قصة “طوفان” للأديب الشيخ بكاي وقراءة مختلفة
النجاح بنت محمد بن محمذن فال في قراءة للقصة القصيرة جدا (طوفان ) للأديب الشيخ بكاي
الزمان أنفو ـ
طوفان… ( قصة قصيرة جدا) / الشيخ بكاي
“أوى الطلل إلى رأس الجبل النازف، وانفلق بين الصخور رعدا لم يسمع دويَّه إلا هو..
تطايرت شظايا الرعد خَرْساء، لم يُردد لها الصخر صدى..
قالت أطلال جرح لأطلال روح : “لا عاصم اليوم من الغرق”…
تصايحت أصداء صديا من رأس طائر أسود…
وكان آخر عشي في الطوفان الأحمر…”
الطوفان : من العنوان تتراكم المفاهيم الغيبية الموحية بالفناء والبقاء معا ! مما يعزز الإبهام والتضاد الضروريين في البناء الفني للقصة القصيرة جدا..
تأتي القصة القصيرة جدا (طوفان ) مشبعة بعدة شحنات : الغضب.. التشظي المتراكم في اللاوعي الديني ، وبالهرب المتجلي في اللجوء الي كنه الطبيعة في تجليه في القرآن مستوحي من مداليل الغضب الإلهي .. وباستخدام فعل أوي المتصدر للنص والمستوحى من قصة نوح في القرآن الذي تستمد منه هذه القصة اكثر من مرة وخاصة علي مستويين:
المستوى الأول
قصة نوح عليه السلام ذات السمتين الآنفين حيث أفنى الطوفان عالما ؛ وأبقى على حياة خلق السفينة .. فكان الماء الذي هو أصل الحياة سببا في إغراق من هلكوا كما كان سببا في منجاة من نجوا بواسطة السفينة التي حملتهم إلى مياه البحر ..
في هذه الرمزية الثنائية التقابلية، يأتي العنوان ذي السمات الموغلة في العنف المستمد من أعنف قصة شهدتها البشرية ؛ يتم توظيفها هنا بواسطة احد الشخوص القصة.. ألا وهو الطلل الذي أوي إلي جبل ، في استلهام من أعسر وأقسى لحظات الفراق وهي قصة النبي نوح مع ابنه وزوجته اللذين رفضا ركوب السفينة التي دعاهم لركوبها ليكونا من الناجين ولم ينقل القرآن دعوة نوح لزوجته بل اكتفي بذكر ابنها .. وهي قصة يحضر فيها تغول الانوثة وتفوح منها رائحة الخيانة .. علما بأن القرآن لم يذكر دعوة نوح لزوجته بل اختزلها في ذكر ابنها (يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين )….
وحيث ان الجبل رغم مواصفات العلو والثبات المكاني لم يسعف ابن نوح في النجاة .. تم الاستغناء عنه ليتحول فجاة إلى صفة البحر في قصة النبي موسى ..
ذلك هو المستوى الثاني من القصص القرآني الذي تحيل إليه هذه القصة
المستوى الثاني
ما تلبث قصة النبي نوح أن تشتبك بقصة أخرى لها مدلولها الغيبي والطبيعي ، والوجودي، هي قصة النبي موسى في إيحاءاتها التقابلية العنيفة التي كان الماء ايضا ساحة لها .. تلك هي قصة المطاردة الدرامية بين فرعون وموسى .. علي إثرها تم إسقاط حالة البحر على حالة الجبل على سبيل التشبيه الذي ورد في القرآن بأ ن البحر أصبح كالصخر ( فانفلق، فكان كل فلق كالطود العظيم ) التي تتراءى لنا من خلال فعل “انفلق” الوارد في القرآن إسنادا إلى البحر- على سبيل الإعجاز لأنه ليس من خصوصياته ..
يأتي كل هذا ليعزز عناصر الصراع درامي بين شخوص القصة ممثلين في اطراف الصراع :
قصة نوح، وقصة موسى اللتان تنسجمان مع الدواعي الفنية للقصة القصيرة جدا .. وذلك من حيث تعدد أقطاب الصراع ومن حيث الضغينة والحقد ، ومستوى القهر والإكراه الذي تطفح إحداهما بالخيانة بإيحاء امرأة نوح ، وتشع الأخرى بعبق الوفاء والحب ممثلا في وفاء الام (ام موسي) والزوجة الحبيبة (ابنة شعيب التي قدت ثناءها علي موسي “يا ابتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ” والمؤمنة الصادقة ذات الوفاء لدينها وتقبل زوجها رغم حالة القهر والعتو :آسية زوجة فرعون !
ففي حين تتغول الأنثى في قصة نوح ؛ فإنها تأتي رمزا للحب والوفاء رغم القهر والم فراق الاحبة في قصة موسى والتي كان البحر أحد شهودها ..
