في تأبين عالم الرياضيات الفقيد يحيى ولد حامدن
كتب الرئيس محمد عال ولد سيدي محمد:
لا يا محمد ناجي ليس الخبر عابرا… لا… كان النبأ صدمة… وهنا (كان) خبرها خبر…
سأتماسك ولن أنكسر.. ترفعني وتقوني أربع وقفات أنا شاهد عليها، وفي بعضها الشاهد الوحيد من البشر.. وأكاد أكون في تفاصيلها كلها الوحيد الذي حضر.
هذه الوقفات، التي يربطها عامل مشترك هو حب الوطن والتفاني في خدمته والعمل على دفعه إلى الأمام، هي:
1) الترشح لجائزة شنقيط ونيلها
2) تنظيم أول مؤتمر للباحثين الموريتانيين في انواكشوط
3) مشروع ثانوية الامتياز العلمي
4) دعم موقف موريتانيا في نزاعها مع شركة وودسايد.
1) الترشح لجائزة شنقيط ونيلها
الدكتور محمد عالي ولد سيدي محمد
الدكتور محمد عالي ولد سيدي محمد
تعرفتُ على المرحوم الأستاذ يحي ولد حامد في بداية سنة 2001 عندما كنتُ أمينا دائما لمجلس جائزة شنقيط للعلوم والتقنيات والآداب والفنون والدراسات الإسلامية.
اتصل بي الفقيد ولم يخف عني أنه يريد أن يطمئن على مدى صدق نية الدولة في احترام شفافية حقيقية لمنح الجائزة، وأكد لي أن العامل الأساسي الذي جعله يفكر في الترشح لنيلها، هو أنه يثق كل الثقة في رئيس مجلسها الدكتور محمد المختار ولد اباه وأنه يريد أن يساهم في رفع مستواها بتقديم بعض من أعماله.
وتتابعت اللقاءات بيننا وقرر الترشح لجائزة شنقيط للعلوم والتقنيات، بعدما اقتنع بأن المشرفين على مَنحها – من رئيس وأعضاء وإدارة – لن يسمحوا لها أن تسلك طرقا ملتوية، ولن يقبلوا أن تخيم عليها أية ضبابية. وتقدم للمسابقة بأعمال في الرياضيات كانت حديثة حول النظرية الجمعية للأعداد وكانت هذه الأعمال عبارة عن أربعة أبحاث نُشرت في المجلات العلمية خلال الفترة 1999-2001.
يدرس البحث الأول هندسة العلاقات ويمكن من تعميم نظريات كلاسكية عديدة مستخدما الطريقة المحيطية وهي جديدة في هذا الحقل.
أما البحث الثاني فيقدم تطبيقات للطريقة المحيطية منها البرهنة على افتراضية أردوش -جراهام – لوين حول مشكلة فروبينيس وقد ظلت هذه الافتراضية بدون حل كامل مدة 30 سنة.
أما البحث الثالث فيبرهن على افتراضية ديدريش حول كتابة عناصر مجموعة كضرب خال من المربعات.
أما البحث الرابع فيثبت نظرية جديدة حول جمع منكوفسكي للفئات.
ولتقويم الأعمال التي قدمها المرحوم يحي ولد حامد اكتتب مجلس جائزة شنقيط خبيرا دوليا في نفس الميدان المتعلق بالأعمال المرشحة، وكان هذا الخبير معترفا به دوليا، ويتمتع بالكفاءة العلمية والنزاهة والاستقامة.
وحسب المعايير التي وضعها مجلس الجائزة لترتيب المتسابقين، تألقت أعمال المرحوم يحي ولد حامد المرتبة الأولى بإجماع أصوات أعضاء المجلس.
كُنا في أول نسخة لجائزة شنقيط وكان عدد المتسابقين في العلوم والتقنيات اثني عشر متسابقا.
ومنح المجلس جائزة شنقيط للعلوم والتقنيات للأستاذ يحي ولد حامد، ومن خلال أعماله قدرَ المجلسُ ما توصل إليه الباحث في علوم الرياضيات من نتائج رفيعة المستوى، خاصة البرهان على تخمينات شهيرة حول النظرية الجمعية للأعداد، مطروحة من طرف كبار علماء الرياضيات المعاصرين، مما سيكون له إسهام بالغ في تقدم البحث العلمي في هذا الميدان.
