لا… لا إرهاب في رسالة نبي الإسلام إلى هرقل

الأستاذ / محمد بابه ولد أشفغ

يثور الآن جدل في المغرب حول اشتمال مناهج المدارس الثانوية في المملكة على الرسالة التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل امبراطور الروم. فقد وصف كاتب مغربي، هو أحمد عصيد، الرسالة بأنها “إرهابية لأنها ترتبط بزمن كان فيه الدين ينشر بالسيف وبالعنف. اليوم المعتقد اختيار شخصي حر للأفراد، لا يمكن أن تدرس رسالة تقول: إما إن تسلم وإما أنك ستموت”.

وقد أصدرت 18 جمعية مغربية بياناً مشتركاً قدمت فيه دعمها لعصيد. وفي المقابل عبرت هيئات وشخصيات مغربية كثيرة، في طليعتها رئيس الوزراء عبد الإله بن كيران، عن استنكارها واستهجانها لتصريحات عصيد.

وقد أغراني هذا الجدل بالعودة إلى الرسالة ومحاولة النظر في مضمونها، واستقراء هدفها الاستراتيجي من خلال ما أثارته من ردود فعل في بلاط هرقل، فخلصت إلى أن عبارة الإرهاب لا يمكن بحال من الأحوال أن تنطبق عليها.

مضمون الرسالة:

إن أهم العناصر المؤثرة في أي عملية اتصال، وفق أحدث نظريات الاتصال، هي: المرسِل والمرسَل إليه وفحوى الرسالة، فلنظر إليها واحدا واحدا في الحالة التي بين أيدينا.

المرسِـل: رئيس دولة ناشئة ما تزال، إلى تلك الساعة، هشة وضعيفة، وما يزال جيشها قليل العدد زهيد العتاد. ففي مطلع السنة السابعة للهجرة، وهي السنة ذاتها التي وجه فيها الرسول صلى اله عليه وسلم رسائل إلى هرقل وثمانية آخرين من أكابر الملوك والأمراء في المنطقة وفي العالم، وقعت غزوة مهمة هي غزة خيبر، وكان عدد جيش المسلمين فيها لا يتجاوز ألفا وأربعمائة جندي ولم يكن معهم من الخيل سوى مائتين. فكيف لدولة جنينية بهذا الضعف العسكري، ما زال فتح مكة القريبة مستعصيا عليها، أن تشكل مصدر إرهاب لمن يتربع على إمبراطورية الروم البعيدة المهيبة.

المرسَـل إليه: إمبراطور أقوى وأكبر دولة في العالم حينذاك. وهي دولة تمتد عموديا في التاريخ حيث مر على تأسيسها أكثر من ألف سنة، وتتسع أفقيا في الجغرافيا لتهيمن على أجزاء واسعة من شرق وغرب أوربا فضلا عن مناطق شاسعة من غرب آسيا وشمال إفريقيا. وكانت جيوش هذه الدولة تضم، بلا مبالغة، ملايين الجنود وتمتلك أكثر الأسلحة فتكا وتطورا في ذلك العصر. فهل يعقل أن ترهب ملكَ هذه الامبراطورية رسالة لا تتجاوز أسطرها أصبع اليد الواحدة، قادمة من دولة في طور النشوء لم تعرف عنها بعد قوة عسكرية تذكر ولا نفوذ سياسي ذو بال؟