ويستمر الغضب والقهر إلى أن يلجأ الطلل إلي التجلي في البحر ويستغني عن الجبل محتفظا بإحدي صوره التي تناسب الموقف وهي خاصية الانفلاق التي يكسبها إياه عن طريق إسناده إلي فعل انفلق الدال علي المطاوعة ، والمستوحى من القرآن في قصة موسي (فانفلق فكان كل فلق كالطود العظيم )..
شخوص القصة : طلل وجبل
وبقدر ما يحيل الطلل إلي الفناء يحيل أيضا إلى البقاء الوجداني هكذا استحضره الشاعر العربي
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
أما الجبل فإنه يحيل الي الثبات والشموخ ، في حين يرمز أحيانا إلي حميمية اللقاء فلذلك استحضره الشنفري في لحظة قهر أراد فيها التعويض عن غياب دفء المحبة الآدمية في لحظة قهر بدفء عالم الطبيعة :
ويَرْكُـضنَ بالآصَـالِ حَوْلِي كأنّنـي
مِنَ العُصْمِ أدْفى يَنْتَحي الكِيحَ أعْقَلُ
وكل من الإثنين ينطلق من مدلول المكان وقدرته على البقاء صامدا أمام عاديات النسيان
البطل الاول هو الطلل :
وهو هذه المرة خارق يتم توظيفه في ثنائية غير معهودة حيث يحيل إلي انثي مفقودة أصلا لكنه يشترك معها الآن في حالة الضعف والانكسار حيث يأوي إلى جبل، فيتصف معها بصفة الثبات المكاني والخلود الأبدي.. لا يلجأ إلى الناقة ولا إلي الفرس ولا حتي إلي الدموع .. اي انه يشاركها الضعف وسلب الإرادة في شعور مقيت بالذنب تجاه سطوة الرجولة ضد الانوثة حتى أنه ما يلبث أن يستحيل شظايا ليس لها صدى .. إنه يهرب منها إليها في خضوع الوجودي للقدر ولجوء الرومانسي للطبيعة (الجبل ) وشعور العاشق بالضياع ..
البطل الثاني هو الجبل في تجليه الثنائي (رعد وبحر)
تنشأ أزمة جديدة تناسب الابهام في القصة القصيرة جدا حيث يغدو الجبل العاجز عن إيواء ابن النبي نوح ، متجليا في صفة البحر ذي القدرة الخارقة على النجاة كما حدث مع النبي موسى مرتين :
الأولي عندما قذفته الام في البحر ( أن ألقيه في اليم ولا تخافي
والثانية عندما انفلق كالجبل ليمر موسى وقومه من مطاردة فرعون ..
بهذا الانزياح من الجبل الذي لم يحقق النجاة للنبي موسي إلى البحر الذي نال فيه النبي موسي النجاة مرتين يكون الطلل نال منجاه حين منح الجبل صفة منتحلة تليق بالضعف، والانكسار أمام عظمة الحلم .. وفي حين يتم الاستغناء عنه ليكتسي صفة البحر الذي يحتفظ ببعض صفات الجبل ، وهي صفة منحها له القرآن الكريم مبالغة في حالة اليبوسة التي اعترتها عندما منٌ الله على نبيه موسى بالنجاة من فرعون (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وحين ينفلق الجبل البحر – المعجزة لا يأتي ذلك الانفلاق ليشكل مخرجا للازمة بقدر ما ينتج أزمة جديدة تتعدد فيها الأدوار فيتم الاستغناء عن الجبل والبحر معا لتتسع حلبة الصراع إلي بطل جديد،يفي بغرض تجدد الحياة والبقاء ألا وهو الرعد في رمزيته لمستهل الغيث والنماء . (وانفلق بين الصخور رعدا لم يسمع دويَّه إلا هو.. ) لكن نقطة التحول هنا هي القطيعة بين هذا الرعد وكل اطراف الصراع (لم يسمع دويَّه إلا هو.. ) فشظاياه خرساء ؛ وحتي الصخور لم تردد له صدي .. هذا البطل إذا متفرد اخرس لاصدى له، ناقم ،ساخط كسخط الطبيعة في طوفان نوح غيظَها .. و هكذا القصة القصيرة جدا تبتغي غضبا و تناقضا وكثافة ..لذا لا تنفرج الأزمة إلا لتبدأ أزمة جديدة ، ذات تجليات مختلفة ، في مسار تضفي عليه الطبيعة جلالها حيث يرعد الجبل ليناسب تعدد أقطاب الصراع داخل اللاوعي الذي يتفرد فيه الرعد بهزيمه.. هل في ذلك انفراج يخبئه اللاوعي ؟
ام انه الاعتراف بالانكسار والعجز عن تحقيق الانسان لأحلامه ( لايسمعه الا هو ) فلا نصيرَ ولا متعاطف بل الكل ضد البطل، ضد الجبل في تجليه في البحر اولا ، وفي الرعد ثانيا .. يأتي ذلك في تفرد رومانسي بديع يغدو فيه الجبل رغم رمزيته للعظمة والشموخ مجرد رعد لا صوت له (تطايرت شظايا الرعد خَرْساء)
وتأتي الهزيمة النكراء لكل آليات الصراع وشخوصه التي آوي إليها الطلل لينفرد البطل ( الطلل ) في حلبة الصراع الوجودي و تتٌحد فيه الأنوثة والذكورة ضمن قطب احادي التجلي، ثنائي الذات ، يكتسي طابعا تلاحميا ؛ لا تصادميا ، نسجته ذكريات ألم يكاد يكون سرمديا بموجبه تحولت حمولة اللقاء المستحيل من لقاء بين طلل يأوي إلى جبل ثابت ، إلي شظايا رعد اخرس !.. هنا يبلغ التأزم مداه قبل أن يلجأ (الطلل ) إلى تجاوز الوعي إلى اللاوعي ، في انفراج ذاتي بموجبه يحل العاشقان : الجرح والروح ، هربا من الشعور بالإكراه والقهر ضد الإنسان في كنهه الخير وهو قهر عبرت عنه قصة طوفان في عدة مستويات من بنائها لكن الاستلهام من القرآن ظل الهاجس الباعث والطاغي فيها ..
