أحمد ولد عبدالله :في تأبين القاضي محفوظ ولد لمرابط
دُعَابَة محمودة في الحياة ومبشرات مذكورة بعد الممات
يلزمني ـ مما أطيق من محسنات الاستهلال ـ أن أتوجه بالتحية والشكر إلى زملائي القضاة في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، على هذه المبادرة الكريمة المشكورة التي تجمعنا بفضلهم اليوم، لتأبين أستاذنا وفقيدنا القاضي محفوظ ولد لمرابط يرحمه الله.
ولئن كانوا في تأبينه مسبوقين، فلهم خير اللاحقين، وإنهم ـ والحق أقول ـ بالقضاء لخليقون، وبمناصبه الآن جديرون، وهم في غنى عن بقية أشهر التكوين. إن اجتماعنا هذا لنتواصى بالصبر، ونظهره، ونثني خيرا على ميتنا ببعض ما نعرف من محاسنه، من الأعمال الصالحة التي تدخر، ففي صحيح البخاري “باب ثناء الناس على الميت”، وفي صحيح مسلم “باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى”، وفي البابين أحاديث معروفة. لقد شرفت بأن كنت واحدا من كثيرين تتلمذوا على الفقيد محفوظ ولد لمرابط، وعرفت منه ما يذكر حسنا، ورأيت أنه حري بي أن أقول ببعضه. أذنت من يوم أصبنا فيه لما قيل عنه، وتبصرت ما كتب، وعلى وفرته، ووفائه بالمقصود فإنه لم ينزح مورد محامده الذي لا يثمد. ثم إني تنبهت إلى أنه من حسنات فقيدنا خصلة محمودة لم تذكر عنه إلا عرضا، وهي الدعابة الفطرية التي فيه، فخشيت أن يكون مرد ذلك إلى ما يعتبره البعض من أنها من الخصال التي لا يحسن ذكر الموتى بها، فأردت في هذه المداخلة أن أعرض لها بتأصيل مشروعيتها وكونها من محامد الرجال، ثم أشير بلطف إلى مبشرات للفقيد أعلمها. الدعابة؛ لقد كان فقيدنا محفوظ ولد لمرابط يرحمه الله على قدر كبير من الدعابة والظرافة والملاحة، وخفة روح في رجاحة عقل، وكان ذلك لديه فطريا مطبوعا لا أثر فيه للكلفة والتصنع، ووضع الله له به قبولا بين الناس لم يضعه لغيره في عصرنا وقطرنا. والدعابة هي الانبساط للناس، ومفاكهتهم، والتعبير عن الأمور بخفة وظرافة تطيب الخواطر، وتدخل السرور والتسلية على القلوب، فتنشرح الصدور، ويذهب الملال، والكدر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير التبسم في وجوه الناس، ففي صحيح الترمذي من حديث عبد الله بن الحارث ” ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وفي صحيح مسلم ” لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”، وأخرج الترمذي، وقال حسن صحيح من حديث أبي هريرة قال: “قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا”. وبهذه السنة النبوية استن الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم { الحديث في صحيح مسلم}، وكان منهم أصحاب دُعابة مشهورين، منهم نعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري، وهو صحابي جليل من كبار الصحابة وقدمائهم، شهد العقبة الثانية، وبدرا، والمشاهد، وكان مضحكا، ذا دعابة زائدة، له ملح كثيرة منها أن مخرمة بن نوفل وقد عمي بعد أن زاد على المائة أراد أن يبول فقاده نعيمان رضي الله عنه إلى ناحية من المسجد وأجلسه، وقال له دونك هذا المكان، فصاح به الناس، فقال من قادني، فقالوا نعيمان، فقال لأوجعنه ضربا بعصاي إن وجدته، فمكث عنه فترة، ثم جاء إليه وعثمان رضي الله عنه أمير المؤمنين، فقال هل لك حاجة في نعيمان، فقال بلى، فأخذه إلى عثمان قائما يصلي، وقال له دونك نعيمان فعلاه بعصاه، فصاح به الناس ضربت أمير المؤمنين. ومن أهل الدعابة من الصحابة أيضا عبد الله بن حذافة السهمي، الذي يروى أنه حل حزام رحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليها حتى كاد يقع، وأمر بعض الصحابة وهو عليهم أمير باقتحام نار أوقدوها لبعض شأنهم حتى هم بعضهم باقتحاهما، فكفهم، وقال كنت أ مزح معكم. ومنهم أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي الذي تكلم فيه بعض أهل الأهواء بسبب دعابته، وهم في ذلك كاذبون. