المنعرج
كتب محمدالأمين ولد محمودي:
الزمان أنفو _
2008
كانت لحظات الصباح الأولى لذلك اليوم الخريفي ممتعة،انبلج الصبح عن “جوك”والماء ينهمر على حافتي الطريق التي تشقها..استلمت من أصدقائي دوريتي من قيادة السيارة بعد توقف في الاك فقد نمت طوال الطريق..المطر يرافقنا منذ حي “تليكس” بلعيون، فالماء ينهمر بقوة والسماء ترسل دمعها مدرارا..بدأ ذلك الصباح ككل صباحات الخريف الندية،الشمس غائبة وماسحات السيارة تعمل بكل قواها..كنت قد تزوجت تقريبا قبل أشهر ،وكنت-في الحالة الطبيعية- سأترك البيت بدون سبب،كما أفعل دائما فلم أخلق للاستقرار، أنا ابن الحرية والتسكع والتبطل والجموح ..هذا ماينتظره الجميع مني وهذا ماأنتظره من نفسي ومن الزيجة(هكذا كنت فعلا) ..على بعد تسعين ميلا من العاصمة انواكشوط جاءني كغيري من الزملاء نداء آمال منت الشيخ عبدالله على الهاتف، فبعد قليل ستنظم الفتاة المناضلة مع قادة جبهة الدفاع مؤتمرا صحافيا مهما، وبما ان الصحافيين عندنا لايحبون الآفلين فالراجح انهم لن يحضروا، كنت ضروريا للتغطية مع قلة من المخلصين للمهنة، وفعلا عزف الكثيرون عن تغطية أنشطة الجبهة المدافعة عن شرعية الرئيس المنقلب عليه(رحمه الله)..رفعت السماعة للمرة الثانية وأنا على منعرج خطير،فانقلبت السيارة لمرات واستقرت منكمشة بين الرمال..غبت للحظة عن الأحداث وأفقت لأجدني أحاول الخروج ،فالسيارة منكفئة بالكامل، عجلاتها الى السماء ورأسي على الأرضية التي كانت سقفا.خرجت ورفاقي بصعوبة وافتقدنا التي كانت معنا،فلاهي تحت السيارة ولاهي فيها ولاحولها..على بعد مائة متر تقريبا رأيتها ملقاة على اليفاع الأحمر وكأنها تركت ثوبها عمدا في السيارة..ألقيت دراعتي عليها وجلست الى جانبها :فلانة فلانة..كانت الدماء تسيل من جبهتها..رأيت أشخاصا يصعدون التلة وهم يركضون باتجاهنا، حاولت ايقافها قبل وصولهم حتى البسها ملحفة يبدو انها بقيت في السيارة فمنعني أحدهم..أحضروا لوحا خشبيا وحملناها الى سيارة مرسيديس تاكسي كانت متجهة الى بوتلميت ثم قرر صاحبها العودة بنا الى انواكشوط..ممدة على المقاعد الخلفية وأنا محشور مابين المقعدين الأماميين،اسجد لأتابع أنفاسها فأسمع حشرجة وتنفسا بالكاد يخرج، ثم تصرخ هي ألما فأشد على يديها وأنحني أكثر..قطعت عهودا ووعدت ربي ونفسي بأن أحاول قدر الامكان الحفاظ على شيئ يحتمل ان أفقده الآن.. ومرت في الطريق أشياء كثيرة وذكريات أروع ماتكون،من الأشهر الماضية ثم حياتي ماقبل ومابعد هذه التجربة..في المستشفى قضت أياما في العناية المركزة فقد كسرت الأضلع و تضرر العمود الفقري ،وأكثر مايخشاه الأخصائي ولد اربيه هو عجزها مستقبلا عن المشي..كان وقع الاحتمال بشعا فظيعا مخيفا لكنه كان كافيا لأقرر تغيير حياتي من نواح عديدة..ستكون مقعدة وسأقعد طبعا الى جانبها فذاك قدر سنتقاسمه حتى آخر يوم في حياتنا.
أخرجوها على لوح خشبي من العيادة ووضعت في غرفة ببيت أمها..ولمدة شهر كنت الجليس والحاضن والممرض والراقص والحكواتي ومقيم الشاي، وخلال هذا الشهر اكتشفتها وتعرفت عليها وعلى أخطائي وفهمي للرابطة المقدسة ثم اكتشفت كيف جعل التواصليون من غرفة “أختهم” حائط مبكى وموقف دعاء على الدوام..يأتي أحدهم ولايعرف اسمها او وسمها ثم يسلم ويسأل الله لها السلامة وينصرف..الأخوات كذلك يتصلن لذات الغرض ويحضرن،أمواج بشرية،ثم جاء الشيخ الددو ومعه محمد محمود ولد سيدي وقرأ الشيخان، ورأيت وجهها يزهر ويشع ويبتسم ثم يضحك رغم الألم..كنت أهتم بمادتها أما روحها فللاخوة كما تقول..وعلى هذا بقينا في انتظار اليوم المنشود..جاء الأخصائي الرائع ول اربيه وأوقفها وطلب منها البقاء واقفة لثوان، ثم أمرها بالتمشي قليلا..وفعلا كان المشهد رائعا كالطبيب الطيب..انهمرت دموع الجميع ووقفت تلك الفتاة من جديد وبعد أشهر عادت الى سالف عهدها ورزقت بنية رائعة مباشرة بعد الخروج من أشهر الحادث ومابعده..بعت السيارة الخردة واشتريت قطعة أرضية، وشيدنا معا بيتنا الأول ثم الثاني فيبدو ان المنعرج غير أشياء كثيرة في نظرتي للزواج والاستقرار والعلاقة بالشريك والمسؤولية،كما غير نظرتي الظالمة لأصحاب الأفكار المخالفة ككل، وللاخوة في تواصل بالذات، وأهم ماتغير في شخصيا هو اكتشافي للنفس الأمارة بالسوء ودورها المركزي في منع النفس المطمئنة من الظهور للعالم، وهي الحرب التي مازلت أسيرها بضعف كبير لكنني أتابع معاركها وأحسها وأدرك أهمية انتصار الأخيرة ولو في اللحظات الأخيرة..كان ذلك الحادث هدية وهبة من هبات الجليل،فقد دخلت ذلك المنعرج شخصا وخرجت منه شخصا آخر.
تذكرته الآن
-الكاتب محمد لمين ولد محمودي