وليمة بين الأموات

قصة صلاح الدين الجيلي:

الزمان أنفو _

  • آلو..أين أنت، العشاء جاهز.
  • في الطريق، زحمة السير خانقة.
  • بسرعة، حتى لا يبرد العشاء.

تردد مصطفى كثيرا قبل موافقتهِ على طلب “صديقه” الجديد “يَسلَم” مرت أيام قليلة فقط على تعارفهما، بالأمس و خلال لقاء سريع أصر على ضرورة العشاء معه، لا يعرفُ عنه شيئا غير لقاءاتهما المتكررة في المقهى التونسي، و في يوم أمس كان اللقاء الذي أقسم فيه يَسلَم بود كبير أن لا مندوحة من عشائهما سويا.

يَسلَم، من ذلك النوع النحيف الطريف، الذي يبني عليك سورا من وُدٍ فلا تملك إلا أن تبقى متأرجحا بين إقبال و خجل، يعرفُ كثيرا من الذين لا يزالون يسيرون على أقدامهم، كما أظن جازما أنه يعرف كل شخصٍ ماتَ في بلادنا منذ الحرب العالمية الثانية، بل يعرف مصير كل قطرة من حليب شكَّلت علاقة رضاعة بين اثنين، خبير بالأنساب لا يُبارى، لقد صُدم مصطفى حين وجدهُ يعرف عن أهله أكثر منه، و كان ذلك مما بعث على قبول دعوته.

أخيرا، دخل مصطفى حي “مَلَّحْ” بادر بالاتصال ليستدل على طريق البيت، ربع ساعة و أصبح في الزقاق الموصوف، خرج إليه يَسلم هاشا باشا، فاتحا ذراعيه و كأنه يستقبلهُ في قاعة الشرف بمطار هيثرو، لا في زقاق تتفاعل فيه روائحٌ كثيرة، من سمك، و روث حمير، و أدرانِ صابون الغسال الضاحك بجواره، كان يجلسُ أمام محله، يُضاحك الطرف الآخر على الهاتف، و كأن رجليهِ المتدليتين بانتشاءٍ من كرسي عتيق، تتأررجحانِ في حوض سباحة مليءٍ بأزهار اللوتس، يبدو أنه مع الوقت و الاعتياد، لا ترى العيون إلا ما تتخيل، إنها تتجاهل الواقع تماما.

في صحنِ البيت فراغٌ لم يُملأ لا بأثاثٍ للجلوس و لا فراش يُغطي برودة السيراميك، كان صحنا كصالات رياضة القفز الثلاثي المُغلقة، تأخر مصطفى قليلا عن يَسلَم، ليعرف أين سيتحرر من حذائه، لكنه جذبه قائلا:

  • ادخل فلا أحد هنا، سيأتون بالعشاء من البيت المجاور، هذه دار جدي، و هو الآن بالمستشفى..
  • لم يكن عليك أن تطلب قدومي و الحال كذلك، على الأقل حتى يتماثل الجد للشفاء.
  • لا عليك، تفضل، تفضل.

الصالون حيث جلسا، كان غريبا جدا، بلون رمادي باهت، لا يُلهم بشيء، زخرفة الجبس في السقف بدت كأغصان شجرة لا جذور لها، تنتهي تفرعاتها في كل زاوية بما يُشبهُ العين، في داخلها مصباح صغير بضوء خافت.

فجأة انقطعت الكهرباء عن المنزل كله، و لولا خشيته من أن يكون واهما، أحس مصطفى بصوتِ أقدام تُغادر الصالون لتوها، كان ذلك واضحا لا يقبلُ شكا، لكنه لم يُلاحظ شيئا تغير في صوتِ صديقه، ففضل الصمت.

  • عادي، عادي، اعتدنا ذلك هنا..

همس يَسلم، ثم اعتدل واقفا و خرج ليأتي بعد أقل من دقيقة بشمعة يتيمة، سابقةُ عهدٍ بالاحتراق، ما إن هم بإشعالها حتى عادت الكهرباء، لكن مصباحا وحيدا من مصابيح الزوايا الأربعة استجاب لعودة الروح، كان فوق مصطفى تماما، بدت الشجرة كأنها تنظر إليه شزرا من خلال العين التي يستقر فيها كبؤبؤ مريض.

هواجس كثيرة توالدت من بعضها، و سؤال وحيد ينتهي إليه كل سكون لها..لماذا لبَّى زيارة منزلية، لشخص لم يعرفه بعدُ جيدا؟

و غادرت روحُ الكهرياء مرة أخرى، و أغلق مصباحُ الزاوية عينهُ.
بذاتِ النغمة الأولى:
– عادي، عادي..!!

