حرية بلا خبز / عبد الفتاح ولد اعبيدن
قبل أسابيع بمناسبة العيد الدولي لحرية الصحافة، تباهى كثيرون بالحرية الإعلامية عندنا، دون أن يقيد بعضهم بما يحف هذه الحرية من نواقص حقيقية ملموسة. إن هذه الحرية لم يمنحها النظام دون مقدمات وضغوط.
فما حصل من صبر على السجن، وعدم استسلام لسياسة لي الذراع، كان السبب الرئيسي لتكريس مستوى أفضل من الحرية عموما، والحرية الإعلامية خصوصا. فالقائل بأن الحرية التعددية في أغلب الدول الإفريقية جاءت قبل خطاب “لابول” مجرد واهم مهرج. فلا مكسب دون ضغط أو تضحية، على وجه العموم.
وينبغي أن نتذكر ما حصل ضدي وضد حنفي وضد نعمه عمر وزميله، وضد الزميل أبو العباس لندرك حجم المعاناة، التي واجهها الكثير من الصحفيين، واللائحة أطول، ولنعلم أن الحكم العسكري عندنا، لا يعطي الحرية الإعلامية مجانا، ومايزال يقيدها بتجويع الأقلام الناقدة الممانعة المستقلة حقا.
لقد ظهرت بعض المنابر الإعلامية على حساب التميز والإستقلال، لتستفيد من النظام القائم وأشياعه، ولتتخلى في المقابل عن الكثير من رونقها.
بينما توصد الأبواب بقوة، في وجه المنافحين المستقلين المرابطين على الثغور، ليقال لهم بلسان الحال، وأحيانا بلسان المقال، هذه الحرية، ولا خبز لكم سواها، فلا خبز لمن لا يخضع ويخنع.
وهذه أكبر أزمات الحرية الإعلامية عندنا، فالكثير من اللوبيات الحاكمة سياسيا واقتصاديا، لا تريد صحافة مستقلة، بمعنى الكلمة، وتعمل على حصار الأقلام المكابرة عن الخنا، وتشترط إطعامها بالإهانة والتحكم.
ولنتذكر أن شخصا معروفا، تجاسر حتى غرم صحفيا أو دعيا من ادعياء الصحافة، بمبلغ 300 مليون أوقية، فهل هذا حكم قضائي عادل، وهل الحقد على الكتابة إلى هذا الحد جائز، من قبل احد التجار وبعض القضاة؟.
إن امتهان الكتابة والإعلام، أو ما شابه ذلك، في هذا البلد، أمر عسير مكلف، ومن أهم أسباب الحرمان، ودفع الأقلام الحرة إلى خيارات صعبة، الخنوع أو الحرمان أو التسول، وتلك لعمري كلها خيارات مرة ظالمة.
ولا تكاد توجد صحافة في العالم، في شق الموارد والتمويل والتكوين، إلا وهي أحسن حالا من تجربتنا المحاصرة المخنوقة.
إذن، لا داعي للمبالغة في الإشادة بالحرية الإعلامية، فهي موجودة جزئيا، ومن أراد استغلالها بجرأة، فله أن يصبر على فقدان خبزه وجل علاقاته، فصدور الحكام وأصحاب النفوذ تضيق عن الحق، أو مجرد الإشارة إليه، أحرى البوح به والإصرار على دربه الصعب المكلف، إنه حقا طريق ذات الشوكة.
إن الدولة لم تتجرد من ضعفها السياسي والأخلاقي، تجاه الصحافة لخوفها من كشف الحقائق، فهذه الدولة، بالمستوى القائم، لم تتجرأ على تمويل معتبر شفاف للصحافة.
والمؤسسات التجارية، ذات الشأن، لم تشأ المساهمة الحقيقية في تأسيس إعلام حر حي….
ببعض مقدراتها المالية، للصحفيين دون تمييز سلبي.
والمجتمع أيضا، مطالب بفتح صدره، لما يكتبه الإعلاميون من الحقائق، والصبر على ملامسة الواقع وعلاجه، بأسلوب فعال نافع.
إنني جد مرتاح لمنع حبس الصحفيين، جراء ما يكتبون، لأن الحبس نكد خبيث، وعقاب سيئ ضد من يكتب فحسب.
ولقد لقينا من هذا، ما سود سمعة موريتانيا وغيرها، ولكن مجرد رفع السجن عن القلم مع تجويع من يكتب بحرية، عقاب لا يقل ألما، فقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، كما يقال في المثل العربي.
إن حرية بلا خبز، خدعة وحصار وظلم شديد، وإنني أطالب من هذا المنبر موريتانيا والإمارات بالتعويض، عما جرى ضدي، من سجن بتهمة “بلاغ كاذب” غير موجود أصلا، وتحويل قضيتي وقتها إلى القانون الجنائي، مع تجاهل ما كان موجودا يومها من القانون الخاص
بالنشر. واستغلال الانتربول في غير محله، وتجريدي من الملابس، والتسليم عنوة من قبل الإمارات يوم الأحد 30 نوفمبر 2008، من دبي إلى سجن نواكشوط مباشرة بدار النعيم، وقبل ذلك السجن في الإمارات وموريتانيا. وبعد التسليم السجن خمسة أشهر وأكثر، مع التغريم بعد العفو الرئاسي. إن هذا الظلم، له أن ينظر فيه مجددا، لتنصف الصحافة من خلال إنصافي. أما ما تتحدثون عنه، من حرية إعلامية، مقيدة مشروطة، بقبول الحرمان، وذهاب الدعم والعناية -في بعض الحالات- إلى من يسكت عن الحق. ليخرج القلم من سجن الجدران إلى سجن الكرامة والضمير. فهما أمران أحلاهما مر، بل مر زعاق. فلا صبر على السجن ومصادرة الحرية، ولا صبر على حرية بلا خبز، وأدنى رغيف يصون النفس والذراري والحقوق. ورغم هذه الملاحظات المشروعة الملحة، إلا أن النفس المتاح، عبر ما هو موجود من حرية إعلامية، محفوفة بالنواقص الجلية، خير مما سبق في عهد ولد عبد العزيز من مطاردة للأقلام المخالفة. ومما يلاحظ في هذا السياق، نقص مقدرات الاحترام اللازم للصحفيين، وهي مهنة محترمة عند المجتمعات المتحضرة، بينما لا تجد عند مجتمعنا وإدارتنا ما تستحق، رغم أن لبعض الزملاء دور سلبي، يسبب بعض هذا التلاعب بحرمات هذه المهنة المقدسة.
إن هذه المهنة تستحق الحياة، ولا حياة لها من دون حماية وعناية وصبر وتقدير. وما لم نبادر جميعا للعناية بها، فلن نظفر بصحافة حرة حية مؤثرة، وبمقدار الدفع الإيجابي، ستتقدم رويدا رويدا، نحو شروقها ونجاحها المنتظر المأمول. وستبقى الصحافة مرفقا مهما، للدفاع عن حقوق الناس ومكاسبهم المهددة، سواء كانت معنوية أو مادية.
ففي ظل ما يجري من إستحواذ على أغلب منافذ المال العام، وضبابية الحالة المدنية، التي قد تولد شريحة “بدون” في موريتانيا، وغير ذلك من مواطن وأمثلة الخلل، ترتفع الحاجة الماسة، لصحافة ذات مهابة ومكانة، وإلا ضاعت كثير من الحقوق والحرمات الخاصة والعامة.