قراءة من امرأة

الزمان أنفو :
……..ا
تلقيتُ منذ أيامٍ اتِّصالاً هاتفيا من الأستاذة مكفولة بنت آگاط ، وعدتني فيه بإهداء نسخة من كتابها الوليد “مُذكِّرات امرأة قارئة”، وكذلك فعلتْ مشكورة،.. لم يسبق لي الشَّرف بالتَّعرف على المؤلفة، لذلك حاولتُ بحرِّيَّة جمع شتات ملامح شخصيتها من الكتاب،..
أستاذة متخصصة في التاريخ، تملك شهية للقراءة بطاقة نووية، راكمت منها كمًّا قياسيا، قرأت في الأدب والتاريخ، في الفكر والفلسفة والتصوف، في التأمل والموسيقى، وفي متفرقات كثيرة.

تعليقي على هذا العمل لن يرقى لمرتبة النَّوع الأدبي، سيظل مُجرَّد انطباعٍ من هاويَّة لا تُحسن نسج التَّقريظ، ولا تُتْقن القراءة النَّقدية، بل لا تعرفها إطلاقاً، كما تصيبني بعض المصطلحات بعسرِ هضمٍ ذهني.. وقناعتي أن القارئ من حقه تتبع بوصلة انطباعاته دون حقن مُسبق.

بين دفتي غلاف أسود أنيق، رُصَّ ورقٌ عاجيٌّ، سكبت فيه المؤلفة تجربة تَورُّطها المجنونة مع المطالعة، منذ الطفولة إلى مرحلة الاهتمام المدرك،.. وبتتبعي للمسكوب اكتشفتُ قارئة بعقل ذكيِّ، متمرِّدة، تملك وعيا متقدِّما، لمستُ من حرفها ما تُكسِبه صحوة العقل من سكينة وتوازن داخلي، كانت عفوية مُقنعة في تعبيرها عن سعادتها، عن انكسارها، عن فرحها وضَعف ضَعفها.

الكتاب عرضٌ وتحليلٌ لمجموعة عناوين، بترتيب اكرونولوجي مُتناغم تصاعديَّا مع عمر إدراك بنت آكَاط الطفلة، المراهقة-الزوجة، الأم، الطالبة، المعلمة، النازحة من الريف، المغتربة، التاجرة، الموظفة السامية، تتنقَّل مع هذه الحقب بولاء ووفاء للقراءة وبانسيابية زمنية منطقية، فمِن كُتب والدها الكلاسيكية، إلى مُختارات نادي مارك زوكربيرغ للقراءة،.. ومن ابن عبْد ربِّه إلى هنري كيسنجر. . واستغربتُ كيف لم تُضيِّع التفاصيل والعناوين في فوضى الذكريات كما حصل معي.

أفرزت الكاتبة مساحة عاطفية استَدمَعتْ صدًى من صوتِ الماضي، من طفولتها، من حياة والدها، قدَّمت مُلخَّصاتٍ مُبهرة لقِرَاءَاتِها، فبين الكتاب الصَّلب ونظيره سريع الذَّوبان، عاقَرت سلسلة ذهبية من الكتب الحُجَّة في فنون طويلة الباع علميًّا.

احتوى الكتاب فقرات غير قليلة، تتجه فيها المؤلفة نحو نفسها، بحوارات تفاعلية مع ذاتٍ تعاني ارتباطًا قهريًّا بالحرف، وجدتْ نفسها تعيش للقراءة، ووجدتُها تعيشُ ما تقرأ، بحزن، بانشراح، بكآبة، وهي تُغاضب واسيني الأعرج، وهي تُصارع هواجس الْتِباسِ المشاعر اتّجاه القضية الفلسطينية.