أوقد الشمعة، ثم خرج صامتا، كان مصطفى يسمع نزرا من كلامه في الهاتف، تبين منه جملة واحدة:
– لا، لا، لقد أعلمتكِ صباحَ اليوم.

دخل مُخاطبا جليس الصالون المُحتجز:
– مصطفى، هل لي بمفاتيحك، لن أتأخر؟
– خيرا، أهناك ما أستطيعُ أن أُساعدك فيه؟
– لا، لا، سآتي حالا.
مدَّ له المفاتيح، ثوان ثم استمع لصوت المحرك يدور مبتعدا، تمنى في قرارة نفسه لو كان متعلقا بكابينة سيارته “الهيليكس” حتى دون علم يَسلَم، خطر له بأن أي مكان ينزل فيه عنها، سيكون أفضل من جلوسه في هذا الصالون الصامت حد الغرق في التأمل، في نفسه شعر بأن هذه الليلة ستكون مختلفة، مختلفة جدا.

انتبه للشمعة و قد كاد يذوي شعاعها، بفعل تيار خفيف سريع، كان يأتي من فتحة بين ضلفتي النافذة الوحيدة في الصالون و العارية من أي ستار، ضغط بكفه على الضلفتين، ثم تعالت منه صرخة مكتومة، فقد انغرس مسمار صغير ناتئ في كفه تماما، كان وخزه مؤلما جدا، ثم و كأنه رجعُ صدى لصرخته، انطلقت من خلف النافذة نفسها صرخة أطول و أعمقُ و أكبر صدى، رجع للخلف مذهولا، تعثر بوسادة أسقطتهُ على الشمعة مباشرة، أظلمت الدنيا، استجمع شجاعته، أدخل يدهُ في جيبه، أخرج القداحة، و بسرعة أشعلها أمامه يمدها في وجه الظلام، كأنها سلاح قاتل.
تقدم نحو النافذة، تشتتت الصرخة، أصبحت صرخاتٍ أقل حدة، بدا أن نسوة في الدار الملاصقة ينتحبون و بشدة، أخيرا فهِمَ أن شخصا في تلك الدار انتقل للعالم الآخر، على عجلٍ و الوساوس و الصور تتداعى في مخيلته، أشعل القداحة ينتعلُ حذاءه، ثم انطلق مُرتداً من مطاطِ حبلِ أفكاره نحو الباب الخارجي، كانت رقبته من الخلف تقشعر و كأن يدا تُحاول القبض عليها، أشعل سيجارة، تفحص الأشكال التي بدأت في الدخول عند الجيران، أما الملامح فقد بددها الظلام، كانوا أشبهَ بأشباحٍ لشخوصٍ مسرحية، لمرة و اثنتين و ثلاث و ..تخرج إحداهن تقتربُ منه باكية، ثم تقف كابحة قدميها:
– يَسلَم، أين يَسلَم؟
ثم ذات الجواب، لكل مرة:
– يَسلَم، سيأتي حالا.
ثم سؤال آخر:
– من أنت؟
جذبَ نفسا طويلا، لم يُجب، استند على الحائط بقدم واحدة، يرقبُ الشارع البعيد، أخيرا رأى السيارة قادمة، كانت تتقدم منه بسرعة كبيرة جدا، توقفت عنده تماما، خرج يَسلَم:
– سنذهب للمغسلة، و منها للمقبرة، جدي توفي؟
ثم دَلف داخلا البيت المجاور، حيث مصدر الصراخ.

كان واضحا أنه يعني أنَّ السيارة ستُباشر المهمة، و لعله يُريدها أن تكون قنطرة لنقل جده نحو بيته الجديد.

أنقضت الصلاة، بِعدد قليل جدا، و كانا في طريقهما للمقبرة، ما لفت انتباه مصطفى أنه لا أحد تقريبا رافقهم، فقد كانت السيارة تنهبُ الطريق وحيدة، إلا منهما و صديق عجوز للجد، ملامحهُ غريبة، كأنه سبق و مات، و ابن أخته الوحيدة، كان في عمر صغير، ربما لم يتجاوز الخامسة عشرة، كان السؤال يُلح عليه لطرحه، و ما إن هَمَّ، حتى قال يَسلَم:
– الحمد لله أنك معي الليلة، لم أكن أعرف من أين سأتدبر سيارة لنقل جدي؟
– كيف، السيارات كثيرة جدا، لكن لماذا لم يُرافقنا أحد، أين بقية الأهل و المعارف..
– سيأتون، كُثرٌ لم يعلموا بوفاته بعد؟
بدا لمصطفى و من نبرة صوت رفيقه، أن ذلك غير صحيح، دعا الله في سره، أن لا يكون بالميت مرضٌ مُعدي.