محتوى الرسالة: هذا نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ”. “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”. ـ تبدأ الرسالة بالبسملة التي قُرن فيها اسم الله الأعظم بالرحمن الرحيم. ولا غرو أن استهلت بالرحمة: فهي، من جهة، تأتي من نبي بعث رحمة للعالمين؛ كما أنها، من جهة ثانية، دعوة إلى اتباع دين من وسعت رحمته كل شيء. والرحمة لا تجتمع مع الإرهاب. ـ قدم باعث الرسالة نفسه بذكر اسمه مجردا ووصف نفسه بعبد الله ورسوله، وهو تقديم يشع بتواضع وبساطة لا مكان معهما للإرهاب. كما خاطب هرقل بعظيم الروم في أدب واحترام ظاهرين يتنافيان مع الإرهاب. ـ بعد المقدمة البروتوكولية الناعمة، بدأ الحديث بكلمة “سلام”، فأين الإرهاب؟ وجملة “أسلم تسلم” التي هي لب الرسالة ليس فيها من الإرهاب شيء. وعندما قال أحمد عصيد إن معناها “إما أن تسلم وإما أنك ستموت” فقد جانب الصواب. فالرسالة حفزت هرقل شخصيا على الإسلام واعدة إياه بمضاعفة الأجر وهذا تمييز تفضيلي يليق بأبهة الإمبراطور. أما النتيجة التي رتبتها على عدم إسلامه فهي تحمل إثم الأريسيين وهم رعيته وفق بعض الروايات أو طائفة مسيحية كان لها أكبر النفوذ في الامبراطورية الرومانية حسب روايات أخرى، وفي هذا مخاطبة محترمة لنخوته وكبريائه لأن العظيم يتحمل أوزار قومه. فأي إرهاب إذن في الوعد بمضاعفة الأجر ودغدغة النخوة والكبرياء؟ ـ اختتمت الرسالة بآية تخصص أهل الكتاب، قوم هرقل، بالدعوة إلى كلمة سواء. وفي هذا التخصيص لفتة كريمة قد يلمس فيها المتأمل تقربا وتوددا، لكنه قطعا لن يحس فيها إرهابا.

هدف الرسالة الاستراتيجي:

لهذه الرسالة أهداف كثيرة، لعل أولها هو تبليغ النبي عليه الصلاة والسلام رسالة الإسلام للناس كافة: بعيدهم وقريبهم، قاصيهم ودانيهم. لكن قد يكون لها أيضا هدف استراتيجي آخر سنحاول استقراءه من ردود فعل هرقل وحاشيته عليها. وقبل تحليل هذا الهدف دعونا نعش قليلا في الجو الذي ساد بلاط هرقل عقب استلامه الرسالة. فقد روى البخاري في صحيحه “عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم. ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: ادنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخلفيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه…”.

من الواضح أن اهتمام هرقل الكبير برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نتيجة إرهاب أو تخويف وإنما هو ثمرة فضول معرفي ووعي سياسي يرفدهما هاجس إيماني واضح. وقد كاد عظيم الروم يعلن إسلامه لولا أن صده عن ذلك، وفق ما تذكره كتب السيرة والتاريخ، ما أبداه الأعيان من رجال الدين والسياسة وقادة الجند المحيطين به من نفور من تبديل دينهم حرصا على مواقعهم ومصالحهم الآنية الأنانية.

ولا شك أن الرسالة، بما أثارته من اهتمام واسع، شكلت حدثا سياسيا وإعلاميا كبيرا في امبراطورية الروم في تلك الفترة. فتجاوب هرقل مع الرسالة ومحاورته وفد أبي سفيان بمحضر أساطين ملكه أمور كافية لتجعل من موضوعها: الإسلام والدعوة إليه مادة دسمة لأحاديث الناس ونقاشاتهم وفضولهم في مختلف أرجاء الامبراطورية. ولو كان للناس في تلك الفترة ما لنا اليوم من وسائل إعلام واتصال لتصدر هذا الحدث عناوين نشرات الأخبار في التلفزيونات والإذاعات وصفحات الجرائد الأولى ولكان شغلا شاغلا لمواقع التواصل الاجتماعي.

لقد حققت إذن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل هدفا استراتيجيا حيث دفعت بالإسلام إلى الواجهة في أكبر امبراطورية على الأرض ولفتت أنظار الجميع إلى الدعوة الجديدة وحفزتهم على الخوض في أمرها والبحث عن حقيقتها.

وليس من المستبعد أن يكون الجو الإعلامي والسياسي الذي تمخض عن الرسالة قد مهد لفتح عقول وقلوب الكثير من رعايا الامبراطورية لتقبل الدين الجديد قبل أن تمهد لذلك جيوش الفتح الإسلامي فيما بعد.

تنقية المناهج المدرسية من الإرهاب والعنف

قد يتفق الناس بسهولة على تنقية المناهج المدرسية في المغرب، وفي غيره من البلدان، من الإرهاب والعنف. لكنهم لن يلبثوا أن يصطدموا بصعوبة التوافق على مفاهيم موحدة لهذين المصطلحين.

