الباهي والشعر شيء عجيب
مقتطف من رواية عروة الزمان الباهي التي اورد فيها الكاتب الكبير عبدالرحمان منيف جزءا من حياة ابن أخت الزعيم حرمة بابانا المولود في النباغية والذي عاش في باريس أمدا طويلا..ورحل عام ١٩٩٦بالمغرب ورفض المغاربة نقله للنباغية
الباهي والشعر شيء عجب..!!
لايمكن للشعر القديم أن ينهض من رقاده،وينفض عن ملامحه غبار الزمن إلا حين يُنشد،ويصبح هذا الشعر أكثر عافية وقوة إذا تولى إنشاده من يعرف أسراره،من يحس باللهب الداخلي الذي يسري في كلماته،وذاك الذي يعرف اللحظة التي تليق به،والطريقة التي تلائمه وتواتيه في الإنشاد،عندئذ يصبح ذلك الشعر غير معرض للشيخوخة وقد لايموت!
الباهي واحد من قلائل توصل إلى معرفة ماهية هذا الشعر،روحه،فهو بمقدار مايحسن إنشاده،لايخطئ اختيار اللحظة أو الطريقة خاصة وأنه يحفظ عن ظهر قلب كمّاً هائلاً من الشعر الجيد،ولفرط ماردد وأعاد يعرف كيف يخلق الجو والمهاد،ويعرف كيف يحتفل وبجدارة بهذا القادم الذي يمكن أن يقال عنه دون تردد هذا هو الشعر ،
من يسمعه يتّلو معلقة امرؤ القيس يظن أنه أخذها منه مباشرة،ومن يسمعه يردد معلقة طرفة بن العبد يعتقد أن طرفة فارقه للتو واللحظة،ولابد أن يكون قد ذهب إلى الحانة المجاورة ليستريح قليلاً قبل أن يواصل السفر وقول الشعر،يأتي هذا الاعتقاد لأن الكلمات أبكار والتراكيب طازجة ،والصور مليئة بالحياة والحركة،وطريقة الباهي تضفي عليها تلك المهابة التي تستحقها بأسلوب ترنّمه،إذ مع تلك التلاوة تتدفق رائحة الصحراء،ويصفّر صوت الريح،فإذا ارتفع الصوت قليلاً أو هبط،فإنه يمتثل لخبب الناقة وقد واجهت طعساً فتحاول اجتيازه بِلين،فيعبق عندئذ الجو برائحة الشيح والقيصوم والسدر،وتهب من بعيد رباً المسك والعنبر،أما وهو يتلو معلقة زهير بن أبي سلمة،فإنه يستحضر في هذه الرحلة حكمة الحياة وعِبر الأيام،فتبدو الأبيات وهي تترجّع ،وكأنها دروس التاريخ كله،إذ يعرف كيف يضغط على مخارج الحروف،ومتى يتركها تنساب،يعرف متى يبدأ وإلى أين يجب أن يستمر،يفعل ذلك كخالقٍ لهذا الشعر،لأن الحكمة تمتزج بعذاب الروح،بتعب الجسد،بلهفة العيون،وبمذاق المرارة،كل ذلك كخلاصة لتجارب الزمن،ونزف القلب،بحيث يتأكد من يسمعه أنه وزهير توأمان،وربما توصلا معاً لروح الأشياء،
وإذا بدأ يترنم بقصيدة نهج البردة،بتلك المسحة الصوفية،وقد تداخل فيها النغم البيزنطي بقصيد البادية،وترافق ذلك مع حركة الهوادج وهي تبحر في ذلك المدى اللامتناهي،فيتولد جرس هو مزيج من عناق الصحراء بذرى جبال الأطلس،عند ذلك يصبح مايُنشد،مايملأ الفضاء كله،ترتيل يهبط من الأعالي،وينبع من أعماق النفس والأرض ولحظة الوجد،وشيء مثل هذا لايتكرر إلا نادراً.
إن مايقال الآن،مايُسمع،أكبر من الكلمات وأقوى منها،إذ يتحول إلى أصوات مفعمة باللوعة والصبابة والشجن،فيحار الإنسان كيف أصبحت الكلمات بهذا العنفوان،بهذه الخصوبة الفياضة،وبهذا الجموح الذي يجتاز الزمن ويتجاوزه،لولا تلاوة الباهي!!!
الكلمة في مثل هذه الحالات مفتاح الكون،ومثلما هي نجمة القطب فإنها طريق القلب،وهي أيضاً النبع ولحظة الدفء،وبوابة الأمل،الكلمة كائن حي،وأقرب ماتكون لهيئة الغزال حديث الولادة،جديدة،تفوح برياَّ البراءة وممتلئة حتى الاكتناز،كما تتسلل بصوت خفيض،غير مدع،أقرب إلى الهمس،بمقدار ماتحكي الماضي فإنها تشير إلى الآتي،تفعل ذلك باختصار،وبطريقة نعرفها ولانعرفها،لكننا نحسها ولانرى بديلاً أرق منها وأجمل..
عبد الرحمن منيف من رواية عروة الزمان الباهي