توقف مصطفى عند كوخ باب المقبرة “امبَار” في داخله تمدد شاب أسمر، بدا أنه نائم، أمامهُ صحون فارغة كأنه لتوه تناول عشاءه، أيقظه ثم سلمهُ ورقة الإذن بالدفن، أشار عليهما بالدخول، و التوجه لأقصى المقبرة و أشار بيده نحو الجهة المنشودة، قائلا بأنه سيأتي لمساعدتهم، و عليهم انتظاره.

لم يكن هناك قبر جاهز، حيث أشار الشاب، و بدأ مع يَسلَم ماراثونا من المساومات حول ثمن عملية الحفر، تدخل مصطفى و أنهاها بعدما سئم من محاولات يَسلَم التي نسي خلالها أن الميت جده، و بأنها ليست عملية مساومة حول شراء “دراعة”.

بدأ الشاب في الحفر، على ضوء مصباح قوي أحضره معه، وقف مصطفى و المراهق جانبا، أخرج سيجارة أشعلها و بدأ في تفقد المكان، لم تمضِ دقائق حتى صرخ فيهم الشاب الأسمر، و عيونهُ مُشتعلة بغضبِ مفاجئ غريب:
– لن أحفر قبرا لهذا الرجل، ابحثوا عن غيري أو احفروهُ بأنفسكم.
ثم انفجر بضحكةٍ غريبة، كأن شيئا ما يُمسكُ بشفتيهِ يُحركهما كيف شاء، ثم أشار للسيارة..
– انظروا لسيارتكم، هناك من يعبثُ بها.

رمى المصباح، و انطلق جريا نحو مخرجِ المقبرة.

أخذ مصطفى المصباح، تحرر من “دراعتهِ” ثم اتجه نحو السيارة، لحقا به، و قد بدأ الشاب الصغير في البكاء بصوت منخفض وجِل.

على مقاعد السيارة، كانت أكياسُ أكلٍ مبعثرة بشكل غريب، تناثر الطعام في كل مكان، دجاج مُقطعٌ بشكل مُنفر، و أرز في كل مكان، و صلصة حمراء لطخت الزجاج بشكل مُريع، حتى الخبز بدا أنه تم هرسهُ لا تقطيعهُ.
– هل أحضرتَ هذا الطعام معك؟
كان صوتُ مصطفى واثقا، لا خوف فيه.
بصوتٍ متقطع أجاب يَسلَم:
– أخذتُ منك مفاتيح السيارة لجلبه فهو عشاؤنا.
بدت في صوته حسرة على ضياع الأكل، كادت تُضحكُ مصطفى، رغم ما كان فيه.
– لا بأس، هيا بنا، علينا أن ننتهي من الحفر سريعا، مهما حدث في السيارة، لا تُعيروهُ انتباهكم.

لاحظ مصطفى أن “دراعتهُ” اختفت، كما لاحظ أن النعش أصبح اتجاهُ رأسه معكوسا، لم يُلاحظ سواه ذلك، بيدَ أن الجميع لاحظ أن الجسد ملطخ بخطوط حمراء على شكل مربعات صغيرة، و تُحيط به بقايا الطعام.
بدأ مصطفى الحفر و يَسلَم يُمسك بالمصباح، و الشاب الصغير مُلتصقُ به تماما، بينما كانت تصلهما من السيارة أصواتٌ متقطعة لفحيحٍ و طنين متواصل، يقطعهُ صمتُ رهيبُ مُوحش، واصل مصطفى الحفر و لم يتوقف لحظة عن تلاوة القرآن، بينما انضم جسدُ يَسلَم للرقص مع ابن اخته، بارتجاف لم يستطع التوقف عنه، قلبهُ يكادُ يخرج من فمه، و مصطفى يصرخ فيه:
– اثبت، و ركز، اقرأ القرآن، لا تخف هذا جدك، عليك دفنه، لا تُركز مع الأصوات فهم لا يستطيعون الاقتراب..امسك المصباح جيدا..كُن رجلا..