كتاب بنت آگاط، مُعِين لمن يبحث عن التَّفكُّه الذِّهني دُون تِيهٍ، فقد وفَّرت على القارئ عناء البحث والفرز بعمل رصين، أنجزت ملخصاتٍ مُركَّزة لزبدة العناوين المرغوبة للقارئ العميق، ومعلوم أنَّ التلخيص المُتآلف عمل ذهني شاق، والأُلْفَة نفسها مَجْلَبَةٌ للاسْتِخفاف، إلا أُلفة الكتب.
بين ملخص وآخر تفصح الكاتبة عن رأيها بجرأة مُلفتة، غَرَزَت نَصل قلمها في تابوهات مُتقيِّحة من صنف: مُواطأة سدنة الإقطاع الديني لحرَّاس الإقطاع الاجتماعي، احتكار إقطاعِ الأسياد لخطيئة “أمخسور” مثلاً، تحسّس بعض لحراطين إزَّاء اشكال الهوية، وحيرة التَّشكل، تسويق الزوايا لخوارق الخرافة وخرافة الخوارق.
وفي تابوهات حارقة من قبيل: الخطاب الديني المأجور، وتقديم السلف بمثالية كاذبة وملائكية مزيفة، تتجاهل الطبيعة الانسانية وتُوقع العامَّة في صراع بين الواقعية والبشرية،.. مَرَرْتُ معها على فقرة من كتاب “حروب الرُّحماء” وعلى اقتضاب ما أوردتْ، تبدو الحاجة لتأمُّلهِ، ويتلخص في: الفقه المُدجَّن والاقتراب من منطقة رجل الدين المحظورة،
الفتوى المعلبة تحت الطلب، رجل الدين كحجر من دومينو السلطة، تحركه متى تطلبت اللعبة حقن “العامة” بمصل روحي،.. هُنا مَرَّرتْ مِبْضَعها برشاقة على الخُراج المُسوَّر وفقسته.

كشفتْ المؤلفة عن رحلة مضطربة في التَّمذهب الفكري، استُهِلَّت بمراهقة ناصريَّة، “تابتْ” منها، ثم حطَّت رحلها في غيهب الإخونجية لفترة أوصلتها مقام بيعة الولاء.. (مِنِّك لله يا منت آگاط)، .. لتكتشف لاحقا أن مقام “الإخوان” غير مقامها، وكان طلاقها من الجماعة على فراش “ماركاريت متشيل”، حين عجزت العصمة عن تحمُّل مُخادنة نهاريَّة لرواية “ذهب مع الرِّيح” Autant en emporte le vent ، (كم أحببتُ تلك الرواية…).
غازلتْ اليسار فترة، وغازَلها البعث في شكل “والد العيَّال” البعثيّ الانتماء، غير أنها تَمنَّعت وجادلت زوجها تفنيدا لقناعاته، وقد عزمت إطلاق سراح عقلها لصالح وعيٍ شموليٍ.
وأنا أسير في الكتاب خلفها سقطْتُ من طولي على الصَّفحة 213، غالبتُ دمعي، فغلبني.. أغلقتُ الكتاب إلى اليوم الموالي.

استعرضتْ كذلك ماضيها السَّعيد وحاضرها المُتحدِّي، علاقتها بوالدها مُعلّمها الأول، بزوجها داعمها الأول، ولمستُ في الأخير نُبلاً أصيلا على امتداد الكتاب، إنْ لم تكن دعاية مقابل إمساكٍ بمعروف،.. في بداياتهما، وحين جرَّب هذا السَّيد تَصيُّد قلب المراهقة المَوْعودة له، أهداها طُعمًا في شكلِ روايةِ «لم نعد جواري لكم»، وثقيلْ بعدْ تِسيافْ المُوجب بامرادْ العَربيَّه..أَريهْ.

