الاستراتيجية البحرية الشمولية
كتب سيدي محمد ولد امحمد شين:
الزمان أنفو _
يعتبر البحر وسطا موحشا له قوانينه ومعايره ونظمه الخاصة به والموحدة دوليا بإشراف من المنظمة الدولية البحرية(OMI) ومنظمة الاغذية والزراعة (FAO)التابعتين للأمم المتحدة وبمتابعة حثيثة من المنظمات المهنية والحرة المتخصصة في مختلف مجالاته والتي تشهد تطورا مستمرا من حيث التكنولوجيا والنظم والمعايير في مختلف عمليات الصيد والنقل والخدمات البحرية.
هذه الخصوصية البحرية فرضت تطبيق استراتيجيات شمولية لتوحيد النظم والضوابط حسب المعايير الدولية المتعارف عليها في مختلف العمليات البحرية وخاصة في مجال السلامة والامن والمحافظة على البيئة البحرية. فاجمع خبراء هذه المنظمات الدولية على ان النظرة الشمولية هي فعلا أحسن طريق لضمان تطوير متزامن ومتكامل للعوامل الأربعة الازمة لمزاولة أي نشاط في الوسط البحري والتي هي [العمالة، السفن، الموانئ، والثروة المستخرجة]. ولان كافة هذه الانشطة من صيد او نقل او خدمات او ترفيه تمارس بنفس العناصر الاساسية الاربعة التالية
العنصر البشري بحارة صيد او نقل او ترفيه…
الية الانتاج او النقل السفن مهما اختلف طولها او عرضها او حجمها او تجهيزها ….
المخزون المستخرج او المنقول سمك او بترول او غاز او بضاعة او …..
الموانئ لرسو السفن وتفريغ المنتوج سواء كان سمك او بترول او بضاعة او…
كما أن اتفاقية الأمم المتحدة الاساسية لقانون البحار الموقعة سنة 1982 في (MONTEGO BAY) والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالسلامة والأمن البحريين قد أعطت مسؤوليات جديدة وفرضت التزامات ونظم ومعايير موحدة على الدول المطلة علي البحر في ميدان استغلال هذه الموارد البحرية، وحماية البيئة البحرية، والسلامة والأمن، وتسيير المرافق المينائية. هذه المسؤوليات تتطلب حتما تعزيز القدرات البشرية والمادية والتقنية والمالية للإدارات البحرية الوطنية المعنية من أجل الوفاء بتلك النظم والمعايير التقنية.
هنا بدأت غالبية البلدان البحرية على الفور في إعادة تركيز وتنظيم وتنسيق كافة جهودها الفردية وتنظيم نفسها على المستوى الإقليمي في مذكرات تفاهم من أجل لعب دورها واتخاذ إجراءات أكثر تماسكا وأكثر فعالية في هذا الوسط الموحش.
كما شكل تنامي ظاهرة تعرض وشحن البضائع المتنوعة المنقولة بحرا للخطر، فضلا عن تطوير أنشطة اقتصادية وترفيهية أخري، إلى تغيير دور الدولة في عرض البحر حسب المنظومة القانونية البحرية الدولية الموحدة حيث أصبح المصطلح المتعارف عليه لتعريف “دور الدولة المدني في البحر” يشمل كافة الأنشطة، باستثناء تلك المتعلقة بالدفاع الوطني. وبالتالي أصبح متنوعا حسب نظم ومعايير النشاط المزاول فتارة يكون تنظيميا وتارة إداريا وأحيانا تسيير يا، وأحيانا أخري تنفيذيا وكذالك شرطيا.
في الواقع تلعب الدولة عدة ادوار منها ما هو اقتصادي وسيادي ودفاعي بحيث تتداخل صلاحيات الإدارات المكلفة بتنظيم الأنشطة الاقتصادية من صيد بحري، وتربية أحياء مائية، ونقل بحري، وخدمات فنية بحرية، واستخراج نفط أو غاز، وطاقة بحرية، وسياحة مع صلاحيات السلطات العمومية المكلفة بالرصد والرقابة، وحماية البيئة البحرية، والسلامة البحرية، والأمن والإنقاذ مما يتطلب أحيانا جهودا كبيرة لتنسيق الدور علي أكمل وجه قد تكون مكلفة لخزينة الدولة. لترشيد وتنسيق وتفعيل ذالك الدور ولتفادي هذه الوضعية أصبح من الضروري جمع وصهر تلك الإدارات والمؤسسات في وكالات شبه تجارية.