بعد زهاء ساعة من الحفر المتواصل، اطمأن مصطفى أن المساحة تكفي الجسد الممدد، تعرق كثيرا، مُستمرا في تلاوة القرآن، جر الجسد إليه، الشاب الصغير بدا حينها رغم خوفه البادي جدا، أكثر عزما في الانتهاء من يَسلَم الذي أصبح في حالة متصاعدة من الرعب، في حركة مفاجئة غير محسوبة، جذب مصطفى الجسد في الوقت الذي سقط من ناحية الشاب، في ذات الوقت الذي تقدم فيه يَسلَم ليحمله معهما، لكن يده قبضت على الفراغ، فسقط في القبر، و سقط المصباح قبله، مُطلقا صُراخا رهيبا، أمسكَ به مصطفى و جذبهُ نحوه، بينما التقط الشاب المصباح بشجاعة، لكنه انهار من طوله، حين لم يجد الجسد في مكانه عند قدميه، لم يعرف أحد منهم متى و كيف استقر الجسد لوحده في القبر، لم يُفكر مصطفى في ذلك كثيرا، أمرهم و بصوت صارم:
– ادفنوا، أَهيلُوا التراب.

في دقيقة كان العجوز المُتعِبُ تحت الأرض، وقف مصطفى عند رأسه، تلا ما تلا و دعا له، ثم انطلق نحو السيارة، لكن يَسلَم و قريبه، لم يتزحزحا:

  • أنا سأذهب و كما جئت، في سيارتي، إن كنتما تُفضلان البقاء مع جدكم، لا بأس.
    كان صوته حازما لا تردد فيه.
    اقترب من السيارة و هو يتلو سورة ياسين بصوت جهوري عميق.
    ما إن فتح الباب، حتى صدمتهُ المفاجأة، بل صدمتهم جميعا!!!

لا طعام على المقاعد، لا صلصة على الزجاج، لا شيء، السيارة نظيفة تماما.

  • اركبوا.
    صرخ مصطفى، الذي لم يتوقف عن تلاوته، و بدا أن رفقته هدأت قليلا.

عند المخرج هدَّأ من سرعة السيارة، حين لاحظ على ضوئها “دراعتهُ” معلقة على وتدٍ، صرخا فيه أن لا ينزل، لكنه فعل، جذبها نحوهُ و عاد على عجل، لم يكن هناك صوت أو أي شيء غير طبيعي، اشرأبت أعناقهم و هم يخرجون داخل باب الكوخ، كان الشاب الأسمر ممددا مكانه الأول حين دخلوا، لكن الصحون الفارغة، كانت تعج بالطعام، دجاج، أرز، و صلصة حمراء، و خبز، كما ان البخار يتصاعد من الصحون، تجاوز مصطفى “لَمبَار” بعزم و قوة، حين اعتلى الشارع، كان أذان الفجر لتوه يخرقُ الصمت، أحس بطمأنينة افتقدها لساعات، ساعات بدت كأنها لا تنتهي.
أوصلَ يَسلَم و الشاب لدارهما، شيئا فشيئا، عاد يَسلَم لتقمص روحه التي افتقدها أو فقدته، قبل أن ينبس بحرف، و حين دخل الشاب الصغير الدار مهرولا، وجد مصطفى الفرصة لما يريد قوله:
– عندي سؤال، لا بد أن تُجيب عليه، و طلبٌ حتما ستُنفذهُ:
– تفضل.
– لماذا لم يذهب أحد معنا إلى المقبرة من أهلك؟
– ليس هناك أي سبب خاص، لم يكن موجودا غيري، و أغلبُ الأهل في الداخل، و الوقت متأخر، و ليس في البيت غير النساء.

لم يكن ذلك هو الجواب، الذي كان مصطفى ينتظره، لكنه تجاوز نحو طلبه:
– انزل من السيارة، و إياك أن تتصل بي مرة أخرى، إياك، ذلك هو طلبي.

أدار محرك سيارته، و انطلق لا يُداخله شك، بأن جد يَسلَم إما ساحر أو مُشعوذ.

اصطدم فجأة بسؤال مجنون، كابحاً الفرامل بقوة في عرض الشارع الخالي:
– أين اختفى العجوز صديق الجد، الذي كان في مؤخرة السيارة، فلا أحد رآهُ أو افتقدهُ منذ انطلاق السيارة؟

أدخل يدهُ في جيب “الدراعة” ليتصل بيسلَم، ثم أخرجها فجأة على عجل، كان جيبه مليئا بالخبز المهروس.

عاد لتلاوة القرآن، يلعن في سره يَسلَم و الجد و العجوز، و الليلة كلها.

صلاح الدين الجيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى