إمارة الشعر .. وإكراهات واقع القصيدة العربية/ د. الشيخ ولد سيدي عبد الله
عندما يكون الحديث مرتبطا بالشعر والإبداع الإنساني ككل ، فيجب الإيمان بداءة بان الأرضية غير ثابتة ، فالشعر بطبيعته الشعورية يميل إلى التمرد والى البحث عن البيئات الجامدة والأراضي العذراء ليحركها ، ويخلق من غبارها عالما ، هو بكل بساطة ما عبر عنه باشلار بالقول انه حتى محارة صغيرة بإمكانها أن تكون عالما شعريا فيه من الجمالية ما لا يحويه الكون بأسره.
يتحرك الشعر ، فيتحرك النقد .. نقول مع علماء القرن الرابع الهجري : ” انه كلام موزون مقفى دال على معني ” .. ثم نصمت .. وتصمت كذلك الحضارة العربية ردحا من الزمن .. وفي لحظة حماسة غير بريئة يولد جيل جديد .. رفض الصمت ولكنه كان اوديبيا بامتياز .. كان يعشق الماضي .. فأراد أن تكون النهضة قائمة على الإيمان المطلق بعبقر وشياطينه .. وبقي الشعر كما كان (كلاما موزونا مقفى دالا على معنى) .. بيد أن عوامل التجاوز كانت تنخر جسم التقليد من الداخل .. لقد بقي الشعر شعرا ولكن من يجسر على تعريفه في عالمنا اليوم .. هل الوزن كاف وهل التقفية كافية ؟. هل من الضروري أن يكون له معنى ؟ ألا تتناقض الصورة المادية التي يقبلها العقل في النص الشعري مع التخييل ؟ . لقد فرض الشعر جنونه على كل شيء ، هل مازال الشاعر نبيا كما كان منذ ابن حذام وحتى القرن السادس الهجري ؟. إننا اليوم أمام قفزة شهدها الخطاب الشعري العربي ، فبعد أن كان المتلقي مشاركا في كتابة القصيدة قديما ، أضحى اليوم هو أمير المعنى ، ذلك أن الجميع اتفق على (موت المؤلف ) منذ نادت بذلك مجلة (تيل كيل) وبالتحديد في مقال رولان بارت الذي يحمل العنوان نفسه عام 1968 . لقد عودتنا القصيدة العربية على أن شكلها خاضع لثورات تأكل أبناءها في نهاية المطاف ، ولذلك فليس غريبا أن تكون هناك عدة مدارس شعرية انفردت كل منها بحقبة زمية معينة ، ففي عشرينيات القرن المنصرم سيطرت الكلاسيكية على الذائقة العربية ، وكان بإمكان شوقي أن يتصرف في إمارته كما يشاء ، وكان يقيس التجديد على هواه ، فيكفي بالنسبة له أن يتغزل بمدينة أو قرية وان يجعل منها فتاة بكل ما تحمله الكلمة من دلالة ايروسية حتى يكون ذلك مروقا على (عمود الشعر) وتجديدا غائيا : يا جارةَ الوادي ، طَرِبْتُ وعادني ما يشبهُ الأَحلامَ من ذكراك مَثَّلْتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى والذكرياتُ صَدَى السنينَ الحاكي ولقد مررْتُ على الرياض برَبْوَةٍ غَنَّاءَ كنتُ حِيالَها أَلقاك ضحِكَتْ إِليَّ وجُوهها وعيونُها ووجدْتُ في أَنفاسها ريّاك لم أدر ما طِيبُ العِناقِ على الهوى حتى ترفَّق ساعدي فطواك وتأَوَّدَتْ أَعطافُ بانِك في يدي واحمرّ من خَفَرَيْهما خدّاك ودخَلْتُ في ليلين : فَرْعِك والُّدجى ولثمتُ كالصّبح المنوِّرِ فاكِ ووجدْتُ في كُنْهِ الجوانحِ نَشْوَةً من طيب فيك ، ومن سُلاف لَمَاك وتعطَّلَتْ لغةُ الكلامِ وخاطبَتْ عَيْنَىَّ في لغة الهوى عيناك ومَحَوْتُ كلَّ لُبانةٍ من خاطري ونَسِيتُ كلَّ تَعاتُبٍ وتشاكي لا أمسِ من عمرِ الزمان ولا غَدٌ جُمِع الزمانُ فكان يومَ رِضاك وكان الأخطل الصغير (بشارة الخوري) مجددا لسبب بسيط وهو انه تجاسر على المقدس في تلك الأيام التي تلملم فيها الأمة العربية والإسلامية جراحها بعد ظلمة حالكة في دياجير الانحطاط : ولو أن النعيــم كـــــان جزائي في جــهادي والــنـار كانت جزاها لأتيت الإلـهَ زحفــاً ، وعفــرت جـبـيـني كي أستـميـل الإلـــها وملأت السماء شكوى غــــرامي فشـغلـت الأبرار عـن تـقـــواها ومشى الحب في الملائـك حـــتى خـاف جبريــل منهـم عقبــاهـا قلت : يـــا رب أي ذنب جنتــه أي ذنب ؟ لـقـد ظلمت صبـاهـــا أنت ذوبت في محاجرها السـحــر ورصعْت بـالآلـئ فـــــاهــا أنت عسلت ثغـرهــا ، فـقلـوب الناس نحل أكمامهــا شفـتـــاهـا أنت من لحظهـا شهرت حسامــاً فـبـراءُ مـن الـــدماءِ يـــداها رحمة ربي ،لسـت أسأل عــدلاً رب خذني إن أخطـأت بــخـطـاها دع سليـمي تكونُ حيث تــراني أو فـدعني أكـون حـيــث أراهـا ثم ذبلت الكلاسيكية في المركز وظلت الأطراف تتعاطى نخبها ، فكان الجواهري والبردوني على العهد أحرارا . وكان ذلك عندما بدأت القصيدة العربية تتخلى عن بعض كبريائها لصالح النظريات النقدية الرومانسية والرمزية القادمة من مدينتي النور والضباب ، فطفقت الرومانسية تحطم ما أسمته بأصنام الجمود والتحجر ، مقدسة الخيال والتهويم في عالم اللامعقول ، واستطاعت إقناع المتلقي العربي المهووس بحديث العواطف بان (الأرض برتقالة زرقاء) وبان لا مانع أن نقول ونغني مع إبراهيم ناجي : أَيْنَ مِنْ عَيْني حَبِيبٌ سَاحِرٌ فِيْهِ نُبْلٌ وَجَلاَلٌ وَحَيَاءْ وَاثِقُ الخُطْوَةِ يَمْشي مَلِكاً ظَالِمُ الحُسْنِ شَهِيُّ الكِبْرِيَاءْ عَبِقُ السِّحْرِ كَأَنْفَاسِ الرُّبَى سَاهِمُ الطَّرْفِ كَأَحْلاَمِ المَسَاءْ مُشْرِقُ الطَّلْعَةِ في مَنْطِقِهِ لُغَةُ النُّورِ وَتَعْبِيْرُ السَّمَاءْ وكانت الرومانسية يومها تعيش في صراع مع القصيدة الرمزية التي بدأت تقتطع لها من خارطة التلقي العربي جزء هاما خصوصا مع أصحاب مجلة شعر ، والكرمل وحتى ابوللو التي اعتبرناها في أدبياتنا التربوية مجلة رومانسية رغم أنها كانت تنشر للجميع بدء بابي القاسم الشابي وانتهاء بنازك الملائكة . لقد تعمدت هذا التقديم النقدي عن مراحل تطور القصيدة العربية ، لأسباب أهمها : أولا : أن الذائقة العربية كانت تتغير بتغير أنماط التعبير الشعري ، وهذا ما يعني أن لكل مرحلة شعرية شاعرها المفضل ولغتها المطلوبة . ثانيا : انه ليس هناك مقدس في الإبداع ، مما يعني أن إيقاف عجلة الزمن في مرحلة شعرية واحدة ، أمر كذبته الحركات الشعرية العربية منذ الجاهلية وحتى اليوم . ثالثا : أن الصراع على الريادة الشعرية ليس جديدا، فلا احمد شوقي ولا العقاد ولا الأخطل الصغير متفقون على منح الريادة أو الإمارة لواحد منهم على حساب الباقين . رابعا : أن شرعية الريادة كانت تمنح من قبل جماعة تربطها علاقات شخصية ، وتتحلق حول مجلة مثل (جماعة مجلة ابوللو) و (جماعة مجلة شعر ) أو حول كتاب كما حدث مع جماعة الديوان ، وهو ما يعني أن المتلقي لم يكن مشتركا في منح تلك الشرعية بصفة مباشرة . بالعودة إلى تاريخ إمارة الشعر نجد أن ما يطرحه برنامج (أمير الشعراء) من إشكالات نقدية ، يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي ، ويتصارع فيها البناء والهدام ، هي نفسها الإشكالات التي عانت منها عملية التتويج