قصة جنوح الفرقاطة الفرنسية “لا مديز” على السَّواحل الموريتانية(قصة شيقة)
الدهماء ريم تكتب:
الزمان أنفو _سنتناول اليوم إحدى أهم القصص المحلية التي كتبتها الظاهرة الادبية والمبدعة المتميزة المعروفة في الأوساط الثقافية باسم : “الدهماء ريم” والتي تلألأ نجمها وسطعت شمسها في السنوات الاخيرة كأحد أهم الكتاب الموريتانيين وأرسخهم قدما ,وأبرعهم قلما.
نعم ..حين تقرأ لها أي نص ,سواء كان مقالا أو قصة ,أو خاطرة ,ستدرك أنك أمام شلال متدفق ينساب كما تنساب مياه نهر جار في رحلة سرمدية تجعلك فاغرا فاك لا تدري هل البداية أجمل أم النهاية ,المنبع أمتع أم المصب أروع..
وحين تطوف بك “الدهماء ريم” بين سطور وصفحات قصة جنوح الفرقاطة “لا مديز” على السَّواحل الموريتانية، تجعلك تغرق في تفاصيل غاية في الدقة والاتقان ,وستحس بلذة لا عهد لك بها ,وتود لو تلتهم الزمن وتختصر المسافات لتشارك أبطال القصة في تلك الأحداث “التراجيدية” التي رسمتها “الدهماء” بحِرفية ومهارة حتى بدت كأنها لوحة فنية تتداخل فيها الالوان فتحولها من حالة محسوسة إلى حالة مرئية.
مقدمة بقلم / محمد محمود محمد الامين
(المنشور الثاني ) من قصة جنوح فرقاطة “لامديز” بقلم الكاتبة/ “الدهماء ريم”
قصة جنوح الفرقاطة “لا مديز” على السَّواحل الموريتانية (المنشور الثاني)
أنا وابنتي.. واللوحة الخالدة.
….ا
#LaFrégateLaMéduse
من هنا بدأت الكارثة، فشلت كلّ مناوراته وطاقمه لتعويم السفينة ثانية،.. عَقد اجتماعًا عاجلاً بضُبَّاطه، ظَهَرَ منه ضعف الشخصية، والتَّردد، تنازعَتْه آراء رجاله، شَرَعوا يتلاومُون، طَلَب القبطان المُرتبك تخفيف الحمولة عن السفينة بإلقاء أكياس المؤونة والأسلحة الثقيلة في البحر، خصوصا الدَّقيق، رفض الحاكم رمي الدقيق لأنه استثمر فيه شخصيا من ماله، ورفض التّجار التَّخلص من بضاعتهم، ورفض الجنود القاء أسلحتهم وتمرَّدوا على الأوامر.
ومن خِطَّة مُرتجلة، جاءت فكرة صناعة الطَّوَّافة، فأمر حاكم السنغال ببناء طوافة عملاقة (Un radeau) من خشب الصَّواري، (الشكل 3) تُوضع عليها حمولة الباخرة إلى أن يَتمَّ تعويمها ثمّ تُعاد إليها الحمولة ثانيَّة في عرض البحر، فقام برسمها الرَّاكب Alexandre Corréard بمقاس 20م في 10 أمتار، نجحت الخطَّة وارتفع هيكل السَّفينة ثلاثة أمتار، غمرتهم الفرحة، وخطَّطوا للتَّراجع إلى الخَلف، لكن العواصف وارتفاع الموج قضى على الأمل وأسقط الخِطَّة بعد اربع ساعاتٍ، وأضرَّ بهيكل الباخرة، ظهرت فوضى شديدة، وبدأ بعض البحَّارة والجنود في السَّطو على المُسافرين…
اكتشفت ابنتي أنَّ الشاطئ الذي كان شاهدًا على هَلَعِ ركاب “لا مديز”، لم يكن مجهولاً لها، لكنه إدراك طفوليُّ تولَّد من زيارة يتيمة للمكان، وهو الشاطئ نفسه الذي سبق أن شهد ميلاد والدها، على رأس “علب النَّهجة” في “تَيْشِّطْ” أقصى امتداد غربي “لأدخل” ذات انتجاع شتوي روتيني لأسرته في تلك المنطقة، وهو تقليد لدى ساكنة السَّاحل في موسم (ماشْيَةْ أزُولْ) بعبارة ُمماثلة (گيطنتْ الحُوت).. وسألَتْهُ في براءة: كيف تلقَّيتَ إذن لقاحات الولادة؟