أبانت الكاتبة عن روح أنثى مرحة في أحداث كثيرة، وعن تحرّرٍ من العُقد والكلاكيع النفسية، تجاسرتْ على تفاصيل الزَّفة الإيروتيكية عند البظان ، سَرَدتْ بسخرية من الذَّات تجربتها مع سقوط حكومة كانت جزءً منها، وكيف تَجتَثُّ مراسيم الاقتلاع امتيازات مراسيم التَّكليف، وتعصف بحياة الموظف السَّامي، تقذفه من الوضعِ المريح بالعربية إلى “الوضعْ الصَّريحْ” بالحسانية…، طريف كان انعراجها اتجاه شطحات كُتب التأمل، التي تلبَّستها وتماهت وإياَّها إلى أن “لاحِتْهَ” في التَّصريح لزوجها بتقبُّل فكرة التَّعدد (اتردْ اعل لخلَ، ذاك من اعْكَبَّات اتمطليسْ امعَ لخوان)، كما جرَّتها بعض الإصدارات “المُغرية”، نحو حوافٍ حادة، حين تَمثَّلت طرحها النَّاسف، وهي كتب تُشجِّع بنعومة ورديَّة قارئها على تعريض كيانه لانقلابات نفسية دمويَّة، دفعتها رواية “هيبتا” إلى طلب التَّحلل من عقد زواجٍ تصفه المُتأمِّلة المُتوكِّعة مريم نور ب”ورقة دعارة شرعية”، لكن عاودها رشدها بعد أن عُوفيَّتْ من تأثيرها.
أضحكتني مصطلحات أوردتها في الصفحة 243، وهي للنساء فقط، ولا تُجالِسْ..

أمضيتُ وقتًا مُمتعا مع الكتاب وكان له أثر علاجي، فقد تتبَّعتُ فيه بعض ذاتي وأشياء من قراءاتي، ذكريات تركتُ فيها زمانًا منِّي، وما أمتعه من ألمٍ حين تُعاود الذِّكريات جَلْدنا بأمرٍ من الزَّمن، رَبطْتُ الاتصال ثانية بأبطالٍ شاركوني هدأة الليل يوم كُنَّا سمَّارهُ وحفظة أسرارِه، مع أن رصيدي من القراءة يبدو هزيلا مقارنة بها.
شهقتُ عند المدخل العلوي للصفحة 299، وقلتُ: «مُدلَّلة أنتِ يا تلك.. كيف لك بهذا!.»

كتاب «مذكرات امرأة قارئة»، يُجرَّب الآن ارتكاب خطيئة الحياة، في زمن سيطرت فيه الومضة وألغت الكتاب، حوَّلَته لحُطام ورقٍ كئيب، وبمباركة جيلٍ لا يقرأ ويكتب على الماء، يتَمسخر كثيرا، ومُنتِج بسخاء لنعوتٍ هزلية تُبارك تعثُّره، كأنَّه يَخلقُ مَهربًا من صورة عاكسة لذنب التَّشبث بالجهل.. وهذا الوضع المائع بُشرى لمن يستفردون اليوم بالعقل الخاوي، ينكِّلون به في أقبية التَّضليل، ويبسطون عليه الظلام، فالجهل لا يبقى منفردا!
سيظل الكتاب – أيّ كتاب – حارسًا للذِّهن من التَّخبط في أزقَّة وعيٍ مُزوَّقٍ بوعيٍ زائفٍ هدَّام.

هذا الكتاب ـ أيضا ـ “اتفكريشه” من هذه السيدة أغبطها عليها، لأنها تحدَّت فيه العوائق، والمُثبِّطات، ومُصرِّفات الوقت الاجتماعية، أُجدِّد بأنِّي لا أعرفها، ولا يهمُّني من تكون، مبدئيا يجذبني كُلّ حرف مُترفٍ ذُيِّلَ بتوقيع امرأة تُمسك القلم بثبات، وانطباعي عنها من خلال مذكرات قراءاتها أنها ليست متعلمة فقط، بل مُثقَّفة رصينة، مع أنِّي لستُ أهلاً لتقييمها.