محمدُّو أحمدُّو با.. مؤرخ الضفة الذي كتب عن تاريخ آدرار
كتب الباحث سيدي أحمد ولد الأمير:
الزمان أنفو _
سألت مرة أستاذي الدبلوماسي والباحث محمد سعيد ولد همدي رحمه الله: من أينَ لمحمدُّو بَا، وهو ابن الضفة، كل هذه المعلومات الدقيقة والنادرة عن تاريخ منطقة آدرار وإمارتها العريقة؟ فقال لي بالحسانية: “ذاك التكروري أبَيْظَنْ مني أنا وأبَيْظَنْ منكَ أنتِ”، أي أن هذا التكولوري أدرى بالثقافة الحسانية مني أنا وأدرى بها منك أنت. فعلا كان محمدُّو بَا عارفا باللغة الحسانية ضليعا في ثقافتها خبيرا بتاريخ ناطقيها، وكانت له علاقات واسعة، خلال عمره الذي لم يتجاوز 65 سنة، بالعديد من أعيان البلد ممن عاصرهم في النصف الأول من القرن العشرين.
ترك محمدُّو بَا تراثا تاريخيا مفيدا حول منطقة آدرار وحول منطقة الساحل وهو تراث لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للمهتمين بتراث هذا البلد، فقد كان ترجمانا بأطار عشرين سنة دون انقطاع (من 1916 إلى 1936)، فعرف ساكنة آدرار وعايشهم وأحبهم وأحبوه، وبحث عن تاريخ المنطقة وأخذ معلوماته عن كبار السن وضبط رواياتهم، وتقصى في البحث وتعمق في التقصي، فجمع لنا رحمه الله في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين بحوثا نادرة ومفيدة عن إمارة آدرار وعن غيرها الكثير من الأخبار والوقائع والحوادث.
أسرة محمدُّو أحمدُّو با ودراسته:
ولد محمدُّو أحمدُّ با سنة 1893 في نيورو بمالي؛ حيث كانت أسرته المنحدرة من منطقة بوصيابه بفوتا تورو قد هاجرت من كيهيدي إلى هنالك مناصَرةً للحاج عمر الفوتي وتأييدًا لحركته الجهادية في منطقة الساحل الإفريقي. وبعد أفول دولة الحاج عمر الفوتي نهاية القرن التاسع عشر عادت الأسرة إلى فوتا تورو(1).
ينتمي والده الشيخ أحمدُّو با إلى الأرستقراطية التكلورية البوصيابية، فجده ألفا عمر سيدي ييرو بوسو كان من كبار شخصيات فوتا تورو، وكان إلى جانب سليمان بال وعبد القادر كان (المامي عبد القادر) لما أطاحا بدولة الديانكة (أولاد تنݣله) وأقاما دولة الأئمة نهاية القرن الثامن عشر في منطقة فوتا بالضفتين اليمنى واليسرى لنهر السنغال. أما أمه وهي رقية بيلا فكانت حفيدة المامي يوسف سيري لي زعيم ديابا بمنطقة هبيا، والذي تولى الإمامة تسع مرات بفوتا تورو.
ولكون محمدُّو بَا منحدرا من هاتين العائلتين العريقتين، وهو ابن إحدى الأرستقراطيات البوصيابية النافذة بالضفة، فقد جعله ذلك مؤهلا لأن يكون على درجة عالية من المعرفة، وعلى درجة عالية من الحضور الاجتماعي والسياسي لا في منطقة فوتا فقط بل في موريتانيا كلها.
كانت بداية دراسة محمدُّو بَا في مالي حيث ولد وترعرع، فقد قرأ القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية هنالك، ثم انتقل إلى تيشيت في منطقة تكانت حيث درس على شيخ تيشيتي يسمى سيدي محمد أو سيدي عبد الله، ولم تسعفنا مصادرنا باسم الرجل الحقيقي ولا نسبه ولا قبيلته. لم يمكث محمدُّو بَا طويلا بتيشيت فقد عاد إلى مدينته كيهيدي حيث دخل مدرستها النظامية التي كانت قد فتحت أبوابها كأول مدرسة في موريتانيا سنة 1898، فكان محمدُّو بَا من أوائل دفعات الطلاب الذي ولجوا هذه المؤسسة العريقة(2).