ففي عام 2005 عقد، تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، مؤتمر دولي بمدريد لتحديد مفهوم موحد للإرهاب. وبعد نقاشات مستفيضة انفض المجتمعون دون أن يتفقوا على أي من مفاهيم الإرهاب التي تدارسوها وقد زاد عددها على المائتين. ويكفي أن نذكر أن ما يعتبره عامة العرب والمسلمين مقاومة وجهادا ضد إسرائيل تدرجه هيئات سياسية وعلمية غربية عتيدة في خانة الإرهاب.

أما العنف فإذا نقينا منه المناهج الدراسية تنقية حرفية، كما يدعو إلى ذلك عصيد ورهطه، فيوشك أن نقضي على جزء كبير من مادة التاريخ. فالحروب والثورات وتدافع الدول من أهم الأحداث التي صاغت تاريخ البشرية قديما وحديثا وهي كلها أحداث عنيفة بامتياز. كما يوشك أن نمحو من شعرنا العربي الكثير من دواوين الحماسة والصعلكة والفخر، فضلا عن عدد لا يستهان به من روائع الأدب العالمي.

وأيا كان الأمر فإن السنة الصحيحة يستحيل أن تشتمل على ما يمجد العنف والإرهاب وباقي الأخلاق السيئة فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: “إنما بعثت لأتمم مكارم الخلاق” والله جل وعلا يقول عنه “وإنك لعلى خلق عظيم”.يثور الآن جدل في المغرب حول اشتمال مناهج المدارس الثانوية في المملكة على الرسالة التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل امبراطور الروم. فقد وصف كاتب مغربي، هو أحمد عصيد، الرسالة بأنها “إرهابية لأنها ترتبط بزمن كان فيه الدين ينشر بالسيف وبالعنف. اليوم المعتقد اختيار شخصي حر للأفراد، لا يمكن أن تدرس رسالة تقول: إما إن تسلم وإما أنك ستموت”.

وقد أصدرت 18 جمعية مغربية بياناً مشتركاً قدمت فيه دعمها لعصيد. وفي المقابل عبرت هيئات وشخصيات مغربية كثيرة، في طليعتها رئيس الوزراء عبد الإله بن كيران، عن استنكارها واستهجانها لتصريحات عصيد.

وقد أغراني هذا الجدل بالعودة إلى الرسالة ومحاولة النظر في مضمونها، واستقراء هدفها الاستراتيجي من خلال ما أثارته من ردود فعل في بلاط هرقل، فخلصت إلى أن عبارة الإرهاب لا يمكن بحال من الأحوال أن تنطبق عليها.

مضمون الرسالة:

إن أهم العناصر المؤثرة في أي عملية اتصال، وفق أحدث نظريات الاتصال، هي: المرسِل والمرسَل إليه وفحوى الرسالة، فلنظر إليها واحدا واحدا في الحالة التي بين أيدينا.

المرسِـل: رئيس دولة ناشئة ما تزال، إلى تلك الساعة، هشة وضعيفة، وما يزال جيشها قليل العدد زهيد العتاد. ففي مطلع السنة السابعة للهجرة، وهي السنة ذاتها التي وجه فيها الرسول صلى اله عليه وسلم رسائل إلى هرقل وثمانية آخرين من أكابر الملوك والأمراء في المنطقة وفي العالم، وقعت غزوة مهمة هي غزة خيبر، وكان عدد جيش المسلمين فيها لا يتجاوز ألفا وأربعمائة جندي ولم يكن معهم من الخيل سوى مائتين. فكيف لدولة جنينية بهذا الضعف العسكري، ما زال فتح مكة القريبة مستعصيا عليها، أن تشكل مصدر إرهاب لمن يتربع على إمبراطورية الروم البعيدة المهيبة.

