يردفه معه إلى أن يصل إلى بئر “تمبيعل”، ومن هناك سيذهب لوحده إلى الطبيب. وافق الراكب و حمله خلفه على جمله المضطرب جداً إلى “تمبيعل” وكان صاحبنا يعاني آلاما تزيد باستمرار، ومن هناك مشى لوحده نصف يوم في اتجاه الشمال الغربي إلى أن وصل إلى الحي الذي يقطن فيه الطبيب. كان الطبيب بالفعل رجلا ممتازا وفائق الحماس وفائق الحنكة وفائق النشاط وفائق الفعالية، فعندما رأى صاحبنا متوجهاً إلى خيمته فهم انه مريض يعاني من علة في عينه وانه يقصده للعلاج فبادر بإيقاد نار كبيرة وقذف فيها بما عنده من أدوات و سكاكين وآلات حادة وقضبان لوضع العلامات على قطعان الماشية.
ما كاد المريض يقول “السلام عليكم” حتى ارتمى الطبيب الماهر جداً في أحضانه وعانقه أربع مرات وأضجعه بالقوة على جلد يستعمله للصلاة وقال له: “إن الأمر في غاية البساطة ولن يستغرق أكثر من طرفة عين وسينتهي بسرعة، وحتى بالأمس وحده عالجت 14 من “ادغماجك” و2 من “اجمان” و157 من “ادوعل”، أي ما مجموعه 210 أشخاص”.. قال المريض لنفسه: “قد يكون هذا السيد ماهراً في طبه لكنه لا يبدو موهوباً في الحساب الذهني”. وما كاد ينتظر ثانية واحدة حتى عاد إليه الطبيب يحمل السكين في يده واقتلع عينه اليسرى وكوى مكانها بالنار، عندها غاب صاحب “اولاد ديمان” عن الوعي. بعد برهة استفاق المسكين وحمد الله بصوت مرتفع، أمره الطبيب الفائق النشاط أن يذهب ليرتاح ويعود من الغد في الصباح الباكر. خرج المريض بعد أن فقد عينه اليسرى التي لم تؤلمه أبدا وبات ليلة مريحة في “تمبيعل”. وفي الصباح الباكر توجه عابرا الكثبان إلى ما صار يدعوه بينه وبين نفسه ب “المحسن”. المحسن كما يقول لنفسه: ” لأنه كان بإمكانه بعد أن فقأ عيني السليمة أن يفقأ العين الأخرى ويقطع لساني وأذني وان يذبحني ويقطع رجلي لكنه لم يفعل ذلك ابدأ وإنما أراحني من إحدى عيني، إنه بالفعل رجل ممتاز” .
إن لأولاد ديمان نظرة تعتمد النسبية إلى الأشياء بالإضافة إلى دم بارد لا نظير له، استقبل الطبيب مريضه بحرارة بالغة وقبله مرتين على وجنتيه ونفش له شعر رأسه وربت على ظهره وسأله إذا كان قد أكل طعاماً وكيف أصبحت عينه. تجاهل صاحبنا السؤال الأول (لأن اولاد ديمان لا يأكلون وإلا فإنهم يأكلون القليل جداً) وأجابه أن العين (لا يستعمل أولاد ديمان ضمير الملك) بخير، أعني العين اليسرى التي عالجتم، أما العين اليمنى التي كان يقال أن بها ألماً ما يزال بها شيء من ألم”.
بادر الطبيب بالقول: لكن اليست عينك المريضة هي التي عالجت بالأمس؟
أجابه المريض: اعتقد أنها ربما لا تكون هي؟ لكن على كل حال لقد كان الخطأ طفيفاً وربما سببه قصر المسافة بين العينين
قال له الطبيب: لكن لماذا لم تقل لي؟
رد عليه المريض: لقد كنتم آنذاك في شغل ولم أرد إزعاجكم
قال الطبيب: اذا علينا الآن معالجة العين الأخرى
رد المريض: ذلك ما أراه ما دام هو الرأي عندكم
وهكذا تم فقؤ العين الأخرى على الفور، وكيها بالنار
حاليا يقوم الثنائي البنك الدولي وموريتانيا بإعادة القصة نفسها ونحن الان نعيش مرحلة العين الاولى
إحدى حلقات زاوية المرحوم حبيب ولد محفوظ
مترجمة من الطبعة الفرنسية لجريدة القلم ، أعاد نشرها الأستاذ عبدالله اتشاغ المختار في ذكرى رحيل فقيد الصحافة رحمه الله تعالى وأغدق عليه شآبيب رحمته.