ومع أن أعيان الأرستقراطية البوصيابة لم يكونوا يرغبون في إدخال أبنائهم في مدارس الفرنسيين؛ إذ يعتقدون كغيرهم من الموريتانيين في تلك الفترة أن في ذلك فسادا للدين وإضرارا بالأخلاق، إلا أن أسرة محمدُّو بَا التي كانت مناصرة للحاج عمر الفوتي وهو عدو الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ربما أرادت بإدخال أبنائها في مدرسة كيهيدي مهادنة الفرنسيين لضمان استعادة الأسرة للعب أدوارها السياسية والاجتماعية في المنطقة دون مضايقة من الفرنسيين الذي كان لهم نفوذ قوي بالضفة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
كانت مدرسة كيهيدي المرحلةَ التعلمية النظامية الأولى التي مر بها محمدُّو بَا وبعدها التحق بمدرسة أبناء الشيوخ في سان لويس “اندر” بالسنغال، وكانت هذه المدرسة مخصصةً لأبناء الشيوخ أو للطلاب النابهين من غير أبناء الشيوخ. وهذه المدرسة السينلويسية امتداد لمشروع الجنرال فيديرب ومواصلة لمدرسة الرهائن التي أسسها فيديرب نفسه قبل ذلك، وقد تأسست مدرسة أبناء الشيوخ بسان لويس سنة 1892. وكان الهدف منها استكتابَ أبناء الأعيان في ضفة النهر وفي أفريقيا الغربية وفي موريتانيا بطبيعة الحال، وأخذهم عن طريق الإكراه غالبا أو عن طيب خاطر في النادر، ومراقبتهم وتكوينهم ليصيروا وكلاء وموظفين في الجهاز الإداري الفرنسي. وقد انضم إلى مدرسة أبناء الشيوخ والمترجمين العديد من الموريتانيين فكان من طلابها الموريتانيين أحمد ولد الكوري الشهير بـ”أحمد فال سيني”، والمولود سنة 1836 في بوتلميت، وبعد تخرجه منها أصبح ترجمانا ماهرا ثم ترقى في سلم الترجمة في سان لويس. وبعد ثلاث سنوات من إنشائها كان أي في مايو 1895 انضم إلى هذه المدرسة انجاي كان وهو نجل زعيم قرية انتيكان: علي كان. كما انضم إليها مع بداية القرن محمدُّو أحمدُّ با وأخوه ببكر أحمدُّ با(3).
تخرج محمدُّو بَا سنة 1909 من مدرسة سان لويس وتقدم عند تخرجه للدراسة في قسم المترجمين في نفس المدرسة، ولأنه كان غاية في الذكاء والحفظ والفطنة فقد كان الأول من دفعة المترجمين سنة 1910؛ لذلك حصل متوفقا على شهادة تأهيل في الترجمة.
لم تكن سن محمدُّو بَا في ذلك الوقت تسمح له بولوج الوظيفة العمومية والانخراط في سلك المترجمين، لأن سنه سنةَ تخرجه لا تتجاوز تسعة عشرة سنة، وهو عمر لا يسمح لبالغه بالتوظيف حينذاك في الإدارة الاستعمارية الفرنسية؛ لذلك تابع تلك السنة 1911 دراسته في مدرسة الجزائر العريقة والمتأسسة منذ منتصف القرن التاسع عشر، فكان بذلك أولَ موريتاني يدرس في هذا الصرح العلمي الشهير في شمال إفريقيا والذي تخرجت منه طبقة من كبار المثقفين ممن حصلوا على تعليم عميق ومزدوج (عربي وفرنسي).
