اضطراب منهجية التفكير بين الدولة والدين في المجتمع العربي
بعد ملاحظة تنامي حدة الخلافات بين الخطابين الديني والوطني في المجتمع العربي، فقد يكون من المفيد الاضطلاع بمحاولة فهم ما وراء الواقع السوسيولوجي، لتفسير مكونات تصورات الناس حول واقعهم، بالاعتماد على مفهوم اضطراب منهجية التفكير بعوارضها، في الخلط بين ما هو كائن و ما ينبغي أن يكون، أو ترتيب استنتاجات فاسدة على مقدمات غير موجودة..
كمن يتبجحون بان لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ويحظرون المساكنة أو المصاهرة مع العشائر المتجاورة، أو من يدعون للعفة وتيسير حياة المسلم، ويبالغون في تكلفة الزواج، أو من يدعون إلى ضرورة اللحاق بركب الحضارة، و يشيطنون المعرفة العلمية بوصمها “بالعلمانية”. ولعل البدء بالطرق على هذه الالتباسات بالأسئلة يكون أجدر في المساعدة على تفكيك طلاسمها، على نحو: ما أهم العوامل التي أدت إلى اضطراب منهجية التعقل في الثقافة العربية؟ وهل أفضى ذلك الاضطراب إلى أزمة هوية بالمعنى (الاريكسوني) القائم على العجز عن تحديد المعرف الأول من عناصرها الممثلنة أو المستعصية على الإخضاع للتفكير المنطقي؟ وهل يرجع ذلك إلى سيطرة استغراقها في الخلاص من هول الآخرة، و سيادة العقلية المقدسة أو العاجزة عن التمييز بين المعرفة والإيمان؟ و إلى أي حد تتجلى أزمة الهوية أكثر في اعتبارها ليست معطى مسلما به، وقابلة للمساءلة؟ و إلى أي حد أيضا يلازم تلك الأزمة شعور الإنسان بأنه مهدد في أعماقه وفاقد لإطاره المألوف، و لمصادر طمأنينته؟ وهل لذلك علاقة بسيطرة قدسية اللغة العربية بعامل ارتباطها بالقرآن الكريم، الذي تتحقق بتلاوته تغييرات في مجرى الواقع التجريبي؟ أم أن له علاقة بالاستغراق في جمالية هذه اللغة إلى حد يضخم كلماتها للتداخل مع حدود الأفعال، ولو على المستوى الحلمي؟. تكمن المبررات الأخرى لإثارة مثل هذه التساؤلات، في أنه حين النظر إلى المدخل الديني الإسلامي “الأصولي” و المدخل الوطني الدولاتي “الشوفيني” بموضوعية، يسهل التوصل إلى سلامة كل منهما حسب مرجعيته ـ رغم تباينهما ـ بصرف النظر عن انفصال كلا الخطابين عن مضمونه السلوكي في التفاصيل اليومية! فيما يمكن تبيانه على النحو التالي: 1ـ ينطلق الخطاب الديني الإسلامي من مرجعية أصيلة و جلية، للغاية من الخلق “و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” القرآن، و لا يمكن القفز على هذا، مع بقاء الدين الإسلامي كما هو، ما يعني أن أي سلوك خارج هذه الغاية لا يعتد به دينيا، حتى لو كان دفاعا عن “الوطن” ما لم يدخل هذا الوطن في السياق الدلالي “لدار الإسلام” التي تتحدد معانيه بالولاء لجماعة المؤمنين الموحدة بالإيمان، وعرضها ومالها في نية المؤمن، وغايته من نصرة دين الله، كقاعدة وحيدة لإحالة القتلى إلى شهداء عند ربهم يرزقون، حتى لو كانوا في قتال ضد جزء من المسلمين لا يرفع شعار “نصرة الله” حيث يعلو الإيمان “درجات” على المؤمنين أنفسهم، ومن ثم على “جغرافيا سيادة الدولة الوطنية ورموزها” فكل ما عدا الإدانة للخالق بالتضحية في سبيل “كلمته العليا” فهو “وثن” يكرس فرقة المسلمين ويجب مقاتلته وتدميره “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله…” القرآن. 2ـ ينطلق الخطاب الوطني، مثل أي نظام، من محاولة تدعيم نمطه، بالتفاني في الإعلاء من شأن الولاء له، عبر المكافآت والترقيات في الرتب و الجاه، بناء على أنه لا شيء يعلو على “سيادة الدولة الوطنية فوق أراضيها” و من ثم حق هذا الوطن المطلق في محاربة التضحيات في سبيل ما دونه، من قبلية أو حزبية أو إثنية..باعتبارها نوعا من مظاهر التعصب و الهمجية، تهدد نسيج المجتمع الوطني، أما ما يعلو عليه في القدرة على الجمع وتجاوز حيزه الجغرافي والقانوني، مثل “الدين” فتصنف التضحيات في سبيله بأنها إرهاب وتطرف، وتهديد لاستقرار الوطن، يقتضي تفكيك الجماعات المنخرطة في سياقه بأقسى السبل، وكأنهم كائنات شيطانية “موصومة بالإدانة” لا تستحق مراعاة أبسط حقوق الإنسان! حتى لو تنافى ذلك مع ما تكفله حقوق المواطنة من حرية التعبير والمعتقد في الدستور الوضعي، بحيث يبدو أحيانا وكأنه مجرد قيود “خادعة” ، تنوب عن المستعمر في مواجهة “الثقافة المقاومة” المعتمدة على أن “كلمة الله هي العليا”.. وبناء على ذلك فهل يمكن التماس الإشكال في صعوبة جمع الأضداد، أو تعايش “المطلقات” دون أن تتصارع، باعتبار المطلق واحد، لا تعدد فيه؟ ومن ثم فإن الاضطراب يبدأ عندما يحاول أحد المرجعيتين استيعاب نقيضه، أو عامل فنائه، و التعايش معه “بالاستغلال” حيث لا يمكن تلبية تفاصيل الحاجات اليومية للناس عبر لفها أو طبعها بشعائر روحية، كما لا يمكن تدنيس المطلق بإخضاعه لصيرورة الواقع التجريبي النسبي المعيش! على اعتبار أن الدولة تنشد الرفاه الحسي أو التجريبي الآني، بينما ينشد الدين التقشف الحسي، ومقايضة التحكم في تأجيل إشباع النزعات في الزمن المنصرم، بإشباعه بطريقة أفضل في زمن الآخرة، المشيد الأزلي الممتد، لهذا يستجيب الدين لما بعد انصرام الفترة الآنية، ليبدو أبديا، لاحقا على الزمن، ومتحررا منه، ولهذا فإنه منحاز للأخروي، أو للإنسان حين تغيبه غياهب الموت، في مقابل متناهية الدولة في الزمن، وتسابقها في الانجاز معه، باعتبار الدولة نتاج لانتصار فلسفة التنوير لأهلية العقل الإنساني الحاضر، أو لما هو دنيوي، ولكن بما لا يمحي المعاني الدينية، وإنما يحيلها إلى معاني عقلية، بحيث تتحقق الروح المطلقة، أو العقل الخالص، عبر تحرر العقل من قيود كل القوى، للوصول بالثقافة الإنسانية إلى أقصاها، للانتقال من مرحلة الاعتقاد إلى مرحلة التعاقد العملي! وهكذا، فبقدر ما ينشد الخطاب الديني رضا من في السماء، عبر “الرجوع” إلى نقاوة الأصل الإلهي له، وعدم الانشقاق عن جذره، والتأكيد على جوهرية الثبات الأبدي عليه، بحيث لا يكلف الناطق باسم الدين نفسه عناء الجدل المنهجي المتعدد المداخل، فبمجرد قراءة نص أصيل من مرجع أصيل، يجعل الجميع يطأطئون رؤوسهم ويثنون ركبهم، بل، ويشعرون بخزي لمجرد مجادلة “الشيخ” وبإثم لمحاولتهم القفز على النص “الأصل”.. ، بقدر ما تنشد الدولة تبرير وجودها بما تحققه من رفاهية وازدهار على الأرض، عن طريق تجاوز ما هو قديم، والتأكيد على العقد الاجتماعي الحديث للمواطنة، كحق مطلق، متحرر من كل ما هو أولي، عقائديا كان أو قبليا.. نزوعا أو انتحاء نحو أصولها العلمانية الغربية..!. فهل يحصر هذا التنافر المنهجي أو المرجعي بين ذينك البنيتين خيارات العرب في حدود ضيقة حقا؟ أ ـ إما التسليم بنظام الدولة الوطنية “بقواعدها الدنيوية” كما تمت استعارتها من الأصل، أي “إقامة دولة الأمة العربية” بعاصمة وحكومة فيدرالية واحدة، في حدود موحدة، تحت اسم لغتهم “العربية” كأول معرف لهم من مكونات هويتهم، مثل كل الأمم التي حققت دولها، دون الشعور بالإثم، من تجاوز الهوية المتماهية مع السر الكوني المطلق، أو عدم الارتعاش من حالة “الفطام” أو ما قد يعرض هذه الهوية لعدم الحماية أو للسحق جراء انفصالها، كما تحررت الأمم الأخرى لتكون لذاتها، وقادرة على تأطير معطياتها الهوياتية ـ بما في ذلك الدينية ـ على نحو الأمم الفرنسية الألمانية الانجليزية الاسبانية التركية الروسية… حيث “لا يمكننا أن نكون من نكون، حتى نعرف من نكون” بتعبير (هيدجر)، وتحديد ما إذا كانت الهوية اجترار للتاريخ أم منجزات راهنة فيه، وما إذا كان الانجاز يتم بفعل العمل أم بمجرد ترديد الكلام. ب ـ و إما ابتكار نظام منسجم مع ثقافتهم، لتنظيم شؤون حياتهم بطريقة لائقة أو غير همجية، في شكل إحياء نظام “الخلافة الإسلامية” بمتطلبات توحيد القوميات الإسلامية المتباينة، من عربية هندية أردية تركية فارسية كردية امازيغية ملاوية و بانتوية.. ج ـ و إما الاستمرار في دوامة الاضطراب المنهجي الإدراكي، بكل متلازماته المتنافرة، حيث يستحيل الدمج بين مطلقات بشرية دنيوية مدنسة، وإلهية أخروية مقدسة، مثل لي ذراعها لترويضها في الدساتير، لغاية الاقتراب من الآخر الغربي، وهو الخلط الذي يظهر القصور في إمكانية التساؤل الحر، حول أثره في درجة الشعور بالانسجام أو الاضطراب في مكونات الهوية، حين الاستحضار من الدستور الأصلي القرآني لـ “ولن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم” العابر للأزمنة!.
د. الشيخ أحمد الجيلاني