لهذه الاسباب لجأت معظم حكومات الدول المطلة علي البحر إلي رسم استراتيجيات شمولية تسعي الي تجميع مختلف جهود الدولة من إدارات ومؤسسات عمومية ذات المهام البحرية لكي تستجيب لمتطلبات ومسايرة ومتابعة نظم ومعايير الاعتمادات والتراخيص الممنوحة للشركات المهنية العاملة في مختلف انشطة الاقتصاد البحري. ولكي كذالك تتمكن من تسيير موانئها، واساطيلها، وجميع الأنشطة الاقتصادية المزاولة في مياهها الإقليمية والدولية بشكل متناسق وفعال يضمن مردودية أكبر على الاقتصاد الوطني وديمومة أكثر.
في هذا السياق، فإن موريتانيا، شأنها في ذلك شأن جميع البلدان البحرية، ملزمة بالامتثال وواجب عليها رفع أداء إدارتها على أعلى المستويات من أجل مواجهة التحديات الرئيسية التي تفرضها إدارة وتسيير منطقتها الاقتصادية الخالصة، وشواطئها، وسفنها، وموانئها، وغير ذلك من الأنشطة المتصلة بالبحر للعب دورها كما ينبغي.
بيد ان موريتانيا لم تحذوا حذو تلك الدول وركزت في مجمل استراتيجياتها البحرية على تنمية نشاط الصيد البحري وحده مهملة بذالك تلك النظرة الشمولية التي نتجت عن العولمة الاقتصادية البحرية والتي اعتمدت من طرف معظم خبراء البحر كضامن اساسي لتطوير متزامن لتلك العناصر الاربعة اللازمة لمزاولة أي نشاط اقتصادي في هذا الوسط.
فأصبحت كل تلك الاستراتيجيات النظرية التي بنيت على حلول جزئية تمويهية ومؤقتة تخدم فقط المصالح الشخصية واللوبية للأنظمة المتعاقبة منذ 40 سنة معاقة كأنها مشلولة لم تستطيع تحقيق الاهداف التنموية المنشودة منها ولا الاندماج الفعلي في نسيج الاقتصاد الوطني ولم تتمكن موريتانيا من مقاربة الوصول الي الريع الاقتصادي والاجتماعي الذي تحصل عليه جيراننا من الشمال والجنوب من ثرواتهم البحرية.
فكانت النتيجة كما تعلمون هزيلة في قطاع الصيد البحري وعديمة في قطاع النقل والخدمات البحرية رغم ان الثروة السمكية والمعدنية والغازية الهائلة ومستوي حجم التبادل التجاري المرتفع يؤهل بلادنا الي احتلال مكانة ارفع على مقياس مؤشر النمو الاقتصادي للبلدان السائرة في هذا الطريق والوصول الي مصاف الدول التي شهدت نهضة اقتصادية بحرية قفزت باقتصادها الوطني الي وضعية مريحة تضمن لها الاستقرار.
صحيح ان النظام ورث وضعية صعبة لقطاع الصيد والاقتصاد البحري تجلت في فوضوية عارمة ومزمنة في مجمل مستوياته التسييرية وفي جميع اقسامه التقليدية والشاطئية والصناعية وفي ندرة المخزون الا انه رب ضارة نافعة. فهذه الوضعية التي بلغ الانذار فيها اوجه لن تجدي فيها سياسة ذر الرماد في العيون ولا الحلول الجزئية ولا التغطية على الفساد والرشوة وسوء التسيير بل تتطلب حتما اعادة تأسيس متأنية مبنية على اسس صحيحة وصريحة في نظرة شمولية لتنمية مستديمة فعالة ومنسقة لكافة الانشطة الاقتصادية البحرية المزاولة في هذا الوسط الموحش.
هذه النظرة الشمولية ستسمح مما لا شك فيه بفتح فرص استثمارية جديدة للفاعلين الخصوصيين الوطنيين تعتبر مصدرا للثروة ورافدا أساسيا للعمالة في مختلف الأنشطة الاقتصادية التي تجري في البحر أو بالقرب من البحر. كما ستؤدي كذالك الي استعادة جزء كبير كان مفقودا من مداخل خزائن الدولة، من خلال الإتاوات والضرائب على الخدمات المهنية المقدمة للمشغلين، والشركات المهنية والسفن.
إلى جانب الاستفادة من الأثر الاجتماعي والاقتصادي الايجابي على الاقتصاد الوطني بصورة عامة تشكل هذه النظرة ضمانا يشجع المنظمات المانحة ويدفع كبريات الشركات المهنية المستغلة للثروات البحرية على الاستثمار في البلد لان ظروف مزاولة أنشطتها اصبحت أكثر ملائمة مع النظم والمعايير البحرية الدولية المطلوبة.