تتحدث جريدة “الأخبار” التي تصدر بالجزائر (Les Nouvelles “Algérie”) في عددها الصادر بتاريخ 13 فبراير 1911 عن محمدُّو أحمدُّو با الذي حضر حفلا علميا وثقافيا نظمته “الراشدية”، وهي هيئة ثقافية أسسها قدماء خريجي مدرسة الجزائر. وكانت تلك المناسبة فرصة لمدير مدرسة الجزائر الفرنسي ديستان، وهو مدير سابق لمدرسة سان لويس بالسنغال، أن يقدم محاضرة تناولت المجتمع التكروري جنسه ودينه ولغته. ويبدو أن محمدُّو بَا ساهم في إنعاش تلك المحاضرة. وكان، حسب الجريدة، يبلس في ذلك الملأ دراعته الفضفاضة، وقد نال إعجاب الحاضرين بثقافته الواسعة(4).
في سلك الوظيفة.. عشرون سنة بأطار
في بداية سنة 1912 عاد محمدُّو بَا من الجزائر إلى موريتانيا ترجمانا ماهرا ضليعا في اللغتين العربية والفرنسية، وقد تم تعيينه في سلك المترجمين في مستوى مترجم من الدرجة الخامسة، كما أسندت إليه مهمة التدريس في مدرسة أبناء الشيوخ في سان لويس.
وفي سنة 1914 تم تحويله إلى بوتلميت بدائرة الترارزة ترجمانا، ونظرا لمهاراته في اللغتين العربية والفرنسية، فقد جمع بين وظيفة الترجمان ووظيفة المعلم في مدرسة بوتلميت التي تأسست سنة 1912، وفتحت أبوابها للتلاميذ مع مطلع 1913. وكان في بوتلميت يدرس إلى جانب معلم اللغة أحمد ولد المختار فَالْ ومدير المدرسة أدريان لاروك وأخيه ببكر با. وقد تحدثنا باستفاضة عن مدرسة بوتلميت في مقال لنا سابق ومنشور على الشبكة(5).
في يناير 1916 سيحل محمدُّو بَا في دائرة آدرار ترجمانا وهنالك سيبقى عشرين سنة دون انقطاع في تلك الدائرة. كانت لمحمدُّو بَا منذ وصوله لآدرار علاقة حميمية مع العديد من المجموعات، ومع قبيلة الرݣيبات بشكل خاص، وهو أمر كانت الإدارة الفرنسية ترعاه وتنظر ليه باهتمام خاص.
بيد أن علاقة الترجمان محمدُّو بَا بأمير آدرار سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيدة كانت في أغلب الأحيان غير منسجمة وشابها الكثير من التوتر والتدافع، وقد وصل الأمر إلى أن اشتكى الأمير من الترجمان وكتب رسائل للإدارة الفرنسية في ذلك الشأن. وفي المقابل كتب محمدُّو بَا في الأمير رسائل، واشتكاه لدى الإدارة الفرنسية. ويفهم من رسائل الأمير وشكواه من محمدُّو بَا أن الأخير كان مقربا من بعض الجهات الاجتماعية الآدرارية غير المنسجمة مع الأمير، ويذهب الأمير إلى وصف الترجمان بالعديد من الأوصاف السلبية، ويتهمه بأنه لم يكن أمينا في ترجمة أحاديثه مع حاكم دائرة آدرار لما يجتمع به، وأنه يحرف كلامه عن مواضعه. بل إن الأمير يُحَمِّل المترجم سوءَ العلاقة بينه وبين بعض أتباعه وبينه وبين بعض عناصر قبيلته وبينه وبين الفرنسيين في تلك الفترة(6).