منذ أكثر من سبعين عاما . ففي العام 1927 أقيم حفل كبير بدار الأوبرا المصرية تمت فيه مبايعة احمد شوقي أميرا للشعراء العرب وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً: بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي بشعر أمير الدولتين ورجِّعي أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطع أمير القوافي قد أتيت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي ولقد شكلت المبايعة حدثاً قومياً بامتياز. حضر الحفل الملك فؤاد ورئيس وزرائه سعد زغلول ونفر واسع من الزائرين العرب. وشاركت البحرين بإرسال نخلة صغيرة من ذهب أهداها أميرها لأمير الشعراء. وبعد عامين على رحيل شوقي أي في العام 1934 أقام شباب حزب الوفد المصري حفلا لتكريم عباس محمود العقاد بمناسبة فوز نشيده القومي ، وفي هذا الحفل تمت مبايعة العقاد بإمارة الشعر وقد كان الدكتور طه حسين حاضرا ، وطالب في كلمته الشعراء العرب بمبايعة العقاد وتتويجه . وكان هناك في لبنان وقتها من يدعيها بل من يزعم أنه وريثها الشرعي بوصية من أمير الشعراء نفسه أحمد شوقي، حيث يدعي أمين نخلة أن شوقي قد بايعه بولاية العهد بعده وذلك بقول شوقي: هَذَا أمينٌ لعهدي وقيّمُ الشّعر بَعدي فكلّ من قال شعراً في الناس عبد لعبدي كأنَّ شعر أمينٍ من نفح بان ورند أو من عناق التصابي وقرع خدّ بخدّ أو من حديث ابن هاني يعيد فيه ويبدي وعندما بويع شوقي بإمارة الشعر حاول بعض المتذمرين أن يسخروا من ذلك اللقب ومن صاحبه فأقاموا احتفالاً لمبايعة أخرى على هواهم, ورأوا أن يؤمروا أميراً للشعراء يختارونه هم, ووجدوه في شخصية ( حسين محمد ) وهو رجل بسيط محب للأدب يعمل في دار الكتب المصرية آنذاك, ويلقب بالبرنس . وأقيم الحفل في ليلة من ليالي رمضان, والتف جمع من هؤلاء الشعراء حول البرنس الجالس على كرسي إمارة الشعر, يمطرونه بمدائحهم ومن هؤلاء الشاعر الفكه حسين شفيق الذي عُرف بشعره الحلمنتيشي فقال فيه: يا حماة القريض حول البرنس أصبح الشعر دولة ذات كرسي وهل الحكم والإمارة إلا لبرنس يضحي برأي ويمسي يقرض الشعر مثلما يقرض الفأر حبالاً قد فتلت من دمقس كان من قبله القريض بجلبابٍ فأضحى ببنطلون وجرس أيها الشاعر الكبير رضيناك أميراً, فكنه تفديك نفسي ثم تداعي بعض المثقفين فأقاموا حفلا لإعلان صلاح عبد الصبور الحداثي أميراً للشعراء لكن صلاح لم يحضر مفشلاً سعيهم. وهكذا لم يمر تتويج شوقي مر الكرام فقد رفضه جل شعراء ونقاد ما يدعى في علم اجتماع الثقافة ب (الأطراف) أو (الهوامش) وهما منطقتا الخليج العربي والمغرب العربي ، فقد اعتبر شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا انه حقيق بالإمارة لو سعفته عوامل الشهرة التي مهدت الطريق أمام شوقي لاعتلاء هذه الإمارة ، يقول : ليس الشمال بمثــل شوقي عاجزا لـو أن في بعـض النفوس سخاءَ إن الجزائــر كــالكنانة حرة تلـد الرجال وتنجــب العظماء نشـأ الأمير مــع الأمير منعمـا بين الــرياض يسـاجـل الورقاء ونشأت مقصوص الجناح معذبـا أقضـي الحيـاة مضاضـة وعناء لو ذقت من كاس النعيم صُبابــة لغـدوت أحـمل للقريـض لواء مـا اليأس في طلب العلا من شيمتي إنــي أعـد القانطـين إماء لا يـأس في هذا الوجود فإنــني لا