ففي حين تتحدد ثنائية البطل أكثر من خلال المونولوج الداخلي الذي يأتي على نسق حوار بين اثنين ما يلبثان أن يتحدا لا شعوريا في ذات الطلل .. (قالت أطلال جرح لأطلال روح : “لا عاصم اليوم من الغرق)
وهنا ياتي التقابل التراكمي في مساره الثنائي فكل من الجرح والروح ؛ هو الطلل نفسه وعليهما مواجهة المصير ذاته في حسم غيبي مرسوم مستلهم من الآية التي نادي بها نوح ابنه (لا عاصم اليوم من أمر الله ) لكن الصيغة الفنية النهائية لحلبة الصراع هي اقتصاره على ثنائية الطلل بحيث يقتصر علي مجرد عاشقين :
“أطلال جرح” و”أطلال روح” مبهمين بما ينسجم مع فنيات القصة القصيرة .. يفران تماما من التفرق ألي صياغة مصير آخر تفردا فيه معا ، من خلال اللاوعي، ويقرران الغرق في لحظة زمنية تناسب حال العاشق المقهور ؛ لحظة الآصال وعلي شاطئ النجاة فيغرقان دون أن يتحدد لمن هم خارج الحلبة أي نوع من الغرق ذلك ، أهو غرق أم استغراق ؟
في الحالتين تظل العبارة انتقائية لأنها قادمة من اللا وعي لديهما فالزمان انتقائي (العشي) وكذا المكان .. فالنجاة عن طريق البحر كانت ديدن النبي نوح وكذا النبي موسى …
غرق اختياري لبي حاجة البطل في بعده الثنائي : الجرح والروح في البقاء بعد عاصفة غضب استحضر لها الطلل قهر وجبروت الغيب وسطوة الطبيعة ليحيله في آخر لحظة إلى لقاء أبدي سرمدي له جمهور، كل ذلك رغم سطوة الطوفان وتعدد جبال الإكراهات :
( تصايحت أصداء صديا من رأس طائر أسود…
وكان آخر عشي في الطوفان الأحمر…)
من يفك اسر قصة طوفان عليه أن يعتلي رؤوس الجبال ويصغي لقصف الرعود ليخرج مع البطل من لحظة قهر عاتية تفوح منها روائح الغدر ووهم الخيانة وحنق الضغينة بكل ما يحتاجه هذا البناء الفني العسير ..
ومن ثم ليشهد الانزياح الخارق من حالة صراع عاصف يركن فيه البطل للجبل ثم تعتريه حالة ياس وانكسار يتملص منها بقوة الرعد علي منح الحياة والغيث ..لكنه يتجاوز مستوي هذا الرعد الاحادي الرحمة الي اتساع البحر بكل ما تعنيه قدرته علي ابتلاع الهم ومن ثم الامان الخارق..
شاطئ أمان أزلي لا يزاحم فيه البطل غيره بحضور جمهور يوظفه الطلل إسقاطا لحالة العطش ، تجسيدا لمشاعر الشوق والرغبة في الارتواء من الحبيب حتى ولو كان ذلك غرقا “لا عاصم اليوم من الغرق”…
فهذه القصة غوص في محراب الادب الوجودي في منحي نادر من توظيف الصراع مع الطبيعة .. مع الذات .. مع كل ما تبعثه الفلسفة الوجودية من أنفاس نحبسها حتى لا نرى عالمنا – مأساتنا .حتى ولو كان” ذلك آخر عشي” في حياتنا .
العنوان الأصلي: النجاح بنت محمد بن محمذن فال في قراءة للقصة القصيرة جدا (طوفان ) للأديب الشيخ بكاي
نقلا عن موقع”مورينيوز” لذي يديره الكاتب والصحفي الأديب الشيخ بكاي