أما محمدُّو بَا فيقول في رسائله للفرنسيين إن الأمير مستاء لأنه لم يستطع ترويضه وجعله من أتباعه، ويفتخر محمدُّو بَا في إحدى رسائله بأن الأمير سيدي أحمد حاول رشوته فامتنع من ذلك. ويقول محمدُّو با إن العلاقة الخاصة والحميمية بينه كمترجم وبين قبيلة الرݣيبات قد أزعجت الأمير. ويرى أن الأمير كان يريد أن يظل هو نفسه صلةَ الوصل بين الرݣيبات وبين الإدارة الفرنسية وهو أمر لم يقع بسبب علاقتهم الخاصة مع الترجمان، وهذا سبب انزعاج الأمير سيدي أحمد من محمدُّو بَا(7).
وكان موقف الإدارة الفرنسية من الخلاف بين الأمير سيدي أحمد وبين الترجمان محمدُّو بَا واضحا: فيرى حاكم دائرة آدرار في أحد تقاريره أن الأمير سيدي أحمد هو وحده من يشكو من الترجمان، أما غيره من أعيان وشيوخ القبائل الآدرارية فإنهم لا يشتكون منه، بل إن بعض مقربي الأمير صديق للترجمان. وترى الإدارة الفرنسية أن تسلم الترجمان ملف قبيلة الرݣيبات، ونجاحه في أن يكون محل ثقتهم في آدرار أمر لا يسمحه الأمير للترجمان محمدُّو بَا. ومن الطبيعي أن تكون الإدارة إلى جانب أحد موظفيها خصوصا إذا كان ذكيا وعارفا بالعلاقة المعقدة بين الأمير سيدي أحمد وبين الفرنسيين والتي لم تسلم من التوتر حتى هجرته الأخيرة ووفاته شهيدا في مواجهة مع الفرنسيين(8).
وعلى العموم سمحت هذه الفترة التي قضاها محمدُّو بَا في آدرار بالاطلاع على المجتمع الآدراري اطلاعا عميقا، وكان حسه البحثي واهتمامه التأليفي حاضريْن، فقد كتب عدة مقالات عن منطقة آدرار لا تزال اليوم رائدة في مجال البحث التاريخي لمن يريد معرفة تطور إمارة آدرار في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
من الترجمة بآدرار إلى المشيخة التقليدية بفوتا
تتحدث جريدة الحوليات الاستعمارية (Les Annales Coloniale) في عددها الصادر بتاريخ 21 أبريل 1936 عن ترك محمدُّو بَا لآدرار بإرادته واستقراره نهائيا في منطقة فوتا بوصفه شيخ إيالة اليتامى (Chef de Canton du Littama) منذ يناير 1936(9)، وقد ظل في تلك الوظيفة حتى وفاته سنة 1958. ومن المعلوم أن إيالة اليتامى تمتد من شرق كيهيدي إلى حدود كيديماغا، وكانت تضم سنة 1937 اثنتين وثلاثين قرية وأزيد من أحد عشر ألف نسمة، وتعتبر أراضي إيالة اليتامى من أكثر أراضي فوتا تورو خصوبة. وكانت إدارة إيالة اليتامى وزعامتها التقليدية من الصعوبة بمكان، فسكانها المتنوعون من البولار والبيضان والسونينكي والبمباره تصعب قيادتهم وتدبير شؤونهم(10).
تأديته فريضة الحج:
وأثناء تولى محمدُّو بَا زعامة إيالة اليتامى أدى فريضة الحج؛ حيث تذكر جريدة صدى الجزائر (l’Echo d’Alger) في عددها الصادر بتاريخ 14 نوفمبر 1944، مرور وفد الحجاج بمدينة تونس واستقبالهم في قصر باردو من طرف المقيم الفرنسي، وكان صاحبنا من أبرز وفد الحجاج في ذلك الموسم، وكان معه: الزعيم الجليل عبد الله بن الشيخ سيديا؛ حيث شكلا الوفد الموريتاني ومعهما منصور سي شيخ الطريقة الصوفية التجانية بتواون بالسنغال. ومعهم في نفس الوفد القادم من المستعمرات الفرنسية: القاضي الجزائري الشريف بن حبي