غياب محمد يحظيه
الدهماء تدفع بقلمها السيال في معمعة الحديث عن الراحل ابريد الليل
الزمان أنفو _ تَحقَّقَّ لوالديه تَيمُّنهما بالاسم، فِعلاً احْظَاهْ الله، كان محظوظًا بِمَا كانهُ، وكان حظًّا للوطن وحُظوة.
ظلَّ محمد يحظيه فيضًا من شعاعٍ، شامخًا، مُتعاليًا، لا ينتكس أمام الإغراء، ولا ينزلق على الأسطح اللزجة، تجسَّد فيه «الضَّمير الصالح» لهذه الأمة، كان أكثر السَّاسة إصرارًا على الرِّفعة،.. هو بجدارة آخر من مارس السّياسة بتصوّف وفطرة سليمة.. فقد امتلك بعقله المعتَّق سحر العظماء، وتبحُّر الفلاسفة، زانه الغُموض وزاده مهابة.. عاند الزَّمن في كبرياء، لم يظهر منه إلا ما يظهر من جبل الجليد!
عُرف محمد يحظيه بأنه إذا أقْدَم على الأنظمة أقْدَم بِندَّيةِ الواثق، وإذا أحْجَم عنها تَحسب له ألف حِساب،.. رفعت السجون من حماسه للمجد، ودرَّبته على الزهد في الجزئيات.
محمد يحظيه الإنسان لمن لا يعرفه، رجل وقور، ودود، مُمازح، متمدِّن، طيِّب المعشر،.. زَاوجَ بين القدرة على الكتابة الحاسمة في الفكر والأدب والأنتروبولوجيا، والمقدرة الشفهية، فكان رجل خطاب مثير لفضول العقل بلفظٍ متقونٍ مُهذَّب.
امتلك “ابريد الليل” قدرة استشراف مُبهرة، وحظي ببصيرة تَخلق الأعداء، فقد جعل منه عقله الشاسع مرْكزَ دراساتٍ مُتكامل.
تبنَّى الفقيد الفكر القومي وأخلص النية والفعل في توظيفه لخير الوطن بكل أطيافه،.. هذا الفكر آلية بشرية جاءت لتحرير المُجتمع من تسلط الاقوياء، وتحرير الفرد من عبودية الجماعة، وتحرير العقل من سيطرة الخرافة، وتحرير النفس من قيود الكبت والخوف.. وقد نجحت الآلية في بعض الجوانب لحدٍّ باهر…وفي بعضها بالمتوسط ودونه، وأخفقت في مطارح أخرى،..لكن الأكيد أن هذا الفكر لم يكن اقصائيا ولا عنصريا، ولا يتحمَّل وزر جهل الآخرين به.
من حق “ابريد الليل” وغيره الاعتقاد بأن للقومية العربية مقدرة عجيبة على انتزاع اعجاب الزمن، وبأن جذوتها لن يُخمدها هتاف “الفوضويين” في حقبتهم الذهبية الثانية، وهيمنتهم -مرحليا- على انتباه من لا يملكون القدرة على مواجهة الدعاية أو تفنيدها، وقد دفع عمره لحماية هذا الاعتقاد،.. والظاهر أن عليه أن يدفع من سمعته بعد عمره.
معلوم أن محمد يحظيه غير مُحتاج لمَصدَّاتٍ عن سمعته الوطنية النظيفة.
وعلى ذكر السّمعة، شَحذ الأستاذ جميل منصور حسَّه الدِّيني واْلحقَ “فَدْوَه” سريعة لفقيد الوطن، في شكل “مَيْتَة” من تَقوُّلات العفن العُنصري، غير نقية النِّسبة، بائسة الحسبة، حررها من قيد “الذاكرة” في حقِّ ميت قبل أن يعود مشيعوه!،..
أهي قذف سياسي بنيَّة التشهير؟،.. أم شماتة تحررَّت من احتمال التَّكذيب؟،.. أم تسديد هدف خارج الوقت الأخلاقي للمباراة، لا أتمنى كل ذلك، حتى لا يزداد جميل غربة عن نفسه، أو يظنّ مُتحامل أنه يَعْبر من ضفَّة قصص الواقع إلى ضفَّة قصص التَّوهم (اكلام رترت السياسي).
أخاف على بعضنا من السقوط وهو يُمارس لعبة التَّفلُّق، فَيُعرِّض نفسه لخطر الإصابات الأخلاقية الحادَّة،.. تَناوُل الموتى بما لا يليق ليس من أسلحة التخاصُم الصقيلة، اللهم إلا إذا كانت رُتبة جهادية جديدة في باب الهدي اللفظي؟.. فقد تواترت ممارستها أخيرا من حملة فكر بعينه،.. ولا يخفى على الأستاذ جميل أنَّ التَّقول لم يكن يومًا حجة عقلانية، خاصة إذا وُظِّف أحاديًّا بعد أن صار الخصم إلى وضع يمنعه حقَّ الرد.
سيدي جميل، تجشمتَ عناء ازعاج عاطفي لا يليق منك بخصمك الحميم.
خسارة محمد يحظيه تركتْ فجوة لا يمكن ردمها بأكوام من كلمات العزاء والرّثاء.
أتقدم بخالص العزاء لأسرته أسرتي، لأهله أهلي، لأحبابه… وللوطن.
كنتُ أتمنَّى أن يُلفَّ جثمانه بالعلم الوطني، على غرار رفيق الصَّبر الطويل، المغفور له بإذن الله المصطفى بدر الدين.
اللهم ارحم عبدك محمد يحظيه فقد شهدَ لك بالوحدانية.