وسُلمتْ له الجائزةُ من طرف رئيس الجمهورية يوم 30 دجمبر 2001، في حفل رسمي حضره أعضاء الأسرة العلمية والجامعية وأعضاء الحكومة والسلك الدبلوماسي المعتمد في انواكشوط وغفر كبير من الشخصيات البارزة في الوطن، وألقى المرحوم يحي ولد حامد خطابا مازلتُ أتذكر منه: «إن التقدم المذهل للفيزياء يرجع إلى صياغتها بلغة الرياضيات. فلولا وجود الهندسة التفاضلية لما استطاع آلبرت انشتين وضع النظرية النسبية العامة. ولولا نظرية الاحتمالات لما أمكن وضع ميكانيكا الكم».. إلى أن يقول: «وبالتأكيد فإن التقاليد الأكاديمية التي حرص المجلس ورئيسه الأستاذ محمد المختار ولد اباه على إرسائها ستكون بداية جيدة لتلك المؤسسة».
2) تنظيم أول مؤتمر للباحثين الموريتانيين في انواكشوط
بعد نيله لجائزة شنقيط استمرت العلاقة بيني وبين المرحوم يحي ولد حامد حتى أنها انتقلت إلى صداقة واحترام متبادل، وبعد أيام من الإعلان عن فوزه بالجائزة طلب مني رأيي في مشروع ينوي إنجازَه، وكان ذلك المشروع هو تنظيم لقاء للباحثين الموريتانيين في مجال العلوم البحتة والتطبيقية. وتقبلتُ الفكرة بحماس واقترحتُ عليه أن يطلب لقاء رئيس الجمهورية لاقتراح المسألة عليه، إن كان يريد ربح الوقت ويكون عمليا. فاقتنع بما قلت له وطلب لقاء الرئيس واستقبله هذا الأخير.
بعد خروجه من اللقاء برئيس الجمهورية اتصل بي عن طريق الهاتف، والتقينا بعد ذلك بدقائق، وأخبرني: «أن رئيس الجمهورية أعطى التعليمات لتنظيم لقاء للباحثين الموريتانيين على أن يكون ذلك على نفقة الدولة، وأنه هو (أي يحي) طلب من الرئيس أن يكون اللقاء تحت إشراف مجلس جائزة شنقيط، وحسب طرق تسييرها وأن تكون أنتَ المسير للميزانية المرصودة» فقاطعتُه: «وإن رفضتُ» فأجابني : (أعرف أنك لن ترفض) وضحكنا.
وكان هذا اللقاء مناسبة لتدارس وضعية البحث العلمي في موريتانيا وصياغة اقتراحات من أجل إشراك باحثِينا المقيمين في الخارج في تطوير العلوم والابتكار التكنولوجي في البلد.
وكان الهدف منه هو اغتنام الفرصة لإقامة علاقات تضمن اتصالا دائما ومثمرا بين الباحثين الموجودين في الداخل ونظرائهم المقيمين خارج البلد.
ونُظمتْ على هامشه أيام لتبسيط وتعميم العلوم في أوساط تلاميذ المدارس الثانوية في الداخل بغية تحسيسهم بأهمية العلوم.
ونظم اللقاء في الفترة ما بين 24 و26 دجمبر 2002 في قصر المؤتمرات في انواكشوط، وافتتحه رئيس الجمهورية وألقى المرحوم يحي ولد حامد فيه خطابا قال فيه: «إن حركات الهجرة العلمية، التي تسهلها العولمة في عصرنا، تؤدي في أغلب الأحوال إلى إفقار ثقافي لبلاد الجنوب. ولكنها تمكن المهاجرين من تعميق معلوماتهم مما يصعب تحقيقه في البلاد النامية. وهكذا تمكن الاستفادة من موطنينا العاملين في الخارج، وبالذات المتواجدين منهم في الشمال، عبر تكثيف التبادل العلمي الذي قد يستدعي إشراك باحثين أجانب».
لقد شارك في هذا اللقاء ما يقارب 60 باحثا يزاولون أبحاثهم في الجامعات ومعاهد البحث العلمية الأجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، إطاليا، انجلترا، كندا، المكسيك..) والعربية والأفريقية هذا بالإضافة إلى أساتذة كلية العلوم والتقنيات وأساتذة الطب والباحثين الموجودين داخل البلد.
