الأستاذ ابريد الليل منثورا / إسماعيل محمد خيرات
مقال الأستاذ ابريد الليل الأخير هو الأستاذ ابريد الليل ذاته تجددا وهما وارتباطا وتوقيتا، وتكريس مقال للحديث عن الانشغالات المرتبطة بمصير الدولة في هذا الوقت دليل بين على حدة الرؤية وجدية المتابعة وفعاليتها. إن مقالات من هذا النوع هي كأجراس التنبيه تنطلق من برج مراقبة، قاطعة حبل الصمت ورتابة الحياة، محفزة ملكات الإدراك وقدرات الذهن على النشاط والتيقظ .. والاتقاد.
وفي الغالب، أو أحيانا، ـ رغبة في تعبير أدق ـ كانت مقالات الأستاذ ابريد الليل تأتي بالدوام كمقدمة لشيء ما، من قبيل انقلاب أو تحول أو ترتيبات هامة، حتى باتت في نظر البعض مبعث قلق أو حتى تشاؤم، وحتى تكرست في أذهان طائفة من المثقفين فكرة أن هذا الرجل هو مُنظر انقلابات عابر للحقب، ومُسعر مواجهات أزلي، ليس له شغل غير ذلك، إن هذا تفكير منخفض، فهو يبدو كلازمة “بافلوف” في نظرية الفعل المنعكس، إنه شبيه بمن يعتقد أن صفارات الإنذار التي تدعو الناس للدخول إلى الملاجئ هي التي جاءت بالقصف، أو أن أجراس التنبيه في أبراج المراقبة هي التي حركت الخطر..وما من شك في أن حساسية هذا الرجل المفرطة وانشغاله بماهية الدولة وفهمه الدقيق لحقيقة الاختلالات التي رافقت النشأة الأولى لهذا الكيان وثقت بشكل لافت عرى الارتباط بينه وإياه، وضاعفت هواجسه ومخاوفه عليه ، بل أكثر من ذلك حولت تنظيراته وقراءاته في بعض الأحيان إلى ما يشبه وساوس الأبوة القلقة . إن هذا “الحديث” يعكس ـ من غير أدنى شك ـ مدى الدقة في رصد التحولات الجارية ، ولكنه مع ذلك، يعكس أيضا مستوى بالغا من الانفعال والحسرة وهو يُبرز حالة الرخاوة التي تعيشها الدولة كمهيمن و كضامن تقليدي للاستقرار الاجتماعي، فالدولة في رأي الأستاذ لم تعد قادرة على فرض رؤيتها في صياغة أي ترتيبات تهم المسارات الوطنية الكبرى، واكتفت بمهمة تحضير الغذاء وتوفير الإنارة، وإماطة الأذى من الطريق، أي أنها تمارس سياسة التودد تعويضا عما يلوح من تراجع في دورها التقليدي و حتى دفاعا عن بقائها الخام ، لقد أضحى ممكنا كما يقول: “أن تقلب الأمور رأسا على عقب ببساطة تامة ونصبح في صيغة أخرى للدولة، يكفي أن تجتمع أطراف وتختار ماهية جديدة للدولة(……)لتصبح الأمور على منوال غير مألوف ..” إن المؤشرات على هذا الأمر لا يحدها حصر، فالإهانات التي تتغاضى الدولة عنها وتتصامم لم تعد تثير انتباه أحد، وما كان يعتبر في السابق تحديا للهيبة، وحتى تهديدا للوجود أصبح اليوم مجرد موقف ورؤية، وعرائض المطالب الفئوية تتزايد وتتنوع باسم الحرية وباسم حقوق الإنسان ،وباسم الحرية وباسم حقوق الإنسان تنكمش الدولة وتتوارى خلف ذاتها، أو خلف قوة استعراضية تدرك جيدا أنها لا تستطيع استخدامها إلا في أضيق نطاق. إن هذا يدعو فعلا للقلق بالنسبة لمن لا يثق، أولا يرى من أدوات التعايش و ضماناته غير شكل الدولة الحالي، حاد القمة، غير أنه حين تمتزج الرؤية وتغتني بظلال “القناعات” بغض النظر عن طبيعتها، فإن القلق على الدولة كأداة وكوسيلة يتحول إلى مزيج من الغيرة و الحسرة المكبوتة، والرفض الصارم . ولكن أيصح حقا أن تُسحب السلطة من النظام الحاكم (أي نظام حاكم ) بدون انقلاب وبدون اقتراع؟ هذا أمر وارد، ولكنه في تصوري المتواضع لا يكون بهذه الصبغة التآمرية الانقلابية التي تستشف من نبرة المقال، فقضية وهن الدولة وعجزها في إطارها وصيغتها المعهودة ليست حالة موريتانية حصرية، إنها هي حديث الساعة في الفضائين المحيطين بنا… إن لوالب الدولة ترتخي في منطقتنا العربية كلها، وكل المجتمعات اليوم تبدو كالبرتقال المقشر، واضحة الحزازات، ظاهرةَ المفاصل، كل قطعة تغريك بسهولة فصلها عن الأخرى،هذه ظاهرة متفشية ولا علاقة لها باختلالات التأسيس ولا حتى بموروث تاريخي قائم أو معدوم. فحتى أكثر المجتمعات عراقة وتجذرا في تاريخ الممارسة “الدولتية” لم تسعفها ذاكرتها ـ وهي في أمس الحاجة لذلك ـ بنموذج ناجع أوحل يعيدها إلى سكة الأمان، أو حتى لوضعها السابق، بل أسوء من ذلك قد يكون هذا التاريخ ـ الذي نتحسر نحن على خواء ذاكرتنا بخصوصه ـ هو النُسغ الذي يغذي المواجهات والاضطرابات اليوم ويمدها بأسباب البقاء. إن التاريخ ليس بالدوام مصدر إلهام، فقد يكون مصدر إيلام كذلك، في كثير من الأحيان. إن الدولة الوطنية تعيش اليوم أكثر مراحلها صعوبة،فأزمتها بالغة ومتفاقمة، وليس واضحا ما إذا كانت الأمور ستتجه في النهاية نحو قالب أكثر اتساعا وأكثر تماهيا مع معطى الأمة في شموليتها، وخصوصيتها، أم أنها تنحدر نحو صيغة تجزيئية أدنى، لا يتجاوز فيها دور السلطة حد رعاية التوافقات الفئوية،إن لبنان قد يشكل أحد نماذج هذه الصيغة ولكنه ليس الصيغة الوحيدة، فحتى حين يتحول النظام إلى ما يشبه دور العسكري الذي ينظم المرور في أوقات الذروة فقط ثم ينسحب، فمن المؤكد أنما سينجم أو ينتج تلقائيا من معطيات جديدة سيتم التآلف والانسجام معه مع الوقت بسهولة يصعب تصديقها.. ومع ذلك ، وحتى بغض النظر عن أي صيغة واقعية أو وهمية يمكن تصورها فإن كل هذا التحسر على ما كان يسمى يوما الدولة القُطرية والدولة الإقليمية قد يحتاج إلى توضيح، على أساس أن كل المسار الذي قطعته الدولة الوطنية كان في جوهره مسارا مناقضا لكيان الأمة، لأنه هو ذاته وبطبيعته يمثل عملية تفريخ لأمم صغيرة جديدة، ألم نكن نسمع من يقول في ثقة إن الدولة تخلق الأمة ؟ أين هذه الأمة التي خلقتها الدولة؟ انظروا شرقا، إنما نراه اليوم ما هو في الحقيقة إلا الصراع القديم الذي كان مؤجلا بين الأمة والدولة، وللأسف ينحاز فيه البعض الآن بكل تحجر إلى أداة تبدو قاصرة عن مرافقة طموحات واستحقاقات تتنامى وتتضخم مع طفرة الوعي وانقشاع الحجب والحواجز. إن الدولة تنهار في الشرق ، وما يبدو منتصبا متماسكا في الظاهر ليس في الواقع سوى خردات لمعها الطلاء ولكنها متهالكة خاوية من الداخل ..