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول ” إني أستجم ببعض الباطل ليكون أنشط لي في الحق”، ويعني بالباطل المزاح والهزل. أخذ السلف الصالح خلق الدعابة عن الصحابة رضي الله عنهم، فكانت خلقا لدى العلماء، ومن أشهر أصحاب الدعابة من السلف إمام التابعين عامر بن شراحيل أبو عمر الهمداني الشعبي، وملحه ودعاباته كثيرة مشتهرة، كان واقفا مع امرأة تستفتيه فسألهما رجل أيكما الشعبي فأشار إلى المرأة بهذه، واستفتاه أحدهم فقال له “رجل سبني في اليوم الأول من رمضان أيؤجر”؟، فقال الشعبي إن قال لك يا أحمق فنعم. ولم يزل هذا الأدب في العلماء، حتى سمي دعابة العلماء، ولم يخل عصر من العصور، من علماء مشتهرين بالدعابة. وإذا كان سفيان بن عيينة رحمه الله قد قال ” إن المُزاح سنة ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه” فقد كان لعمري فقيدنا محفوظ ولد لمرابط ممن شأنه ذاك معه. كانت دعابته فطرية أصيلة وليدة بيئة اجتماعية معروفة بذلك، وتربية علمية متأدبة بأدب الصحابة والتابعين وسلف الأمة، وهناك نكتة لابد من الإشارة إليها، فقد كان أبو الدرداء ممن ذكرنا من الصحابة أول قاض بدمشق، وتولى الشعبي القضاء أيضا، وأستاذنا محفوظ يرحمه الله كما علمتم قاض. وقد وجدت من خلال تمعني في سيرة الشعبي، وخلقه وسمته ودعابته، أن فقيدنا على شبه كبير به، وأكاد أقطع أنه على تأثر كبير به. لم يكن محفوظ ولد لمرابط يرحمه الله يتكلف الدعابة بل كان يلقي بها على البديهة، وتأتيه طائعة عفو الخاطر، وكان إلى ذلك يطوعها فيستخدمها للإشارة في أدب إلى معان شرعية سامية، ويعبر بها بجراءة عن الحق، ويلقي بها العلم في أريحية تزيل السأم ليفهم عنه، ويلتقط بها نكتا معرفية رائقة. سأله أحد رؤساء الدولة الذين عمل معهم مشمئزا بعد استدعائه على عجل: “أصحيح أنك تسمر على لعب الورق؟”، لم يجبه على السؤال مباشرة، مع أنه رئيس مرهوب، ونقله بدعابة في اتجاه آخر ( ذل كالهالكم إياك ما كالكم عن يغلبن فيه)، لا نفهم من هذا أنه يرحمه الله يلعب الورق في الواقع بل ينبه الرئيس إلى ما عليه بعض أعوانه من نميمة مذمومة، يراد منها الإيقاع بالآخرين، وأن المبلغ ربما يأتي مثل ما يبلغ به، ويرمي به الآخرين إبعادا للشبه عنه، وينبه الرئيس أيضا إلى وجوب التثبت الشرعي، وإلى أدب نبوي من شأن كل حاكم أن يعرفه، كما في حديث مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود . أستفتته مسؤولة سامية في وقت غير مناسب، حيث كانا ضمن صف من كبار رجال الدولة في المطار لاستقبال رئيس دولة ضيف عن ما عنده عن مصافحة المرأة المسؤولة للمسؤول الأجنبي، فأجابها ، فتشاغلت عنه، وكان الضيف يقترب شيئا فشيئا، فلما حاذاها ومدت له يدها، قال دون أن يجهر أو يخافت ” عندك النار” فقبضت يدها بشكل لا إرادي، وكان الضيف قد مد يده إليها فأرتبك، فكان هذا قولا بالحق في جراءة ودعابة. بدأ عمله في مؤسسة دستورية، وفي أول يوم رن الهاتف، ولما تناوله إذا متصلة تبادر قبل السلام تسأل: “ذاك الفقيه”، فأجابها بسرعة يريد أن يقطع المؤسسة الدستورية عن مهمة لم تكن من مهامها. في رمضان سنة 2002 كان أول لقاء لي بالفقيد في فصل دراسي من فصول المدرسة الوطنية للإدارة، ـ قبل أن يزاد في اسمها، ويزاد لما زيد في الإسم من أمد التكوين ـ، وكنت ناجحا لتوي مع دفعة الخمسة عشر في مسابقة القضاء، وكان الحديث عاما حول خطورة وظيفة القضاء، وكان بعض الزملاء يعرض بعض ما يرد في ذلك، وهو يعلق، ويصوب، إلى أن أورد أحدنا في التخويف من القضاء حديث النسائي المعروف ” القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة…” فعلق أستاذنا عليه بقوله ، محل النكتة العلمية واضح، فالواحد ثلث الثلاثة، وهو من القضاة بالحديث في الجنة، وليس هذا لأي هيئة أخرى، وتعكس هذه النكتة فهما ثاقبا لدى المرحوم، وهو يشير بها إلى معان اطلعت عليها لاحقا، يوردها كثير من أهل