ومن الرعب ما(3) الجزء الأخير
الزمان أنفو _
..توقف هديرُ المحرك تماما في نفس اللحظة التي طار بنا الزورق في خط متعرج، و حين ارتطم بالماء لطمتنا موجة أخرى أزاحت الزورق كقطعة دومينو على سطح زجاجي.
بذل القائد جُهدا خرافيا لتفادي السقوط، حيث فاجأته الموجة و هو يُعالج المحرك في مؤخرة الزورق، في حين بقينا مُتكورين داخل بطن نُونِنَا الحديدي، الذي عبَّ من الماء، فشرِقَ بنا، حتى أصبح لزاما علينا الجلوس بوضعية مُرهقة على المفاصل الحديدية الواصلة بين حوافِ الزورق، و هي مرتفعة نسبيا عن قاعه، صرخ الفلبيني بكلمات لم نفهمها و إن كانت تُفهم في السياق العام لمعاني الكلمات، ذعر، خوف، رعب، وجل..
لغة الخوف كالإشارات العالمية تماما، لغة موحدة، لا تحتاج لترجمة أو تفسير.
الآن، ارتفاع الموج و حدته و انحساره كل تلك القوة مجتمعة بآثارٍها المُحبطة المُخيفة، هي المتحكمة بزورقنا، و لا حول و لنا و لا قوة، بل لا عمل غير التشبث و الدعاء، تعلوا الصرخات حين يطير كسمكة سردين، ثم تهبط القلوب حين يرتطم مُحدثا صوتا ليس لطيفا بالمرة، كأنه سينقسم لنصفين، صوتٌ يرفعُ القلوب للحناجر، أدركت يقينا بأن حبل السلامة بدأ يتمزق و أن عودتنا سالمين لن تكون إلا بعناية إلاهية عِيلَ صبرنا في انتظارها.
كان زميلي بجانبي و قد أمسك بكلتا يديه المفصل النصفي العمودي للزورق، هازا ظهره للأمام و عائدا للخلف في حركة متكررة، تماما كيهود حائط البُراق، وددتُ أن أتكلم معه لأرى إلى أين وصلت طاقة تحمله، لكني خشيت أن أكون شرارةً لانفجار مَرارتهِ، تركتهُ و رُحت ببطء أحاول الوصول للقائد، فاجأني الفلبيني و هو يمد لي يده يُساعدني في تخطي حقائبه المتناثرة و التي أضحت أشبهَ بمقتنيات مُتسول، من مهندسٍ عائد لأهله، قلت في نفسي لابأس مازال في الرجل بعض من قوة.
لم أكد أصل لمؤخرة الزورق حتى تعالى صوت المحرك، صرخ الفلبيني فرحا و كأنه في ليلة رأس السنة، صديقي الذي كان مُستلما المفصل الحديدي لا يتركه، وقف ثابتا رغم قفزات الزورق، و ضربات الموج المتلاحقة، مُتهلل الأسارير، تعبث الريح بشاله الأزرق، كان أشبهَ بمسخٍ من مُسوخِ الزومبي، ذكرني بعجوز من الطوارق لم يطرقها طارق، بشروها بعريس فطفقت ترقص و قد تناست كل أمراضها، كنت هناك شاهدا على تلك الرقصة العجيبة في صحراء وادعة، كم تمنيتُ لو ضعت فيها، لتكون بديلا لهذا الوحش الفاغر فاه.
أخيرا أصبحنا نتجه في خط شبه مستقيم، رائحة العادم التي كنت أتأفف منها، أصبح لها عبق بخور أمي، كم تمنيتُ أن لا تتوقف عن الإنبعاث.
دخلنا الميناء و كأننا أسرى حرب بمظاهر مُزرية، التفتُ لصديقي:
– عنك كُول أنك ما انخلعت!!
ضحك كطفل صغير، أُعيدت له لُعبتهُ، بعد بكاءٍ مُر مُجيبا بصوتٍ عالٍ و كأن هلعهُ لم يزل بعد:
– وجهتلك رسول الله فُلاني كاع أخبارو من لبحر؟؟
ضحكتُ حتى سالت دموعي، مُطمئنا إلى أنَّ الموجَ قد اكتفى منا.
صلاح الدين الجيلي