عنوة الوداع/ فاطمة محمد الأمين انجيان
كنت قد كتبت مقالا تناولت فيه بعضا من ذكرياتي مع أبي الشهيد محمد الأمين ولد أنجيان نزولا عند رغبة النقيب سيد محمد ولد حدَّيد بعد ما لمست من خلال اصراره اهتماما بالغا بحياة والدي الإنسانية والعائلية، هذا الاهتمام الذي كان له الأثر في دفعي لكتابة أول مقال أتناول فيه جزء من ذكرياتي مع القائد والوالد والبطل الشهيد كان قد نشر في جريدة الجيش ثم أعيد نشره على صفحات بعض الأصدقاء في موقع التواصل الإجتماعي “الفيس بوك”…… هذه التجربة جعلتني أفكر في كتابة سلسلة ذكرياتي مع أبي كما عشتها وأحسستها ورأيتها فقط لذلك سيكون مشروع السلسلة إن كتب له الله الاستمرار خلاصة تجربتي الشخصية معه كما وعيتها دون أن تكون قصة حياة الرجل التي تتجاوزني وجودا وشمولا ..
سأحاول أن أكتب ذكرياتي مع أبي لأسباب ودوافع كثيرة ومختلفة وإن كان من أهمها عندي أن أساهم ولو بجزء بسيط بأن يعيش شقيقي الحسن ـ كان عمره لا يتجاوز الأربعة أعوام عند استشهاد والده ـ مع حروفي جزء من تلك الذكريات المحفورة بعمق في ذاكرة ذاكرتي ووجداني، كما أن كتابة هذه السلسلة ربما سوف توفر عليً مهمة تعريف أبنائي وبناتي من أبناء إخوتي على سيرة جدهم، دون أن أنسى سعادتي لو وفقت في أن أنقل تجربتي الخاصة مع الوالد الشهيد لباقي أبنائه من أبناء موريتانيا الذين لهم الحق أيضا في معرفة سير حياة آبائهم وأجدادهم من شهداء وشخصيات عامة عاشت من أجل هذه الأرض وشعبها وماتت في خدمتها .. كنت قد شاركت أصدقائي على الفيس خاطرة تقول : واتجهت الآراء إلى البدء ببداية الألم قررت أن أنشر كما وعدت في الذكرى العاشرة لاستشهاد أبي الجزء الأول من بداية الألم “عنوة الوداع “. “عنوة الوداع”. وكأن القدر يريد أن يجمع العائلة عنوة للوداع الأخير قررت عمتي الوحيدة “السالكة بنت انجيان” قبل الثامن من يونيو 2003وبشكل مفاجئ أن تجيء إلى انواكشوط لترتب ولادة ابنتها “تهاني” في مستشفيات العاصمة وهي التي كانت مصممة على أن لا تضع ابنتها إلا في شنقيط … و بعد اسبوعين أو نحوهما من وجود “السالكة” بيننا عادت السالكة الصغيرة “اسويلكة” (أختي الصغرى) هي الأخرى إلى انواكشوط بعد ما كانت قد ذهبت للتو للاستقرار مع زوجها ـ في ذلك الحين ـ في مدينة انواذيبو وذلك على إثر إصابة ابنتها الصغيرة “اعويشيت” بحساسية مزمنة أخافت الأم الصغيرة واضطرتها للعودة بسرعة…. وجود السالكتين كان سببا ومحركا لتبادل الزيارات العائلية بشكل غير عادي وكأننا كنا نعيش جوا من الحميمية الأسرية من نوع خاص.. مرر أبي من خلاله لنا رسائله الأخيرة (سأتحدث عنها فيما بعد).. كان حضور أبي مكثفا ومميزا كالعادة بهدوئه المهيب وهو يمسك بيده اليمنى مسبحته الحمراء … كان هادئا منصتا أكثر منه متحدثا كان وجوده باستمرار يبعث على الطمأنينة ويعني أنه يهتم ويحرص بنفسه على التفاصيل الصغيرة من أجل راحة الجميع .. مرت رؤيتي له آخر مرة بشكل سريع وقصير عكس الأيام السابقة وخصوصا في الشهور الأخيرة من حياته….. كان اللقاء الأخير الذي جمعني به قبل يوم من الانقلاب عندما اصطحبني إلى غرفة نومه ليعطيني مبلغ مائة الف اوقية قائلا لي وهو يبتسم تطالبيني فقط بمائة ألف أليس كذلك؟ ـ كان قد كلفني بشراء بعض المستلزمات لإخوتي كلفت ذلك المبلغ ـ قلت له نعم هو كذلك، أحسست لبرهة أنني أريد أن أمكث معه لبعض الوقت .. كان شعورا غامضا لم أفهمه حينها.. لكني استسلمت لنداء أختي اللول تستعجلني للذهاب إلى منزل عمتي لتكون صورته مبتسما آخر مشهد له ينطبع في ذاكرتي! أخذت تاكسي صبيحة يوم الانقلاب من مقاطعة دار النعيم ـ كنت أسكن فيها في ذلك الوقت ـ متوجهة إلى عرفات لزيارة أقارب لي كان سائق التاكسي كثير الثرثرة وكان مما قاله وأرعبني بأنه يحس أن شيئا ما مرعبا سيحدث لأن جروه الصغير ما إن رأى شمس ذلك الصباح حتى تسمر مذعورا وظل يحدق فيها تنتابه نوبة من النباح الشديد وهو أمر ينبؤ عن خطر ما، فعلى حد تعبير سائق التاكسي الحيوانات تحس الخطر القادم أكثر من الإنسان….! غادرت التاكسي ولم يغادرني الشعور بالخوف من نبوءة سائق التاكسي أثر على زيارتي للأقارب فلم أطلها ورجعت أدراجي دون أن أمر على بيت أهلي أو عمتي كالعادة واكتفيت باتصالات هاتفية أطمئن وأطمئن من خلالها … مرت بقية اليوم بشكل عادي قبل أن أتلقى اتصالا هاتفيا من اختي “اللول” التي كانت في منزل عمتي حينها تخبرني بوجود طائرة تقصف الرئاسة وأصوات رصاص متقطع … كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ليلا وعشرين دقيقة، خرجت مباشرة لأسمع صوت طائرة تحلق بعيدا وأصوات رصاص متقطع سألت الحارس وهو حرسي شاب عن الصوت وماذا يظن بشأنه لكن جوابه بدا مشتتا ومرتبكا ـ وهو منظر لم أعهده في من يرتدي بدلة عسكرية ـ فقررت أن أوقظ والد أبنائي “محمد المختار ولد عبدي” وأخبره بالخطب ليساعدني على فهمه، ثم اتصلت بعدها بأمي التي بدت متماسكة قليلا مع أن صوتها وترديدها للدعاء كان يشي بجسامة الوضع …سألتها عن أبي أجابتني ذهب لأداء عمله أدعو الله أن يرده إلينا سالما .. لم أنتظر أن أكمل الحديث معها أغلقت الخط واتصلت بوالدي مباشرة على هاتفه النقال كانت الساعة حوالي الواحدة والنصف بعد منتصف الليل ….انفجرت بالبكاء بمجرد سماعي لصوته يجيبني على الهاتف.. أمطرته بوابل من الأسئلة من قبيل: ما الذي حدث ؟ ما الذي شاهدناه؟ ما هذه الطائرة ؟ ولماذا هناك اصوات رصاص ؟وهل حقا ما سمعت ؟ فأجابني بسؤالين: ما الذي شاهدته ؟ وما ذا سمعت ؟ أجبته وأنا اتلعثم وأبكي شاهدت رصاصا يطلق من الجو، وسمعت أن هناك انقلابا وأخذت أبكي حتى سمعته يضحك ويقول “إطريك مذلك”، وأردف يطمئنني قائلا إنها مشكلة صغيرة في طريقها للحل إن شاء الله.. هدأت ضحكته وصوته الحنون روعي قليلا، لكن سرعان ما انتابتني نوبة بكاء ثانية عندما بدأت أنشده بالله والرسول أن يخرج من مكان تواجده ويرجع إلينا أحسست بتأثر في صوته وهو يودعني ممازحا لا تقلقي “أنت مانك عاقلة” وأنا عندي العمل ويجب أن أتفرغ له … أحسست بأنني أريد أن أقول له أبي إني أحبك لكن شيئا ما حال دون نطقي لها فودعته وأنا أمني نفسي بقولها لاحقا عند عودته سالما إن شاء الله…. عند الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل تلقيت اتصالا من والدتي تخبرني بأن أبي يقرؤني وأخواتي السلام ويطمئننا على حاله وبأنه يطلب منا أن نكف عن الاتصال به وعن البكاء حتى يستطيع التفرغ لعمله وبأنه حال انتهاء العمل سوف يتصل هو بنا بنفسه … سألتها كيف يمكننا الاطمئنان عليه قالت الصلن بي وأنا أطمئنكن ….