أنجح البرامج التلفزيونية هو أسوؤها على الإطلاق!!
قليلة هي البرامج التلفزيونية الناجحة رغم كثرة الفضائيات وتعدد برامجها وتنوعها؛ غير أنني لا أعرف برنامجا واحدا أكثر نجاحا من برنامج “الاتجاه المعاكس” في قناة الجزيرة القطرية، كما لا أعرف برنامجا واحدا أسوء منه ولا أكثر منه ضررا.!!
إن نجاح أي برنامج (تلفزيونيا كان أو غيره) إنما يقاس بمدى قدرته على بلوغ الهدف الذي أعد وقدم لأجل بلوغه.. ولا أذكر أنني تابعت حلقة واحدة من ذلك البرنامج إلا وجدت مقدمها (د. فيصل القاسم) ينجح باقتدار كل مرة في جر ضيوفه إلى الفخاخ التي تفرض عليهم أن لا يخرجوا من غرفة البث حتى تكون الحلقة قد حققت أهدافها كاملة غير منقوصة!!
والواقع أنه ليس لهذا البرنامج إلا هدف واحد وهو تعميق هوة الخلاف بين طرفيه، وضمان خروجهما أكثر اختلافا وأشد كراهية لبعضهما البعض؛ حيث يستخدم د. فيصل القاسم لبلوغ ذلك أنماطا من أساليب وفنيات القول والفعل والإيحاء والتحريض ما لا يتقنه إلا “صحفي شيطان” بامتياز…
يمكنك أن تتأمل ملامح ذلك الصحفي “العبقري” كيف تتغير وجوما وغضبا حين يصيب الفتور محاوريه أو يظهر اتفاقهما على أي رأي ولو كان جانبيا وتافها، ثم كيف ترتسم البسمة على محياه حين يشتد الخلاف بينهما ويعلو الضجيج، ثم تكتمل نشوة صاحبنا حين يصل الأمر حد الاعتداء الجسدي واللفظي من أحد الضيفين على الآخر..!!
للإنصاف لا بد أن نعترف بأن “عبقرية” فيصل القاسم ليست وحدها سر نجاح برنامجه؛ ف”الاتجاه المعاكس” هو أحد أهم برامج تلك المؤسسة الإعلامية العالمية الضخمة المسماة “قناة الجزيرة الفضائية”، وعظمة فيصل القاسم إنما تكمن في اختياره (دون غيره) لإدارة أهم تلك البرامج كلها وأقدرها على تحقيق الهدف الأعظم لتلك المؤسسة الإعلامية الرهيبة والمتمثل تحديدا وحصرا في إعادة صياغة عقل المواطن العربي ليصبح “عقلا إقصائيا، متعصبا، ومنغلقا، وعنيفا”، كمقدمة لازمة لبلوغ وضع عربي نرى الآن ملامحه البارزة تتشكل في أكثر من بلد؛ حيث “الحدية”، والغلو، والتطرف، ورفض الآخر، وانتهاج أسلوب القوة لفرض الإرادة على الآخرين.. بل وحيث تكفير المخالفين في الرأي وإعلان “الجهاد” والحرب “المقدسة” عليهم..!!
ليس ما نراه من فرقة وخلاف غريب وعنيف بين أبناء أمتنا الواحدة هو من تأثيرات برنامج “الاتجاه المعاكس” وحده؛ ولكنه بالقطع نتيجة منطقية مقصودة ومدروسة لإطلاق قناة الجزيرة الفضائية قبل 17 عاما؛ وهي القناة التي ما يزال الغموض والريبة يكتنفان حقيقة الجهات التي تقف وراءها وطبيعة علاقاتها الإقليمية والدولية وأهدافها المعلنة والخفية.
ونحن لا نذكر برنامج “الاتجاه المعاكس” إلا على سبيل المثال بصفته أحد البرامج المحورية في القناة، ويمكن أن نضيف إليه مثالا آخر ببرنامج لا يقل أهمية هو برنامج “الشريعة والحياة”؛ حيث يسعى هذا البرنامج إلى جعل “الشريعة” منهج حياة للإنسان العربي المسلم الذي يشاهد قناة الجزيرة، وهي تسمية غاية في الروعة والإغراء؛ إذ ما قيمة الشريعة إذا لم تكن ممارسة واقعية ومنهج لحياة المسلم الحق؟.
لكن ما هي “الشريعة” التي نتعلمها في ذلك البرنامج الذي يتابعه ملايين المسلمين كل أسبوع؟
إنها حصرا وبالتحديد: آراء، واجتهادات، وفتاوى، وتقديرات العلامة الفهامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي.. وإنه نعم الشيخ ونعم الرجل… ولكن..
مهما كانت المكانة العلمية والدينية للشيخ القرضاوي حفظه الله؛ فإنه يظل “مجرد” عالم واحد ضمن آلاف العلماء المسلمين، ومجتهد واحد ضمن آلاف المجتهدين المسلمين، ومفتى واحد من بين آلاف المفتين.. وبالتالي فإن “الشريعة” التي أرادت “الجزيرة” تربيتنا على جعلها منهجا لحياتنا ليست في الواقع إلا “مذهب” فرد وعالم واحد من علمائنا!!
لا ننكر أن برنامج “الشريعة والحياة” يستضيف بين الفينة الأخرى علماء آخرين غير القرضاوي؛ لكننا لم نجد في ذلك غير “الاستثناء” الذي يصحح “القاعدة”.