المرسَـل إليه: إمبراطور أقوى وأكبر دولة في العالم حينذاك. وهي دولة تمتد عموديا في التاريخ حيث مر على تأسيسها أكثر من ألف سنة، وتتسع أفقيا في الجغرافيا لتهيمن على أجزاء واسعة من شرق وغرب أوربا فضلا عن مناطق شاسعة من غرب آسيا وشمال إفريقيا. وكانت جيوش هذه الدولة تضم، بلا مبالغة، ملايين الجنود وتمتلك أكثر الأسلحة فتكا وتطورا في ذلك العصر. فهل يعقل أن ترهب ملكَ هذه الامبراطورية رسالة لا تتجاوز أسطرها أصبع اليد الواحدة، قادمة من دولة في طور النشوء لم تعرف عنها بعد قوة عسكرية تذكر ولا نفوذ سياسي ذو بال؟

محتوى الرسالة: هذا نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ”. “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”. ـ تبدأ الرسالة بالبسملة التي قُرن فيها اسم الله الأعظم بالرحمن الرحيم. ولا غرو أن استهلت بالرحمة: فهي، من جهة، تأتي من نبي بعث رحمة للعالمين؛ كما أنها، من جهة ثانية، دعوة إلى اتباع دين من وسعت رحمته كل شيء. والرحمة لا تجتمع مع الإرهاب. ـ قدم باعث الرسالة نفسه بذكر اسمه مجردا ووصف نفسه بعبد الله ورسوله، وهو تقديم يشع بتواضع وبساطة لا مكان معهما للإرهاب. كما خاطب هرقل بعظيم الروم في أدب واحترام ظاهرين يتنافيان مع الإرهاب. ـ بعد المقدمة البروتوكولية الناعمة، بدأ الحديث بكلمة “سلام”، فأين الإرهاب؟ وجملة “أسلم تسلم” التي هي لب الرسالة ليس فيها من الإرهاب شيء. وعندما قال أحمد عصيد إن معناها “إما أن تسلم وإما أنك ستموت” فقد جانب الصواب. فالرسالة حفزت هرقل شخصيا على الإسلام واعدة إياه بمضاعفة الأجر وهذا تمييز تفضيلي يليق بأبهة الإمبراطور. أما النتيجة التي رتبتها على عدم إسلامه فهي تحمل إثم الأريسيين وهم رعيته وفق بعض الروايات أو طائفة مسيحية كان لها أكبر النفوذ في الامبراطورية الرومانية حسب روايات أخرى، وفي هذا مخاطبة محترمة لنخوته وكبريائه لأن العظيم يتحمل أوزار قومه. فأي إرهاب إذن في الوعد بمضاعفة الأجر ودغدغة النخوة والكبرياء؟ ـ اختتمت الرسالة بآية تخصص أهل الكتاب، قوم هرقل، بالدعوة إلى كلمة سواء. وفي هذا التخصيص لفتة كريمة قد يلمس فيها المتأمل تقربا وتوددا، لكنه قطعا لن يحس فيها إرهابا.

هدف الرسالة الاستراتيجي:

لهذه الرسالة أهداف كثيرة، لعل أولها هو تبليغ النبي عليه الصلاة والسلام رسالة الإسلام للناس كافة: بعيدهم وقريبهم، قاصيهم ودانيهم. لكن قد يكون لها أيضا هدف استراتيجي آخر سنحاول استقراءه من ردود فعل هرقل وحاشيته عليها. وقبل تحليل هذا الهدف دعونا نعش قليلا في الجو الذي ساد بلاط هرقل عقب استلامه الرسالة. فقد روى البخاري في صحيحه “عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم. ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: ادنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخلفيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه…”.

من الواضح أن اهتمام هرقل الكبير برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نتيجة إرهاب أو تخويف وإنما هو ثمرة فضول معرفي ووعي سياسي يرفدهما هاجس إيماني واضح. وقد كاد عظيم الروم يعلن إسلامه لولا أن صده عن ذلك، وفق ما تذكره كتب السيرة والتاريخ، ما أبداه الأعيان من رجال الدين والسياسة وقادة الجند المحيطين به من نفور من تبديل دينهم حرصا على مواقعهم ومصالحهم الآنية الأنانية.

