انا وشرطة الامارات
كتب محمدالأمين ولد محمودي:
الزمان أنفو _
خلال العام اربعة وتسعين كان الحدث الأبرز هو اعلان اكتتاب الامارات لشرطيين ستكونهم من الصفر لتوظفهم في دوائرها الأمنية،أذكر انني جمعت الأوراق اللازمة وبدأت الاتصالات مستفسرا عن مكان تقديم الملف،ثم سرت شائعة تقول إن المترشحين سيكونون بالآلاف وإن على الجميع أن يبيتوا ليلهم بالقرب من مدرسة الشرطة حتى يتسنى لهم تقديم ملفاتهم في الوقت المناسب،علمت من مصادر قبلية بأن شخصا واحدا من “المسمى” تسمى باسم مفوض،وانه يقيم في مدرسة الشرطة،وخلال الساعات الأولى للمساء كانت زوجة الرجل الفاضلة “منت سيديا” تكرم وتسهر على راحة مائة شخص أوتزيد،أخذ كل واحد منا موقعه في الصالون والردهة والرواق والبيوت وحتى غرفة النوم والفناء،ويبدو أن الفتاة استعانت ببعض عمال المنازل لتتمكن من استضافة هذا الكم الهائل من الأصهار،ذبائح وعشاء وشاي على مدار الساعة،ووجوه تعيسة يائسة محبطة،يحلم كل واحد من هؤلاء بأن يعود العام القادم الى موريتانيا ومعه سيارة خمس مائة واربعة نيجيرية ومسجل بشريطين يرسل العابا نارية مع الموسيقى، هذا طبعا مع أشرطة صباح “يدلع يدلع” وام كلثوم وغيرها من الأشياء التي تميز بها العائدون من تلك البلاد..في جيب سترتي قنينة من عصير “اسلام فروي” وبسكويت من نوع “توستادا اكريما”،زودني بها الوالدان لعل وعسى أحس مسغبة أو نصبا داخل المدرسة،لا أعتقد أن أيا من جُلَستي قد تمكن من النوم وإن استلقى الجميع بنظام علبة السردين،لكن كل واحد منهم كان يحاول النوم قليلا ثم سرعان مايخرج على عجلة ليدخن او ليتأكد من أن الحذاء جاهز ومعلوم المكان، او ليرتب حلما أوكابوسا زاره في اغفاءته، دوت الصفارات في المدرسة عند الساعة الثانية فدخل من كانوا خارج الأسوار وهم ألوف وخرج أهل “الفي آي بي”من مناماتهم وجحورهم لتبدأ حرب حقيقية،اذ مد الطوابير في هذه الحشود يكاد يكون مستحيلا،فحين ينتظم صف ما وتجد لنفسك -رغم الغبار والعراك-مكانا فيه يأتي الصراخ في الظلام: الصف الحقيقي هو ذا،فيهاجر الناس اليه وهكذا حتى ابتسم الصبح عن أحذية بلا أشخاص وساعات “الكترونيك” تطايرت أعدادها في الساحة الكبيرة ووجوه مغبرة عابسة وأعين كالشهب،وآلاف الأشخاص، رجل نظيف يبدو عليه أثر النعم وآخر بربطة عنق من ” بوفيروس” قدم للتو من الريف وربما يعتقد انه الآن في الامارات وغلام لما يبلغ الحلم وعجوز سيرد له الملف فور تسليمه..السحنات تشي بحال البلاد وسكانها،لكل واحد من هؤلاء قريب عاد من الامارات بطقوس خاصة،ففي الريف هناك يصر الشرطي في اجازته على الظهور بمظهر خاص ومختلف،يرمي المنشفة على منكبه،ويحمل بيمناه ملزمة الحمام حين يهم بالاستحمام،يستخدمون شامبو ” دوب” وغسول مابعد الشامبو ورغوة “المانت” الخاصة بالحلاقة، اما في بيوتهم المشيدة حديثا فرائحة الشواء تفوح ويكثر لديهم الطعام المنوع،سلطة وقد تناثرت فوقها قطع البصل المنقع في الخل والكثير الكثير من خبز انواكشوط،اما البطاريات فيرسلونها الى الشارع وفيها حاجة مصباح أحد القرويين،( الباتري الحي)..ببساطة كانوا قمة القمة،وكانو يستخدمون عبارات من قبيل ” شكرا” ” عن اذنك” “اضطرارية”” الشهر عشرة” و ” اجازة”..وكانوا يلاطفون الجميع ويبشون في وجه البائس ” محمود” الذي لايهتم له أحد،ونضحك نحن منهم لأنهم غريبو أطوار،لكن كنا نغار منهم…خلال ساعات تمكن مايناهز العشرين الف شخص من تقديم ملفاتهم،ودخل الجميع بعد أيام في امتحان،أذكر انهم في الاسئلة طلبوا منا كتابة الآيات المتعلقة بالافك واسئلة أخرى أعتقد انها في متناول الجميع باستثناء صاحب السيقان المنتفخة،فتى الريف ابن شهبندر التجار الذي لايكتب ولايقرأ لكنه يملك الفي ناقة وضعفها من الأبقار..وفي انتظار صدور النتائج فاجأني صديقي احمد الطالب رحمه الله بمقترح لتصرف ضروري وعاجل كنت قد نسيت موضوعه خلال ايام الحلم بشرطة الامارات.