عند الساعة السابعة تماما طلبت من محمد المختار أن يتصل أمامي بأبي حتى يطمئن قلبي… لم تطل المكالمة بين الإثنين لكن محمد المختار طمأنني قائلا يبدو أن الأمر قريب من أن يكون تحت السيطرة …فرحت فرحا شديدا بالخبر وجلست انتظر أن تطلع الشمس لأشتري بطاقة شحن رصيد الهاتف لأبشر الجميع بأن الأمور تسير على ما يرام… فتح الحانوت متأخرا عن عادته وذلك عند الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة تقريبا …كان صوت قصف المدفعية الثقيلة قد بدأ باكرا كما بدأ يشتد لكني نتيجة الاتصالات المطمئنة لم أكن خائفة لدرجة أنني كنت أضحك فيها من ارتباك الحرسي عند صوت كل قذيفة وكأنها ستقع على رأسه … وأنا ذاهبة إلى الحانوت كانت جارتي تسألني عن القصف وعن أبي وبينما أنا أطمئنها باسمة فإذا بصوت تلك القذيفة الذي أذاب قلبي وأحشائي حتى شعرت برغبة بتقيئهم فجلست على ركبتي وأنا أبسمل وأقول لنفسي أعوذ بالله من هذه القذيفة ما أفظعها … جلست حوالي ربع ساعة وأنا متألمة من ذلك الصوت ومستغربة من وقعه عليً ومتسائلة لماذا أنا هكذا إذا كنت مطمئنة على أبي وأهلي والغريب أن نفس ما أصابني أصاب أختي “اللول” بنفس الدرجة وفي نفس التوقيت رغم اختلاف أمكنتنا وتباعدها … بدأ القصف والقلق يشتدان بعد الظهيرة وبدأ المكان يعج برائحة البارود وكأن القذائف تسقط عند نوافذ بيتنا…. كان شعوري بنفسي يخف تدريجيا وكأن روحي تسلب مني بالتدريج وأفقد كل احساس بالحياة فلا رغبة لي بأكل ولا شرب ولا نوم … حل مساء ذلك اليوم كئيبا تملؤه رائحة البارود ويعم الخوف فيه والجزع الأرجاء…تلقيت مع حلول العاشرة مساء اتصالا من أمي تخبرني بأن والدي بخير وتكلم مع “الب ولد محمد فال” ـ رحمه الله ـ وأخبره بسلامته فسألتها باكية: ولماذا لم يكلمها هي أو يكلم أحدا منا لم تجبني وأغلقت الهاتف ليتصل بي بعدها “شيخن ولد الحضرامي” ـ ابن خالة المرحوم ـ ويقول لي بأن أبي بخير وأنه مصاب في الكتف واليد إصابة خفيفة.. بدأت أنشده الله الحقيقة وكان في كل مرة يذكرني بمن يكون، وبأنه لا يكذب.. ثم اتصلا ثالثة ورابعة يحكيان نفس القصة بسيناريوهات مختلفة ….بعد تلك الاتصالات وجدت الشجاعة لأفتح قناة الجزيرة وليتني لم أفعل… في تلك الليلة عافت نفسي أشخاصا وقلً تقديري لآخرين …..كان مؤلما لي رؤية البعض يصدح بالتهليل و التبريكات متجاهلين شريطا بلون دماء أبي يمر من تحتهم كتب فيه “نبأ عن إصابة قائد أركان الجيش الموريتاني” كما ساءني رؤية أشخاص ينبرون في تبرير الانقلاب والتبشير بنتائجه دون اعطاء أدنى اهتمام لما يروج من فوضى ونزوح وضحايا يترقب ذووهم مثلي كل قول وخبر… قررت أن أغلق التلفاز وأخرج أتحسس خبرا علني أجد ما يطيب خاطري….كان الكل يتجمهر أمام منازله ويتعاطون أخبارا مفادها أن انقلابا ناجحا قد وقع وأن أبي بحوزة الانقلابيين أو أنه مصاب في المستشفى وهما خبران أحلاهما حنظل…فقدت الثقة في الكل بما فيهم أهلي بسبب تضارب الحكايات المطمئنة والسيئة معا … مرت ليلتي الثانية طويلة كأنها تمانع مجيء الصباح وتعيسة تنذر بخطب جلل …..في الصباح الموالي عند حدود العاشرة زارتني صديقة وأخت مقربة “امانة منت جعفر” كانت تعلم المصاب وأجهله احتضنتني بقوة وتأثر بالغ استحضرت معهما شريط الجزيرة المشؤوم فما كان مني إلا أن قلت لها لا تقلقي أبي بخير… جاهدت نفسها لتقول بصوت غير مقتنع بشرك الله بالخير ولم تمر إلا دقائق حتى دخل علينا محمد المختار الذي كان قد خرج في الصباح ….أخبرني بأنه يريدني في أمر دون أن ينظر في وجهي ….مشيت خلفه بجسم لا حياة فيه إلا لقلب يوشك أن يقف.. دخل غرفة النوم وتبعته ليواجهني داخل الغرفة بوجه متورم وعينين دامعتين ….كانت تلك اللحظة من أصعب اللحظات وأكثرها دقة وخطورة …كانت لحظة حاسمة لاتخاذ القرار إما اللجوء إلى الله والتسليم والتفويض أو اللجوء إلى الشيطان والرفض والجنون … سألتحق بعدها بالأسرة وأشهد التداعي والالتحام واستجمع بقايا القصة المشتتة….
لقراءة التعليقات من المصدر اضغط هنا