وفي المقابل تبدو الأمة أكثر تماسكا وتواصلا، وتبدو عوامل بقائها أكثر من دواعي فنائها وانفراط عقدها.. لا يوجد في الأمة عائق أخطر من “التفاوت” على مستوى الرؤية وعلى مستوى الحركة.. لقد بدأ الربيع العربي بكل المصداقية والعنفوان المطلوبين ولكنه سرعان ما واجه ما واجهته كل الحركات النهضوية والتحررية التي رصعت بالآمال والخيبات تاريخ الأمة كله. فقد تحولت هذه الثورة العظيمة فجأة إلى ما يشبه رقصة السحرة، رغم جدية الدوافع ووجاهة الأهداف ..لقد تحول نظام التجزئة بشكل تلقائي لآلية تفتيت وبعثرة وبالتالي تحولت الثورة إلى زوابع متفاوتة القوة والتوقيت، وبؤر معزولة يشوه بعضها بعضا، وينقض بعضها غزل بعض. لا أدل على هذا أو أوجع، من أن الأخطاء والإخفاقات في ليبيا ما بعد الثورة كانت تحسب بشكل تلقائي نقاطا مجانية لصالح النظام في سوريا، فهل نحتاج بعد هذا برهانا أو دليلا على تشابك المصير رغم بعثرة الجهود وتفاوتها وانعزاليتها، ورغم عوائق وإكراهات النظام الاقليمي؟ فلماذا الحسرة إذن على هذه المنظومة ؟ ولماذا نذرف الدموع أسى وحزنا على هذه القوالب المتآكلة؟ من الجائز أن لا يقع اتفاق كامل حول أبعاد الأزمة ومساراتها المرتقبة،بالرغم من عدم الخلاف المبدئي حول طبيعتها وظرفيتها، ولكن المشكلة ربما تكمن في التشبث بفكرة أنما تعيشه الدولة الوطنية هو مجرد وعكة عابرة، مؤقتة، وأنها ستعود بعد فترة استرخاء وجيزة إلى سابق عهدها وقوتها..وأن الدور الآن يقع على المثقفين في الحفاظ على المجتمع في هذه الفترة من ذئاب البراري الهائمة التي تترصده وتتربص به الدوائر…هذه رقية خالدة ، وبتالي فهي لا تخص حالة محددة دون أخرى .والواقع أن المثقف “القسيسي” نفسه لا يعيش الآن أزهى فتراته،فهو لم يعد كما كان في السابق، مسؤولا عن إنتاج أو تفسير الدلالات بعدما جرى من تحولات نسقية، بوأت ثقافة الصورة والمؤثرات المرئية السريعة مكانة متقدمة في عملية التوجيه على حساب البنى والأنساق التقليدية المألوفة. في تقديري أن الحل يكمن أولا في الفهم، قبل أي تفكير في ردة الفعل، وجزء كبير من هذا الفهم هو مسؤولية النظام القائم، فحين يدرك أن الدولة هي مجرد صيغة للحكم وبالتالي فهي ليست أكثر من وسيلة، وأن المجتمع هو الغاية، تماما كما قال الأستاذ، فإن أرضية الانطلاق والتلاقي قد توفرت وتحددت، وهذا أمر بالغ الأهمية. وفي الحقيقة وبالرغم من كل ما تم التطرق له من مسارات مستقبلية قد لا يبعث بعضها على الارتياح، فإن خيار التماسك الاجتماعي والارتقاء إلى صيغة أكثر شمولية يبدو أكثر ورودا بالنسبة للكيان الموريتاني من خيارات التفتت والتمايز، ومن المؤكد أن ما توفره مشاريع التكتل الاقليمي من فرص ، وما يرتسم في الأفق من مغريات التكامل وثماره ودواعيه، يكفي إشارة وتحديدا لطبيعة قارب النجاة الذي نبحث عنه .