والنتيجة المنطقية لهذا المنهج المتكامل الذي تعززه برامج قناة الجزيرة المختلفة هو ما نشاهده على أرض الواقع: مجتمعا عربيا تمت إعادة صياغة عقله ليصبح “عقلا أحاديا، متعصبا”، وصدرا “ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء”!!..
من ذا الذي يصدق أن قناة بوزن قناة “الجزيرة” تقبل أن تنفق كل أسبوع آلاف الدولارات لإعداد حلقة من برامج الإثارة ك”الاتجاه المعاكس” دون أن تكون لتلك الحلقة من نتيجة سوى تعميق وتوسيع هوة الخلاف والاختلاف بين أبناء الأمة الواحدة؟ أليست “أفعال العقلاء مصونة عن العبث”؟؟
ثم؛ أين تأثير برنامج “الشريعة والحياة” على “برنامج فيصل القاسم”؟ وأين هما من قوله تعالى: “لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما، ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا”؟؟
بل أين كل التحريض الإعلامي لقناة الجزيرة، والإفتائي “للشريعة والحياة” على الخلاف والتناحر في سوريا وقبلها ليبيا، من توجيه الآية الكريمة أعلاه؟؟
وكيف لقناة تزعم أنها تحمل هم أمة أن تختزل علماء أمتها في رجل، وشريعتها في مذهب، وآراء نخبها وفتاوى أهل الذكر عندها في تيار فكري واحد، وتنظيم سياسي واحد، وجماعة سياسية واحدة؟؟؟
أين باقي علماء الأمة واجتهاداتهم وآراؤهم وفتاويهم؟ ولماذا تعمد تجاهل أغلبهم ومحاولة تشويه كثير منهم؟.
أي مستقبل ينتظر أمة أريد لها أن تقيم أسس عقيدتها على علم ورأي وإدراك وفهم رجل واحد منها ما لم يكن ذلك الرجل نبيا أو رسولا؟!!
إنه مشروع “الفتنة الكبرى” في الوطن العربي، أو “الفوضى الخلاقة” كما سماها من تثور شبهات عديدة حول علاقته بتلك القناة ومموليها وحماتها والقائمين على أمرها..
إنها القناة التي ظلت تعلمنا قرابة عشرين سنة أن “حرية الرأي” تعني تصادم المختلفين وتنافرهم وإساءة بعضهم لبعض، وأن الديموقراطية المثالية لا تكون إلا إذا “اختلفت الآراء بصخب” ثم “التقت في الاتجاه المعاكس” الذي لا يقبل الاتفاق ولا التلاقي..
ولقد بلغت هذه القناة درجة من الثقة في النفس والاستخفاف بفطنة مشاهدها العربي درجة جعلتها تختار عنوانا وديكورا لبرنامج “الاتجاه المعاكس” نارا مشتعلة وحريقا مهولا؛ قبل أن تزيح ذلك الشعار بعد أن اطمأنت لقدرتها على تحويل ذلكم الحريق من شعار لبرنامج مدمر إلى جحيم حقيقي تصطلي بنيرانه شعوب المنطقة التي تم التلاعب بعقولها وقواها الإدراكية لدرجة أنها لم تعد قادرة على التمييز بين “ربيع عربي” و”حريق عربي”!!
والذي يريد أن يتثبت مما ذهبنا إليه ربما يكفيه أن يتذكر ويتفكر كيف علمتنا “الجزيرة” وعودتنا على أنه لا عيب ولا “جريرة” في أن يتحاور مفكرونا وساستنا ويتناقشوا مع قادة الكيان الصهيوني عبر شاشتها السحرية؛ في حين هاهي تحرضنا على أن نتناحر مع بعضنا عبر نفس الشاشة التي نبهتنا بعد طول غفلة على أن عدونا الحقيقي ليس “إسرائيل” ولا حلفاءها الدوليين”؛ بل نحن أعداء بعضنا بعضا: يقاتل عربنا فرسنا، وسنتنا شعيتنا، وأحزاب البترودولار تقاتل “حزب الله “وقوى المقاومة فينا…. وهكذا في معركة خلاصة مبتغاها أن ينام الإسرائيليون بسلام فوق أديم أرضنا المغتصبة وقد علموا يقينا أن تلك القناة السحرية عرفت كيف تشغلنا ببعضنا عن أعدائنا الحقيقيين؛ بعد أن عرفت كيف تحتل عقولنا التي عجز الصهاينة ومن خلفهم عن احتلالها رغم كل التقدم التقني والعلمي الذي أحرزوه علينا…
فهل ما نزال بحاجة لمزيد من التمزق والتفرق والاقتتال لنكشف أننا إنما نقدم من دمائنا المهراقة، ودولنا المدمرة، ومجتمعاتنا الممزقة؛ مادة إعلامية دسمة يضاعف بها أباطرة “الجزيرة” أسهمهم في سوق الدعاية والإشهار التلفزيوني؛ ليعيشوا طيلة حياتهم هانئين مترفين؟؟
بعضنا اكتشف اللعبة واللعنة، وبعضنا ما زال مرتابا؛ وأغلبنا ما زال مضللا.. لكنه حتما سيكتشف الحقيقة المهولة يوما ما.. لكن حينها قد لا يكون للاكتشاف قيمة، ولا ليقظة المغفلين فائدة.
يحفظنا الله جميعا.. ويجمعنا على كلمة حق سواء.. إنه نعم المولى ونعم النصير..
محفوظ الحنفي