،.. وكان هُوَّ قد سأل مُولِّدَته، هل عقَّمتِ سكين السُّرة؟، فأجابت: «أبدًا، ومباشرة قبل ولادتك كنتُ أشرِّح بها السمك، غالبا لا نسرف في غسل الأدوات ترشيدًا للماء، فأقرب نقطة للماء العذب بئر الشَّامي، وعين إظِّ ، وإلاَّ علينا انتظار فالُوگِتْ لعْريگيب» (باخرة تابعة لشركة SIGP ، أقدم شركة صيد في انواذيبُ تأسَّست 1920م ، كانت تذرع لِبْحُورْ (قرى امراگن) من شبه جزيرة أگادير(مركز تبادل تجاري مع الهولنديين والبرتغال ومع الفرنسيين لاحقا) إلى انمامقار، تشتري الشركة السَّمك المُملَّح (Bacalao ، لفظة اسبانية) وتَمُدُّ القرى بالمياه والمؤونة، مقايضة أو من خلال عُملتها الخاصَّة بها (الصورة 3 مكرر)، كانت حياة هذه القرى تدور حول السمك ولا شيء غير السمك، هو الغذاء دون اختيار، وبشهية لا يقبل منها الملل، ثلاث وجبات يومية تختلف في الأسماء وتتقاطع في المادَّة: السمك!، الصَّابحَه، لمْلولبْ، لمفَشْكيِ…
تدور الحكايات والتراث والأهازيج المُمَجِّدة حول السمك: تگاوهْ (نوع من أزول) بيها ندَّاوه،.. تَواجيتْ (La dorade) انكلبوك.. اهلك يبقوك واحن نبقوك … آبلاقْ (La truite) أعورْ وامكعورْ وناگب وحطَه من لبحر.
سفينة “لا مديز” معروفة أيضًا لسكان السَّاحل الموريتاني، معرفة طُعِّمت بالأساطير والخُرافات، وهي جزء من التراث المحكي، هم على يقين مثلا من أنَّها جَنَحَت في الشَّريط المحصور بين الرَّأس الأبيض ورأس ميريك (تِمريس حاليًّا)، وخُصوصًا الجزء المعروف في الحسانية “بادخل” ، ومنها اسم دخلة انواذيبُ، دَخْلَهْ وليست (داخلتْ) كما هو شائع خطأ، و(ادْخلْ) كمكان، عبارة عن شريط رملي تتخلَّله ممرَّات مائية بين الجزر والخلجان تسمى (لمگاطع) ، فالمنطقة أرخبيل من جزر رملية مطمورة تحت الماء تسمى (اصگع) ( الصورة رقم4) ، تُغمَرُ في المدِّ وتظهر في الجزر، ومستمرة التَّشكل والتحول نظرا لطبيعتها الرَّملية، وهي نقاط صيد امراگن العتيد بالدَّلفين (أَجَانْ)، ومصدر غذاء الأسماك بالبلانكتون (أيْشَّ)، وغذاء الطيور المُهاجرة بالأسماك والقشريَّات مثلا: صغار إگير( Sardinelle أو يايْ بويْ بالولفية)، أگرگر(Crabe) وتاگشه، وبين هذه (اصگع) مَمَرَّات كانت معروفة فقط للسكان الأصليين وكانوا بعبقرية ذاكرة المكان يُسيِّرون الإبل راجلة من (سرنِّي) و(تِسِّطْ) إلى جزيرة (تيدره) وجُزُر (كيجي).
ينخفض عمق المياه في هذه المنطقة لأقل من 3 أمتار، فيهبط جسم السَّفينة نحو القاع كما حصل مع فرقاطة “لا مديز” ، ويسمى الحادث محليًّا (اتْمَكْتِ)، وهو انغراس السُّفن (اتْمانينْ) في وسادة رملية خفيَّة (صَگعة)، بالتَّالي لا هيَّ وصلت الشاطئ ولم تعد في عرض المحيط (الصورة رقم5).. يُقال إنَّ رجلا من المنطقة عثر على امرأة شقراء (صَهْبَه) بعيون زرق على الشاطئ تزوجها فذاع ارتباطه بجنية لغرابة شكلها، وتظهر ملامح تعدد الأعراق وامتزاج الأمشاج على السَّاكنة، .. ويُقال أيضا إن أفرادًا من طاقم الباخرة احتضنتهم السَّاكنة وقد حملوا معهم تقنيَّات صيد جديدة وأعمال متطورة في الحدادة،.. سكان الشواطئ عموما أكثر انفتاحا وتقبُّلاً للآخر.
……ا
يتبع بإذن الله