ورُصدت لهذه التظاهرة الفريدة من نوعها 22.827.133 أوقية تكلفت الدولة الموريتانية بـ 16.000.000 أوقية منها وقدم البنك الإسلامي للتنمية الباقي أي 6.827.133 أوقية.
وبلغت المصاريف 15.827.133 أوقية أي أننا اقتصدنا مبلغ 7.000.000 أوقية أرجعناه إلى الخزينة العامة للدولة وكانت سابقة من نوعها.
هذا يعني أن تنظيم هذا اللقاء لم يكلف الدولة في النهاية سوى 9.000.000 أوقية رغم التكلف بشراء تذاكر السفر للباحثين .
فالبيان المالي لهذه التظاهرة مرفق لمن أراد أن يطلع عليه.
3) مشروع ثانوية الامتياز العلمي
دخل علي في المكتب في يوم من منتصف سنة 2003 المرحوم يحي ولد حامد، وأخذ يكلمني في مشروع إنجاز ثانوية امتياز علمي تكون نواة لتكوين نخبة من المهندسين والأطر عالية الخبرة رفيعة الكفاءة. وبعد حديث لم يطل اتفقنا على أن أعد أنا مذكرة ألخص فيها الهدف العام من إنشاء هذه الثانوية، وأقدم فيها شروط الالتحاق بهذه المؤسسة ونظامها التربوي والمواد التي ستدرس فيها، وأن أعطي نبذة عن كيف يجب أن يكون طاقم تدريسها وفكرة عن تكلفتها المالية.
بعد ذلك بأيام التقينا وقد أعددتُ مذكرة من ست صفحات، حاولتُ أن أكون قد أحطتُ فيها بالموضوع، وأن يكون مضمون تلك المذكرة قادرا على إقناع السلطات المعنية بالموافقة على إنشاء ثانوية الامتياز العلمي. وبعد قراءة متأنية للمذكرة أضاف عليها المرحوم يحي ولد حامد بعض التعديلات الطفيفة، وطلب لقاء الوزير الأول وعرض عليه المشروع، وأعطى الوزير الأول موافقته المبدئية وأتفق معه على أن يقدم يحي ولد حامد المشروع إلى وزير التهذيب الوطني.
وفي اليوم الموالي التقى يحي بوزير التهذيب الوطني وسلمه نسخة من رسالة تضم المذكرة التي تشرح مشروع إنشاء ثانوية الامتياز العلمي.
وتتابعت الأيام وتلتها الأسابيع والأشهر وحضر يحي ولد حامد اجتماعين أو ثلاثة، حضرهم بعض معاوني وزير التهذيب الوطني لتدارس المسألة، وكان دائما يخرج المرحوم من تلك الاجتماعات وهو مستاء منكسر العزيمة، يموج في إحباط دالك حتى أنه كاد يتخلص من المشروع.
كنا نريد لهذه الثانوية :
– أن تكون مفتوحة أمام الـ 5000 الأوائل في امتحان الشهادة الإعدادية، الذين سيُسْمَحُ لهم بالمشاركة في مسابقة يُقبل منهم الـ 200 المتفوقين في المسابقة.
– أن يكون البرنامج المدرس فيها طبقا لبرنامج شعبة الرياضيات العامة مع تعميق في بعض المواضيع وإدراج بعض المواد الفنية والتركيز على اللغات الأجنبية.
– أن يُطلب من الأساتذة المدرسين أن يكونوا حاصلين على تكوين عال في اختصاصاتهم وأن يُنشأ سلك للأساتذة المبرزين وأن يُقام بمسابقة خاصة لاكتتابهم وأن يستفيدوا من تكوين إضافي مدته تسعة أشهر.
– أن يكون راتب كل أستاذ 3.000.000 أوقية في السنة لحجم نشاط قدره 15 ساعة في الأسبوع وأن لا يزيد عدد تلاميذ القسم الواحد على 34 تلميذا.
– أن يُستعان بأساتذة أجانب في إطار التعاون الثنائي ريثما يكتمل ويجهز طاقم التدريس الوطني.
– أن تقدم منحة لكل تلميذ يدرس فيها….
4) دعم موقف موريتانيا في نزاعها مع شركة وودسايد
أثار في بداية سنة 2006 ما اتفق على تسميته «ملحقات عقود وودسايد» من جديد النقاش حول العلاقات بين البلدان الفقيرة في العالم الثالث وشركات النفط متعددة الجنسيات.
وجعلت الصحافة الوطنية والدولية من هذا النزاع واحدا من المواضيع المفضلة مدة أشهر. فهو يكتسي في نفس الوقت طابعا قانونيا وسياسيا واقتصاديا وماليا وبيئيا.
وقد برز على وجه الخصوص في وقت كانت تعيش فيه البلاد تغييرا عميقا. لقد أطيح منذ أشهر برئيس الجمهورية بعد أكثر من عشرين عاما من الحكم، وتجري عملية انتخابية من أجل انطلاق ديمقراطية حقيقية: مراجعة الدستور لحد فترة الرئاسة إلى ولايتين على الأكثر وتخفيض مدتها إلى خمس سنوات بدلا من ست، وحد عمر المرشحين للرئاسة إلى خمسة وسبعين عاما على الأكثر، وتنظيم انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية.
إن عقود تقاسم إنتاج النفط الموقعة بين موريتانيا وشركة وودسايد الاسترالية وشركائها، تتعلق بأربعة مناطق في البحر، وتمنح هذه العقود الدولة الحق في فحص وتدقيق دفاتر وقيود الحساب المتعلقة بالعمليات النفطية.
وقد بين البحث الذي أقيم به أن الملحقات المزعومة انطوت على تجاوزات بالغة للقانون، وأن العمل بما ورد فيها يلحق ضرراً جسيماً بالمصالح الوطنية.
ودون أن نأخذ في الحسبان الأثر السلبي البالغ – والذي لا يمكن احتسابه على البيئة والثروة البحرية – يقدر الضرر المالي الذي يلحقه العمل بهذه الملحقات على الدولة الموريتانية بمئات ملايين الدولار.
لقد أعربت الحكومة الموريتانية رسمياً لـوودسايد عن موقفها الرافض لهذه الملحقات، وطالبتها بضرورة قيام شراكة شفافة بينهما قوامها النفع المتبادل واحترام القانون والالتزامات الموقعة عن حسن نية.
فلا يمكن للدولة بأي حال من الأحوال أن تعتمد وثائق حِيكت في الظلام، تتنافى – شكلاً ومضموناً -مع النظم والقوانين أعدت حيفاً لمصلحة شركة وودسايد وحدها.
إن أي موقف غير ذا تتخذه الدولة سيفتح الباب على مصراعيه أمام ترسيخ الممارسات المشبوهة التي من شأنها أن تهدم مستقبلاً الإطار القانوني لأنشطة التنقيب عن المحروقات واستغلالها ويشكل خطراً بالغاًً على المصلحة العامة.
ومما لا شك فيه أن بناء دولة القانون يتطلب خضوع الجميع للقانون.
وتبنتْ الحكومة خيار معالجة هذه المسألة وفقا للقانون وفي شفافية مطلقة.
فمبدأ التسامح الذي اختارته الحكومة الموريتانية حرصا منها على الانسجام الوطني، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يحملها على التغاضي عن المتاجرة بالمصالح الوطنية العليا وتركها دون عقاب أو حساب حتى لا يكون مستقبل أجيالنا القادمة رهينة بأيدي المفسدين.
وفي هذا الإطار اتصل بي – وأنا وقتها وزير الطاقة والنفط – المرحوم يحي ولد حامد مظهرا كثيرا من الحماس في دعم الدولة الموريتانية في النزاع الذي شب بينها وشركة وودسايد الأسترالية، وأكدَ لي أنه يجعل كل مخزونه العلاقاتي وكل قدراته تحت إشراف الدولة الموريتانية، لكي نخرج منتصرين من هذه القضية، وكان يتابع معي كل تطورات المسألة حتى انتهت بنصر مطلق وتام للشعب والدولة الموريتانيين.
رحم الله يحي ولد حامد وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله الصبر والسلوى.
وفي الأخير، لا يفوتني أن أعزى في هذا الأمر الجلل علم الرياضيات ولكن عندما هممتُ بتقديم التعزية استوقفني طائفٌ يقول:
الرياضيـــات اتـْــوَفاتْ
عند امْنَين اتوف يحيَ
ذاك اِبَرْهن عنها مَـتاتْ
عَاكــبْ يحيَ لاهِ تحيَ
ولله الأمر من قبل ومن بعد وإنا لله وإنا إليه راجعون.
20 مارس 2011.