ولا شك أن الرسالة، بما أثارته من اهتمام واسع، شكلت حدثا سياسيا وإعلاميا كبيرا في امبراطورية الروم في تلك الفترة. فتجاوب هرقل مع الرسالة ومحاورته وفد أبي سفيان بمحضر أساطين ملكه أمور كافية لتجعل من موضوعها: الإسلام والدعوة إليه مادة دسمة لأحاديث الناس ونقاشاتهم وفضولهم في مختلف أرجاء الامبراطورية. ولو كان للناس في تلك الفترة ما لنا اليوم من وسائل إعلام واتصال لتصدر هذا الحدث عناوين نشرات الأخبار في التلفزيونات والإذاعات وصفحات الجرائد الأولى ولكان شغلا شاغلا لمواقع التواصل الاجتماعي.

لقد حققت إذن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل هدفا استراتيجيا حيث دفعت بالإسلام إلى الواجهة في أكبر امبراطورية على الأرض ولفتت أنظار الجميع إلى الدعوة الجديدة وحفزتهم على الخوض في أمرها والبحث عن حقيقتها.

وليس من المستبعد أن يكون الجو الإعلامي والسياسي الذي تمخض عن الرسالة قد مهد لفتح عقول وقلوب الكثير من رعايا الامبراطورية لتقبل الدين الجديد قبل أن تمهد لذلك جيوش الفتح الإسلامي فيما بعد.

تنقية المناهج المدرسية من الإرهاب والعنف

قد يتفق الناس بسهولة على تنقية المناهج المدرسية في المغرب، وفي غيره من البلدان، من الإرهاب والعنف. لكنهم لن يلبثوا أن يصطدموا بصعوبة التوافق على مفاهيم موحدة لهذين المصطلحين.

ففي عام 2005 عقد، تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، مؤتمر دولي بمدريد لتحديد مفهوم موحد للإرهاب. وبعد نقاشات مستفيضة انفض المجتمعون دون أن يتفقوا على أي من مفاهيم الإرهاب التي تدارسوها وقد زاد عددها على المائتين. ويكفي أن نذكر أن ما يعتبره عامة العرب والمسلمين مقاومة وجهادا ضد إسرائيل تدرجه هيئات سياسية وعلمية غربية عتيدة في خانة الإرهاب.

أما العنف فإذا نقينا منه المناهج الدراسية تنقية حرفية، كما يدعو إلى ذلك عصيد ورهطه، فيوشك أن نقضي على جزء كبير من مادة التاريخ. فالحروب والثورات وتدافع الدول من أهم الأحداث التي صاغت تاريخ البشرية قديما وحديثا وهي كلها أحداث عنيفة بامتياز. كما يوشك أن نمحو من شعرنا العربي الكثير من دواوين الحماسة والصعلكة والفخر، فضلا عن عدد لا يستهان به من روائع الأدب العالمي.

وأيا كان الأمر فإن السنة الصحيحة يستحيل أن تشتمل على ما يمجد العنف والإرهاب وباقي الأخلاق السيئة فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: “إنما بعثت لأتمم مكارم الخلاق” والله جل وعلا يقول عنه “وإنك لعلى خلق عظيم”.يثور الآن جدل في المغرب حول اشتمال مناهج المدارس الثانوية في المملكة على الرسالة التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل امبراطور الروم. فقد وصف كاتب مغربي، هو أحمد عصيد، الرسالة بأنها “إرهابية لأنها ترتبط بزمن كان فيه الدين ينشر بالسيف وبالعنف. اليوم المعتقد اختيار شخصي حر للأفراد، لا يمكن أن تدرس رسالة تقول: إما إن تسلم وإما أنك ستموت”.

وقد أصدرت 18 جمعية مغربية بياناً مشتركاً قدمت فيه دعمها لعصيد. وفي المقابل عبرت هيئات وشخصيات مغربية كثيرة، في طليعتها رئيس الوزراء عبد الإله بن كيران، عن استنكارها واستهجانها لتصريحات عصيد.

وقد أغراني هذا الجدل بالعودة إلى الرسالة ومحاولة النظر في مضمونها، واستقراء هدفها الاستراتيجي من خلال ما أثارته من ردود فعل في بلاط هرقل، فخلصت إلى أن عبارة الإرهاب لا يمكن بحال من الأحوال أن تنطبق عليها.

مضمون الرسالة:

إن أهم العناصر المؤثرة في أي عملية اتصال، وفق أحدث نظريات الاتصال، هي: المرسِل والمرسَل إليه وفحوى الرسالة، فلنظر إليها واحدا واحدا في الحالة التي بين أيدينا.