أنثـــني أو أبلغ الجـوزاء أما الناقد الإماراتي احمد بن علي لعويس الملقب بالمقداد فقد كتب في احد أعداد مجلة (صوت البحرين) الصادرة عام 1950 مقالا بعنوان : ” اسقطوا شوقي عن إمارة الشعر” جاء فيه : ” مازلنا نطالع في أمهات الكتب والمجلات والصحف الناطقة بالضاد في العالم، وحتى في صحافة المهاجرين العرب في أميركا لقب «أمير الشعراء.. شوقي» سواء في حديث الشعر، أو في سياق النثر المجرد من اللغة الموسيقية. وها قد بلغ هذا (اللقب) الفضفاض المضفى على المغفور له احمد شوقي (بك!) من العمر عتيا، وشهده أميره في حياته واستراح، وما انفك الرفقه المباركون إياه يهزجون حتى اليوم. لا ندري سر هذا العناد الملح في إقامة (الإمارات) في دولة الشعر، التي لا يعنيها مطلقاً، أمير يختال في أفنائها. ولا يضيرها زعيم من زعامات الكلاسيكية الميتة في أكنافها .إن احمد شوقي ـ مع تقديرنا له كشاعر كبير! لا يصلح إثباتا للواقع ـ وان هيأ الجو التمثيلي الروائي الشعري.. أن يكون أميرا للشعراء! ولن ينفع هذا الوسام المذهب إلا من أضفاه عليه رياء، مجاملة وتضليلا. إن احمد شوقي ـ ونرجو ألا ينذهل المغفلون! ـ لا يستحق لقب «عريف» في دولة الشعر الفني فما كان احمد شوقي فناناً في العرف الإبداعي بالدرجة التي تؤهله، لتقبل وسام الإمارة الفنية.” لكن لقب أمير الشعراء الذي حصل عليه شوقي كان حافزا لكثير من الشعراء نحو الطموح لنيله بعده ،فهاهو محمد مهدي الجواهري يرسل باقة من شـعره إلى الدكتور طه حسين ليقرأه ويزكيه عله يرشـحه للإمارة الشاغرة. وكان ذلك من مظاهر طموح الشاعر الشاب وثقته بنفسـه. وعلّق ” الزيات ” على ذلك قائـلاً إن طه حسـين أعجب بشعر الجواهري وبقي هذا الإعجاب يتزايد حتى آخر أيام طه حسـين. وقبل سنوات قليلة خصصت مجلة العربي الكويتية عددا لإحياء ذكرى الشاعر اللبناني بشارة عبد الله الخوري- الملقب بالأخطل الصغير، وذلك بعد أربعين عاما من الغياب. وفي احد مقالات العدد أشار الشاعر والكاتب رفيق المعلوف إلى أن الكثيرين اعتبروا الأخطل الصغير ” أمير الشعراء” بعد احمد شوقي. ويذكر أن مبايعة عدد من الشعراء تمت خلال تكريم الأخطل الصغير في الرابع من يونيو عام 1961 في قاعة المهرجان الكبرى في قصر اليونسكو ببيروت تحت رعاية الرئيس اللبناني يومذاك اللواء فؤاد شهاب وحضور جمع غفير مميز من رجال الفكر والسياسة والأدب في لبنان والبلاد العربية. أما هؤلاء الشعراء فهم: صالح جودت باسم الجامعة العربية، عمر أبو ريشة باسم الجمهورية العربية المتحدة ( مصر وسوريا) محمد مهدي الجواهري باسم العراق وأمين نخلة باسم لبنان، اتفقوا على مبايعة الشاعر الأخطل الصغير بإمارة الشعر، بعد ثلاثين عاما من شغور هذا المنصب المعنوي الكبير بوفاة أمير الشعراء احمد شوقي سنة 1932. وقد بايعه الشاعر أمين نخلة بقصيدة عصماء يقول منها : أيقولون اخطل وصغير؟ أنت في دولة القوافي أمير فاسحب الذيل ما تشاء وجرر إن ملك البيان ملك كبير ولقد ظل هاجس إمارة الشعر العربي حياً مستيقظاً في نفوس الشعراء العرب. فإمارة الشعر ظهرت بشكل لفظي “أمير الشعر” قبل أكثر من ألف عام، وكان صاحب إعلان إمارة الشعر هذه هو الشاعر العباسي أبو تمام، حيث بايع الشاعر البحتري إمارة الشعر بعده: يقول صاحب الأغاني: إن أبا تمام قال للبحتري: “بلغني أن بني حُميد أعطوك مالاً جليلاً فيما مدحتهم به، فأنشدني شيئاً مما قلت فيهم. فأنشده. فقال أبو تمام: كم أعطوك على ذلك. قال: أعطوني، كذا وكذا. قال أبو تمام: والله لقد ظلموك وما أوفوك حقك. إلى أن قال: أنت والله يا بني أمير الشعراء غداً بعدي. قال البحتري: فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه وقلت له: والله لهذا القول أسرّ إلى قلبي وأقوى لنفسي مما وصلني من القوم…” . ثم إننا نجد في أدبياتنا القديمة أحاديث عن الشعر وإمارته، بل نجد كتّاباً تحت اسم “أمراء الشعر”، وكثير من النقاد العرب يعتبرون المتنبي أهم الشعراء العرب، بل هو أميرهم الأول والأخير. لكن هذا اللقب ليس حكرا على العرب وحدهم ، فنحن واجدون في أمريكا منصب : «الشاعر الرسمي» الأمريكي وهو يتخذ تسمية الشاعر المتوَّج على إمارة الشعر. أي «أمير الشعراء» بالتعبير العربي. وبصفته الرسمية هو المستشار الشعري لمكتبة الكونغرس. وهو تقليد حديث ، استحدثته مكتبة الكونغرس عام 1986. وتختار له شعراء متميزين ومجيدين. ومعيار اختيار الشاعر الفائز يعتمد على مقامه الشعري : «في سبيل رفع مستوى الوعي القومي لتحقيق تقدير أكبر لقراءة وكتابة الشعر». ومدة ولاية الشاعر المختار على إمارة الشعر الأمريكي سنة واحدة قابلة للتجديد. وتقدم المكتبة للشاعر المتوج خمسة وثلاثين ألف دولار ، ولا تطالبه بشيء مقابل ذلك سوى القيام بأمسيتين شعريتين. ولكن جرت العادة أن يتبنى الشاعر الفائز ، خلال مدة ولايته ، مشروعاً ثقافياً خاصاً به هدفه ترقية الشعر وترويجه في الحياة الأمريكية. فعلى سبيل المثال تبنى دونالد هول ، الفائز بالإمارة العام 2005 ، تنظيم أمسيات شعرية متعددة، في أنحاء الولايات المتحدة ، بالتعاون مع شاعر البلاط البريطاني آندرو موشن. وتبنى الشاعر بيلي كولينز ، أحد أمراء الشعر الأمريكي السابقين ، مشروع «شعر 180» الذي لا يزال مستمراً ، منذ سنوات ، حتى بعد انتهاء ولايته. وتبنى تد كوزر ، مشروع «الحياة الأمريكية شعراً» ، القائم على اختياره لقصيدة أمريكية ، يقدم لها بقراءة موجزة ، وينشرها ، أسبوعياً ، في عشرات الصحف الأمريكية الكبرى!. وبالعودة إلى إمارة الشعر العربي نلاحظ مما سبق أنها شهدت جدلا نقديا وجماهيريا كبيرا أيام شوقي والعقاد والأخطل الصغير ، وكلنا نعرف أن الشعر يومها يدور في فلك التقليدية وبدايات المد الرومانسي ، أي أن مقاييس الإجادة الشعرية لم تكن معقدة لندرة الأشكال والأجناس . فما بالك بها في عصرنا الراهن حيث تعددت الأشكال الشعرية ، وتمايزت الرؤى النقدية ، وتعايشت الأطر الفنية التي كان من سابع المستحيلات تواجدها في إطار إبداعي واحد ، فدعونا في عجالة نلقي الضوء على واقعنا الشعري الراهن ، لنكون على بينة من أحكامنا النقدية على برنامج أمير الشعراء . عندما صرخ الشاعر الفرنسي بول ريشار في وجه العدم الوجودي قائلا : ” ما من طير يتحمس للغناء في غابة أسئلة ” ، كان يحاول أن يتحرر من ثقل الإجابة على سؤال قديم جديد ، وهو : ” ما الشعر؟ ” .. سؤال يبدو انه سيظل محلقا في سماوات الكلمة ، عصيا على الخضوع لأي لغة ، ومع ذلك رضي الجميع سواء أولئك الذين اثروا البقاء في الجمهورية الأفلاطونية أو الذين عزفوا مع هوميروس قيثارته وتحلقوا خلف أرسطو وهو يسطر (فن الشعر) .. الجميع رضي بإجابة رومان ياكبسون : “إذا أردنا أن نعرف الشعر علينا أن نقابله بما ليس شعرا .. ولكن من الصعب أن نجد اليوم ما لا يكونه الشعر ” . لقد صدق ياكبسون وصدقت من بعده البنيوية ، هل يعرف الشعر بالوظيفة أم بالشكل أم الأثر الجمالي ، أو بالقبح الجميل ؟. إن الهنات التي نتسقطها اليوم في الشعر المعاصر ، بدء من شكل القصيدة وانتهاء بمحتواها لا يخرجها من دائرة الشعر ، خصوصا وأنها الهنات نفسها التي عانت منها القصيدة العربية القديمة ، وكلنا يدرك تلك القطيعة البستمولوجية التي شهدها الإبداع العربي ، إلى درجة تلعن الماضي وتسبه . وكانت المدارس الشعرية تقوم على أنقاض أخرى ، والأشكال تمحو اثر الأشكال ، لكن البرنامج الشعري الذي نحن بصدده استطاع أن يجمع الاتجاهات الشعرية كلها على خشبة واحدة ، فهل يمكن القول انه بذلك استطاع أن يجمع أذواق الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج ؟ . وهل هناك فرق شرعي بين طريقة مبايعة أمير الشعراء كما رأينا في النصف الأول من القرن الماضي وبين مبايعته في قرننا الراهن ، ألا تستمد الشرعية أولا من الظروف والإمكانات ، والخلفيات ؟ . لقد كنا في القرن الماضي أمام اتجاه شعري واحد ووحيد ، لكننا اليوم أمام سيل من الأشعار والشعريات ، أليس لهذا أيضا حسابه في القضية ؟ أسئلة كثيرة أثارها برنامج أمير الشعراء ، ولا زال يثيرها سواء من حيث المحتوى أو من حيث البنية أصلا .. وإذا كان برنامج أمير الشعراء قد استطاع أن يعيد إلى الشعر جزء من مملكته المسلوبة ، عندما بدا الشباب في الوطن العربي يهتمون بهذا النمط الإبداعي ، يحدوهم الطموح إلى نيل اللقب ، فانه أيضا استطاع أن يرمي الحجر في بركة النقد العربي التي غطتها الطحالب والطفيليات منذ أمد بعيد . فمهما كان النقد سلبيا أو ايجابيا ، فهو في النهاية عمل إبداعي ، ضروري لبناء خطاب شعري فاعل ومؤثر . اعتقد أن من حسنات هذا البرنامج أيضا انه ساوى بين العرب من المحيط إلى الخليج عندما أكد أن الشعر ليس محصورا في منطقة المركز ، فماذا كان سيقول المرحوم مفدي زكريا لو كان حيا اليوم ؟ عندما يشاهد شعراء المغرب والمشرق على خشبة شعرية واحدة ، غير تلك التي وقفها الخيديوي لشوقي دون سواه . إننا أمام ظاهرة ثقافية يحسب لها أن امرئ القيس فيها غير حانق على علقمة الفحل رغم حكم أم جندب ، إنها أشبه ما تكون برسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، أو الكوميديا الإلهية لدانتي حيث تجمع الجنة والنار كل الشعراء بغض النظر عن عصورهم وجهاتهم ودياناتهم . ومهما بلغنا في إطراء تجربة هذا البرنامج التي أملتها علينا الحاجة الملحة إلى إيجاد وتر من نغم يعيد إلى الأذن العربية بعض مقامات الكلمة الحالمة ، ويؤكد أن الشعراء الحقيقيون لا يموتون بل يتظاهرون بالموت. مهما بلغنا فإن لنا عليه ملء الجوانح من المآخذ النقدية ، أخفُّها ضررا هو تقديم الإبداع قربانا في معبد المادة، حيث سلطة النقود تتجاوز سلطة النقد … حيث (أس أم أس) يضرب عرض الحائط بكل الجماليات الشعرية . لكننا مع ذلك نؤمن بالمثل الصيني القائل : ” أن تضيء شمعة صغيرة خير من تلعن الظلام”.