حيث كنا قبل أسبوعين قد اجتمعنا مع بعض أصدقائنا وقررنا أن ننفذ انقلابا عسكريا بطريقة كوماندوز،دار الاجتماع في بيت الصحافي “ا ولد د”وحضره عشرون شابا،اتفقنا خلاله أن يحضر كل واحد منا خلال الاجتماع المقبل بندقية من نوع كلاشنيكوف،وان مستقبل الخطة سيتحدد تلك الساعة،أحدهم اخبرنا بأن لدى والده مايكفي من السلاح وانه سيحاول بكل الطرق جلب الترسانة بالكامل، وكان صادقا في معلوماته ،خلال الاجتماع طبعا نوقشت فرضية أن ننضم لسلك الضباط ومن داخل الجيش نعد لانقلابنا لاحقا،لكن هذا المقترح اصطدم بحقيقة أننا لن ننجح في الامتحان لأن ابناء الساسة وحدهم من يلجون الأكاديمية العسكرية..المهم ذكرني الراحل احمد بأن علينا اخبار الجماعة في حال نجاحنا بتراجعنا او ان ننسق معهم انطلاقا من الأرض التي سنكون فيها،صدقوني كانت ستكون مجزرة،فالشبان متحمسون والأنا الأعلى ميت،والاستخبارات نائمة،او انها لن تصدق في حال أبلغها أحدهم..انها السن التي يحس فيها الموريتاني بأبشع مظاهر الظلم وهي سن الجموح والجنون والثورة وعدم التفكير في العواقب..ارتأينا ان لانستبق الأحداث وان علينا الانتظار لحين فرز النتائج.
بعد أيام كان اسمي على صحيفة الشعب الأولى وحسب المعلومات التي كنت أسمعها عند الوفود المباركة،فقد نجح معي ابن عم لي يسمى الشيخ ولد من ولد دهاه وآخر في اللائحة الثانية اي في الاحتياط..استبشرت القرية هناك،وتناقل الناس في حي “بي ام دي” الخبر،وخلال أيام تردد اسمي في كل البيوت،انها النقلة التي يتمناها كل شاب لم يخرج من بطن مجندة ولم يولد لعسكري او وزير من الوزراء الدائمين.
عدنا من جديد الى مدرسة الشرطة،وكان الوضع اهدأ بكثير،ارتدينا أحسن الثياب ولا أحد منا يشغله غير اجراء أخبرنا انهم سيقومون به وانه ضروري للتأكد من صحة المكتتب،مربك قليلا لكن لايهم فنحن رجال،ولاحياء في طلب الرزق ومنشفة المنكب وغسول الشامبو ولغة المشرق.
دخلت على رجال يبدو من ملابسهم انهم خليجيون،سألني احدهم: اين درست قلت في المحظرة والمدرسة،فقال لي اين؟ قلت له في محظرة كذا ومدارس خيار وتفرغ زينة والثانوية الوطنية،كان العقيد خميس هو الذي يسأل ويعينه شخصان،اذكر انه سأل الذي كان امامي قبل ان يخرج،مارياضتك المفضلة،فرد ضاحكا او ساخرا: تسلق الجبال،ضحك خميس ورجاله فسر الرجل الذي لفت انتباهي بطوله وقوة بنيته وقد عرفت لاحقا انه باب وانه إن كان، فقد كان أب له من قبل،ماشاء الله..ان كنت أتذكر جيدا،فقد كان فحص البصر هو آخر المراحل..