المرسِـل: رئيس دولة ناشئة ما تزال، إلى تلك الساعة، هشة وضعيفة، وما يزال جيشها قليل العدد زهيد العتاد. ففي مطلع السنة السابعة للهجرة، وهي السنة ذاتها التي وجه فيها الرسول صلى اله عليه وسلم رسائل إلى هرقل وثمانية آخرين من أكابر الملوك والأمراء في المنطقة وفي العالم، وقعت غزوة مهمة هي غزة خيبر، وكان عدد جيش المسلمين فيها لا يتجاوز ألفا وأربعمائة جندي ولم يكن معهم من الخيل سوى مائتين. فكيف لدولة جنينية بهذا الضعف العسكري، ما زال فتح مكة القريبة مستعصيا عليها، أن تشكل مصدر إرهاب لمن يتربع على إمبراطورية الروم البعيدة المهيبة.

المرسَـل إليه: إمبراطور أقوى وأكبر دولة في العالم حينذاك. وهي دولة تمتد عموديا في التاريخ حيث مر على تأسيسها أكثر من ألف سنة، وتتسع أفقيا في الجغرافيا لتهيمن على أجزاء واسعة من شرق وغرب أوربا فضلا عن مناطق شاسعة من غرب آسيا وشمال إفريقيا. وكانت جيوش هذه الدولة تضم، بلا مبالغة، ملايين الجنود وتمتلك أكثر الأسلحة فتكا وتطورا في ذلك العصر. فهل يعقل أن ترهب ملكَ هذه الامبراطورية رسالة لا تتجاوز أسطرها أصبع اليد الواحدة، قادمة من دولة في طور النشوء لم تعرف عنها بعد قوة عسكرية تذكر ولا نفوذ سياسي ذو بال؟

محتوى الرسالة: هذا نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ”. “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”. ـ تبدأ الرسالة بالبسملة التي قُرن فيها اسم الله الأعظم بالرحمن الرحيم. ولا غرو أن استهلت بالرحمة: فهي، من جهة، تأتي من نبي بعث رحمة للعالمين؛ كما أنها، من جهة ثانية، دعوة إلى اتباع دين من وسعت رحمته كل شيء. والرحمة لا تجتمع مع الإرهاب. ـ قدم باعث الرسالة نفسه بذكر اسمه مجردا ووصف نفسه بعبد الله ورسوله، وهو تقديم يشع بتواضع وبساطة لا مكان معهما للإرهاب. كما خاطب هرقل بعظيم الروم في أدب واحترام ظاهرين يتنافيان مع الإرهاب. ـ بعد المقدمة البروتوكولية الناعمة، بدأ الحديث بكلمة “سلام”، فأين الإرهاب؟ وجملة “أسلم تسلم” التي هي لب الرسالة ليس فيها من الإرهاب شيء. وعندما قال أحمد عصيد إن معناها “إما أن تسلم وإما أنك ستموت” فقد جانب الصواب. فالرسالة حفزت هرقل شخصيا على الإسلام واعدة إياه بمضاعفة الأجر وهذا تمييز تفضيلي يليق بأبهة الإمبراطور. أما النتيجة التي رتبتها على عدم إسلامه فهي تحمل إثم الأريسيين وهم رعيته وفق بعض الروايات أو طائفة مسيحية كان لها أكبر النفوذ في الامبراطورية الرومانية حسب روايات أخرى، وفي هذا مخاطبة محترمة لنخوته وكبريائه لأن العظيم يتحمل أوزار قومه. فأي إرهاب إذن في الوعد بمضاعفة الأجر ودغدغة النخوة والكبرياء؟ ـ اختتمت الرسالة بآية تخصص أهل الكتاب، قوم هرقل، بالدعوة إلى كلمة سواء. وفي هذا التخصيص لفتة كريمة قد يلمس فيها المتأمل تقربا وتوددا، لكنه قطعا لن يحس فيها إرهابا.