العلم، فحواها أن ما يرد في التحذير من ولاية القضاء ليس على وجه الذم، بل على وجه التعظيم. خرجنا من الفصل يوما في استراحة، فتفرق الزملاء، وبقيت إلى جانب الفقيد مع زميل، فأخذه الزميل جانبا عني يسأله، فتنبه لوقوفي منفردا، فدعاني إليهما، وقال ” نحن القضاة لا ينفرد منا أثنان خشية أن يكونا صاحبي النار”، وهو يعبر بهذه النكتة عما في الحديث من حرمة تناجي اثنين دون ثالث { الحديث في صحيح البخاري/ باب لا يتناجى اثنان دون الثالث}. يستخدم القاضي محفوظ ولد لمرابط يرحمه الله الدعابة للخروج من مآزق، لو لم يكن لها لكانت مصائب، في تاريخ ـ ما ـ بإحدى الولايات كانت تجري محاكمة جنائية، قال أحد الأطراف يدعي وقوع كرامات له، إن هناك جملا للأسرة إذا مثل أمام المحكمة سينطق بالحقيقة، وكان فقيدنا وقتها في النيابة العامة، وأجل القاضي المحاكمة، وفهم منه أنه ممن يتأثر بمثل هذا الكلام، ويمكن أن يأذن فيه، فكلمه، فبدا له مستعدا لسماع الجمل، فحاول أن يثنيه فاستعصى، وطال النقاش، فقال له أنا لا أنكر أن جمل آل فلان يمكن أن ينطق، ويمكن أن يفيد المحكمة لكن لدي إشكالان مردهما إلى أن مركز الجمل سيكون مركز الشاهد، وقد قال الله تعالى ، فأين الجمل من ذلك، وإذا تجاوزنا هذا الإشكال وشهد الجمل، وطلب الخصم تعديله، فمن سيعدله: الرجال أو الجمال، وهل ستنطق جمال لغير آل فلان؟ فبهت القاضي، وتبين رشده، وعدل عن سماع الجمل. المبشرات؛ وهي مما يستدل به أهل الدنيا على ما عليه حال أهل البرزخ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بالجنة، كما هو شأن العشرة المعروفين، وغيرهم كثير، وكان يخبر بعض الصحابة بقبول بعض أعمالهم، ويخبر بعض ذوي أصحابه بما صاروا إليه بعد الموت كما في خبر حنظلة بن أبي عامر الأنصاري، والآثار بذلك معلومة، وموجودة في مواطن مناقب الصحابة من كتب الصحاح والسنن. ولما حوصر عثمان رضي الله عنه ذكر لنفسه بعض المبشرات، منها ابتياعه الجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بحفر بئر رومة، والأخرى بتجهيز جيش العسرة، ومنها أنه لم يلمس بيمناه فرجه منذ بايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام. وذكر المبشرات بما عليه حال الميت تعزي الأحياء فيه، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد المصاب في أخيه زيد الذي استشهد يوم اليمامة، ويروى عنه القول ” ماهبت الصبا إلا ذكرتني زيدا”، وكان يدعو متمم بن نويرة ويستنشده مواجده الشعرية في أخيه مالكا المقتول في حروب الردة، وعند ما ينشده يقول عمر “وددت أني رثيت أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك مالكا”، فقال له متمم مرة ” والله لو علمت أن أخي مالكا صائر إلى ما صار إليه أخوك زيد ما رثيته”، فقال عمر رضي الله عنه “ما عزاني أحد في زيد بمثل تعزيتك”. ونحن من هذا القبيل نذكر بعض المبشرات التي نحسب أنها لفقيدنا محفوظ ولد لمرابط، ولا نزكي على الله أحدا. فضل العلم؛ نعلم جميعا أن محفوظ ولد لمرابط يرحمه الله كان عالما جليلا، خاصة بالعلم الشرعي، فقد كان حافظا لكتاب الله، فقيها أصوليا، ملما بجميع فنون العلوم الشرعية، وأثبت ذلك بشكل قاطع زميلنا القاضي الفاضل باب ولد محمد أحمد في مداخلته العلمية الرائعة في التأبينية السابقة. ولأهل العلم ثلاث مبشرات: الأولى شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالخير، كما في حديث الصحيحين ” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”. والثانية إثبات الأجر في الصواب والخطأ، والنص فيه حديث مسلم في الصحيح ” إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر”. والثالثة العمل الجاري، بما يترك العالم من علم ينتفع به، ولفقيدنا نصيب وافر من هذا العمل، والنص في ذلك حديث مسلم في الصحيح ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
القاضي أحمد عبد الله المصطفى