انتهت الأمور بسلام وعدت الى البيت مع صديقي احمد الطالب الذي كان معي في نفس المجموعة،اي المجموعة الأولى..خلال أيام عشت حنينا عجيبا لهذه البلاد التي تعيش بتوجيهات من فخامته وبمتابعة من وزيره الأول،فرغم انني واصدقائي نعيش في القاع القريب من المجدل الا أنني فكرت لمرات في الاعتذار والبقاء حتى يفرج الله،فالصحافة، جنوني الأول وحلمي الأبدي ستكون حرة يوما من الأيام، وسأكون نجما وسأعد تقارير،واذهب في تحقيقات وووووووو.
لم يقطع تفكيري الا داخل يبارك او صديق يشكوني بثه وألمه يستفسر عن الطريقة التي ستلحقه بنا هناك: أجرا بيتا به معدات الشاي وسألحق بكما فالنوم وشرب الشاي هناك بأمل أفضل بكثير من النوم وشرب الشاي هنا بلا أمل..
وجاءت سكرة الموت بالحق،لم يظهر اسمي في القائمة الأخيرة،هدت أحلامي وآمالي وتم تأجيل النقلة الى الحياة الكريمة،هذا ماخلصت اليه وانا اتتبع بعيني قوائم المستخلصين،أذكر ان والدي حاول اخفاء شعوره: ينسخهم مايظل حد يشتغل ماهم،لايحترمون الناس ولايقدرونهم،لكن كنت أرى في عينيه ذلك الشعور بالضعف والاحساس بأن من فعلوها بابنه هم الساسة الذين كانوا معه في الأيام الأولى لتأسيس الكيان الذي يحق لهم وحدهم تسميته بالدولة،اذ انها دولتهم ومخزنهم وبيت مالهم..
احمد ولد الطالب رحمه الله سيذهب بدوني الى الامارات وكنا آخر اثنين من مجموعتنا التي درست معا وعاشت معا وحضرت لانقلاب عسكري معا..نحن اكثر من اخوة..لم يفرح احمد بنجاحه كما كان يريد وحتى أخواته لم يسعدن بالخبر كما أردن،لكنها ارادة الله وعلية القوم، أو من يدري ربما الحظ لعب لعبته.أخبرني أحمد في حوار خاص ذات ليلة انه سيبذل المستحيل لأكون هناك،وان جنيه لنا معا،وانني…… الى آخر ذلك من كلام لم أكترث له ولم أسمعه مع علمي انه صادق ويتكلم من قلبه لكن لأن مستوى الاحباط لدي بلغ ذروته..لم أعد أفكر.
حملني رسالته الى الجماعة ونحن في المطار: أخبرهم انني سأكون عونا لهم في الانقلاب ولن اتراجع،صدقوني لم يكن يمزح وكان يعتقد بما يقول تماما كما كانت المجموعة تعتقد..ذهب أحمد،ودعته بالدموع،اذ سيذهب عني صديق كان اكثر من عرفت تفهما لمشاعري المتقلبة العفوية و المريضة أحايين كثيرة..ذهب احمد الى الامارات وعدت الى الرفاق تلك الليلة وأخذت مخدتي الى جانب أحدهم واشعلت سيجارة ” لاكي سترايك” تمنيت ان تظل مشتعلة حتى نهاية الأبد..
.لن أعود الى الريف بغسول الشامبو ومابعد الشامبو،لن أجلب المسجل الكبير ولن أركب السيارة النيجيرية ولن أعرف التحويلات المالية الى الدكان “ار مائة وتسعةعشر” ،والأكيد لن ينظر الي سكان القرية باحترام اذ سأظل كما انا العب في ملعب “بي ام دي” وأكتب أشياء تافهة في الصحف ولا اشعاع في اسمي، أي لاجد لي كان مع المختار ولا اب لي حمل الحقيبة الوزارية..سأظل كما أنا باختصار سأظل انسانا لم يهاتف موريتانيا من رقم دولي، ولم يسمع في المطار عبارة “آخر نداء للمسافر محمد الأمين”..
رحم الله اخي وصديقي احمد الطالب.