هدف الرسالة الاستراتيجي:

لهذه الرسالة أهداف كثيرة، لعل أولها هو تبليغ النبي عليه الصلاة والسلام رسالة الإسلام للناس كافة: بعيدهم وقريبهم، قاصيهم ودانيهم. لكن قد يكون لها أيضا هدف استراتيجي آخر سنحاول استقراءه من ردود فعل هرقل وحاشيته عليها. وقبل تحليل هذا الهدف دعونا نعش قليلا في الجو الذي ساد بلاط هرقل عقب استلامه الرسالة. فقد روى البخاري في صحيحه “عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم. ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: ادنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخلفيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه…”.

من الواضح أن اهتمام هرقل الكبير برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نتيجة إرهاب أو تخويف وإنما هو ثمرة فضول معرفي ووعي سياسي يرفدهما هاجس إيماني واضح. وقد كاد عظيم الروم يعلن إسلامه لولا أن صده عن ذلك، وفق ما تذكره كتب السيرة والتاريخ، ما أبداه الأعيان من رجال الدين والسياسة وقادة الجند المحيطين به من نفور من تبديل دينهم حرصا على مواقعهم ومصالحهم الآنية الأنانية.

ولا شك أن الرسالة، بما أثارته من اهتمام واسع، شكلت حدثا سياسيا وإعلاميا كبيرا في امبراطورية الروم في تلك الفترة. فتجاوب هرقل مع الرسالة ومحاورته وفد أبي سفيان بمحضر أساطين ملكه أمور كافية لتجعل من موضوعها: الإسلام والدعوة إليه مادة دسمة لأحاديث الناس ونقاشاتهم وفضولهم في مختلف أرجاء الامبراطورية. ولو كان للناس في تلك الفترة ما لنا اليوم من وسائل إعلام واتصال لتصدر هذا الحدث عناوين نشرات الأخبار في التلفزيونات والإذاعات وصفحات الجرائد الأولى ولكان شغلا شاغلا لمواقع التواصل الاجتماعي.

لقد حققت إذن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل هدفا استراتيجيا حيث دفعت بالإسلام إلى الواجهة في أكبر امبراطورية على الأرض ولفتت أنظار الجميع إلى الدعوة الجديدة وحفزتهم على الخوض في أمرها والبحث عن حقيقتها.

وليس من المستبعد أن يكون الجو الإعلامي والسياسي الذي تمخض عن الرسالة قد مهد لفتح عقول وقلوب الكثير من رعايا الامبراطورية لتقبل الدين الجديد قبل أن تمهد لذلك جيوش الفتح الإسلامي فيما بعد.

تنقية المناهج المدرسية من الإرهاب والعنف

قد يتفق الناس بسهولة على تنقية المناهج المدرسية في المغرب، وفي غيره من البلدان، من الإرهاب والعنف. لكنهم لن يلبثوا أن يصطدموا بصعوبة التوافق على مفاهيم موحدة لهذين المصطلحين.

ففي عام 2005 عقد، تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، مؤتمر دولي بمدريد لتحديد مفهوم موحد للإرهاب. وبعد نقاشات مستفيضة انفض المجتمعون دون أن يتفقوا على أي من مفاهيم الإرهاب التي تدارسوها وقد زاد عددها على المائتين. ويكفي أن نذكر أن ما يعتبره عامة العرب والمسلمين مقاومة وجهادا ضد إسرائيل تدرجه هيئات سياسية وعلمية غربية عتيدة في خانة الإرهاب.

أما العنف فإذا نقينا منه المناهج الدراسية تنقية حرفية، كما يدعو إلى ذلك عصيد ورهطه، فيوشك أن نقضي على جزء كبير من مادة التاريخ. فالحروب والثورات وتدافع الدول من أهم الأحداث التي صاغت تاريخ البشرية قديما وحديثا وهي كلها أحداث عنيفة بامتياز. كما يوشك أن نمحو من شعرنا العربي الكثير من دواوين الحماسة والصعلكة والفخر، فضلا عن عدد لا يستهان به من روائع الأدب العالمي.

وأيا كان الأمر فإن السنة الصحيحة يستحيل أن تشتمل على ما يمجد العنف والإرهاب وباقي الأخلاق السيئة فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: “إنما بعثت لأتمم مكارم الخلاق” والله جل وعلا يقول عنه “وإنك لعلى خلق عظيم”

 محمد بابه ولد أشفغ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى