كلمة في حق محفوظ ولد لمرابط
شهد تاريخ موريتانيا دوحة مباركة أنجبت رجالا عمالقة أفذاذا، بنوا مجدا و حضارة ، رجال علم و دين و سياسة و شعر و منطق و فروسية، ذاع صيتهم و عم نفعهم. المغفور له، محفوظ ولد لمرابط هو سليل تلك الدوحة العطرة و وارث سرها و هو أحد حملة مشعل أمجادها التليدة. هي لحظة حزينة تلك التي تلقيت فيها نبأ رحيل المفغور له بإذن الله الأديب العلامة الفهامة الدراكة النحرير القاضي والأستاذ محفوظ ولد لمرابط، تغمده الله بواسع رحمته.
القلب مندثر والشمس غابت وحل محلها ليل بلا قمر الأرض ضاقت والحدائق لا تشدو ولا زهـــر هي الأيام تجمع وتضحك ثم الوداع المّر منتظر وتبقي الذكريات تطوف بخاطرنا و لا نجد أيها السادة إلا الرضا بحكم القدر . بيني و بين هذا الرجل محبة خالصة. فكان كلما لقيني عبر لي عن ذلك بقوله: “أحبك حبين، أحدهما في الله و الآخر لأسباب تخصني” لله درك من حباك بفضله خلقاً تجاوز في الثناء نشيدي أوتيت قلباً كالنسائم رقة قبل القريب عطاؤه لبعيــد بيني وبينك ألفة ومحبة يسقي كلانا غرسها لمزيـد. بحق هذه المحبة و من أجل هذه المحبة و وفاء لهذه المحبة، ثم امتثالا لقوله تعالى: “و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنه آثم قلبه” كان لزاما علي الإدلاء بشهادتي في حق هذا الإنسان المتميز و إن كنت على يقين أنها غلامة ظفر لن تؤدي معشار ما يتصف به الفقيد من خصال و فضائل. كان الراحل رحمة الله عليه نموذجا في الأخلاق وطيب المعشر، كان إنسانا بسيطا متواضعا رغم أنه نجم علمي سواء في لغته العربية أو في علوم دينه، أو في خدمته لهذا الشعب وهذا البلد. تلك الخدمة التي أداها بهدوء وبدون مـنّ أو ضجيج أو تباه… مهنة القاضي النزيه، الذي قاد أكبر مؤسسات القضاء في هذا الوطن، ومهنة الأستاذ الجامعي، الذي تفرعت منه ينابيع العلم الزكي آخذة مجراها في العشرات من طلابه و محبيه.. كان رحمه الله من جيل المؤسسين، الذي قدم روحه وعرقه ونضاله جسرا تعبر عليه الأجيال، وكان محبا لمجتمعه، كل مجتمعه، ومدركا لقيمة الإنسان الموريتاني حضاريا في هذا الجزء من الوطن الكبير. وكان يتابع أداء جميع الحراك الوطني الاجتماعي والعلمي والثقافي و السياسي. و كانت مسافته من ذلك الحراك على قدر ما يرى أنه يخدم المصلحة العامة. كان إنسانا عالي ألأخلاق، سريع الفهم، و سريع البديهة، وكان ينزل الناس مناولهم، ويقول كلمته بكل عفوية دون تكلف أو تزلف. أذكر يوم ألقيت خطاب حفل تشدين مركز الأنكولوجيا أمام رئيس الجمهورية.. لقد تقدم مني صحبة بعض السفراء العرب وقال لي “أهنئك بهذا الخطاب الراقي و أهنئ نظام ولد عبد العزيز بمثلك”.. ثم قال “لكني أخشى أن تكون قد وقعت بهذا الخطاب المتميز إقالتك من الحكومة لأن فاتورة التميز في بلدنا هي الإقصاء “. كان لا يقرأ ما بين السطور فحسب، بل “يقرأ ما بين الأحداث”. إن الرحيل سنة الباري جل و علا في خلقه، وليس من حقنا التساؤل لم يرحل أحبابنا.. ولكن يجب التساؤل عن ما الذي رحل عنه أحبابنا.. الراحل الحبيب ترك تراثا أدبيا وأخلاقيا شعاره العطاء بلا حدود، ترك مدرسة مشرعة الأبواب للراغبين في تعلم العظمة على بساط العفة والنفع العام وغرس وسائل الفضيلة والطيبة والشهامة وعلو الهمة..كيف لا وهو سليل دوحة فيحاء أعطت لهذه الأرض أروع دروس البطولة والشجاعة والكرم، وروتها باللغة العربية منذ البيعة الكبرى بين سيدي محمد الكنتي وناصر ابن عنترة.. الأبوين المؤسسين لـ”مجتمع البيضان”. و إذا كان الأستاذ محفوظ ولد لمرابط قد رحل تاركا ذلك الفراغ الهائل في نفوس الأهل والأحبة والعشير والوطن.. فقد ترك كل ما يمكن أن يتركه الإنسان من جمال الخلق والفعل في هذه الحياة العابرة.. التي لن تكون إلا جسرا للجميع يعبر من فوقها، لكن الفائز الحقيقي، هو الذي يخلف وراءه روح الحب والجمال، الشهامة والكرم، الأدب والعلم، وكل ما ينفع الناس.. وكم كان محفوظ ولد لمرابط ينفع الناس.. لقد كان نخلة عربية باسقة، ودوحة أدبية معطاء، وضميرا إنسانيا حيّا.. ترجم تراث الأجداد العظام، ضيافة وخدمة وحلما وعزا و معرفة و عرفانا.. كيف لا و هو سليل المجرات.. إن مثل الفقيد يعز علينا فراقهم كما يستحيل علينا نسيانهم لأنهم تسربوا في ذاتنا وسكنوا أعماقنا وأصبحوا نبضاً في شراييننا يلهموننا سر الحياة وصدق المشاعر ونبل العواطف. فإذا رحل عنا بجسده فان روحه سيحلق دوما في سماء دواخلنا ، وأعماله ستظل ماثلة أمامنا. لقد كان رحيل محفوظ ولد لمرابط، خسارة كبيرة للوطن.. وجاء في وقت خسرت فيه البلاد العديد من رموزها ورجالها الأفاضل من أمثال بداه ولد البصيري و محمد سالم ولد عدود و الرئيس محمد المصطفى ولد السالك، والرئيس با امباري، و عبد الله ولد انويقظ ومحمد سالم ولد لكحل.. و غيرهم. و نحن على يقين تام بأننا فقدنا فيهم رموزاً ناصعاة و أقماراً ساطعة كانت يتلألأ في سماء بلدنا. و لا نملك إلا رفع أكف الضراعة و الابتهال إلى الكبير المتعالي. اللهم أغدق عليهم شآبيب الرحمة و الرضوان. اللهم أنقلهم من ضيق اللحود والقبور إلى سعة الدور والقصور في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللهم نور مرقدهم وعطر مشهدهم وطيب مفجعهم وآنس وحشتهم ونفس كربتهم و قهم عذاب القبر وفتنته. اللهم كن لهم بعد الحبيب حبيبا ولدعاء من دعا لهم من المؤمنين سميعا ومجيبا وأكتب لهم في مواهب رحمتك حظا ونصيبا. اللهم أغفر لهم وأرفع درجتهم في المهديين ، اللهم أفسح لهم في قبرهم ونور لهم فيه. اللهم بارك لهم في حلول دار البلي وطول الإقامة بين أطباق الثرى واجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلهم و افسح لهم بالقرآن العظيم ضيق وظلمة مداخله. اللهم بيض وجوههم يوم تسود وجوه العصاة في موقف الحسرة والندامة يا كريم – أللهم حط عنهم ثقل الأوزار وهب لهم بالقرآن شمائل الأبرار واجعلهم في مقام من قاموا لك بالقرآن آناء الليل وأطراف النهار حتى توجب لهم غفرانك وجزيل إحسانك ومواهب صفحك ورضوانك ، يا أكرم من سئل وأوسع من جاد بالعطايا. و بارك اللهم في الخلف.
بقلم الدكتور الشيخ ولد حرمة ولد ببانا