وصاية النخب السياسية.. قدرالشعب أم خياره؟ / الولي ولد سيدي هيبه
لا نجافي منطق الأشياء إذا سلمنا بالحقيقة التي تفضي إلى أنه بقدر ما تتولد عن النجاح و النصر أحيانا بعض أسباب الفشل، يكون من المعلوم بداهة – في المقابل- أنه غالبا ما يتمخض عن الفشل بعض أسباب النصر و دوافع التوازن..
حقيقتان متوازيتان إن استسيغتا، على النحو الذي يمليه منطق الأشياء عند المثقفين و ذوى الحصافة و الإدراك السليم، قد تشكلان حتما نصف طريق العبور إلى رحاب العمل المطلوب شرعا و سياسيا و عمليا في خضم معترك كل عملية بناء الوطن المحفوفة بالمخاطر، لا تعرف التوقف، و تتعاقب على ورشها الأجيال في سرمدية التواصل المحتضن بذرة البقاء تحت دثار الأمن و الاستقرار. لقد ظلت نخبنا منذ استقلال البلاد قبل ثلاثة و خمسين عاما – وعلى الرغم مما توصل إليه أفراد نخبها من تحصيل و جمع لمتنوع و عال المعارف و المهارات و من ضلوع لغاية التفقه و الاجتهاد في شتى أصناف و ضروب العلوم – تشبه إلى حد بعيد الأعشاب الضارة التي تتواجد بمحاذاة النهر؛ وراء خضرتها الآسرة و طول سيقانها الفاتنة المشرئبة أطرافها إلى عنان السماء وانتشارها التوسعي السريع، مضار تهدد النهر فيتراجع منسوبه و محيطه الطبيعي فيتضرر تنوع غلافه النباتي و تضيق رقعة ساكنته التي تستمد منه في توازن بديع حياتها و تنفث فيه بعطاء متجدد من روحها لديمومة بقائه. و ظل شعبنا بالمقابل يشبه أرض الصلصال المتشققة السطوح كالجراح المندملة و لكنها تخفي وراء خشونتها و ألوانها الرمادية المغبرة الباهتة و المنفرة، كل عوامل خصوبة الحياة و نقاء و عطاء الطبيعة. لا نخبنا تجيد الفلاحة فتقلب الأرض وترمي البذور و تسقي و ترعى الحرث و تصد عنها أسراب الطيور الانتهازية و جحافل القوارض المخربة حتى يصل مراحل النضج فتجنى الثمار اليانعة و تحصد الغلال الوفيرة و تطعم الشعب الذي يكون في الخضم استوعب الدرس و نهض فشمر عن سواعد الجد بإيمان متولد عن قناعة النضج الحاصل في نغنغة الرضاء عن الذات المتحررة من قيود الظلامية و في تجلي الحال المرضية و المفضية إلى رحاب العمل و العطاء و التشييد و البناء. و لا الشعب يدرك أنه “الأرض” التي تحمل في ذات حالها كل أسباب خصوبتها و عوامل بقائها بأن تمتلك مطلقا زمام أمرها فلا تترك أحوالها و شؤونها بأيد لا تدرك قدرها و لا تلامس كنه متطلباتها. و ليست التحولات التي شهدتها شعوب “الريادة” و “الطليعة” في الغرب و في الشرق ببعيدة عن الأذهان – رغم مرور قرون على بعضها – و قد تحولت حين لم تجد ذواتها المعذبة و المضطربة في نخبها – المستهترة و الرابضة في أعالي بروجها العاجية تشتهى الأسماك و تخشى الماء من سباحة – هي الشعوب التي تحولت إذا، إلى شعلة متقدة تعي نواقصها و تدرك مكامن قوتها، فأخذت زمام المبادرة و خلقت خطاب الواقعية في “عرض” النهوض و العمل من أجل البناء مقابل “طلب” توزيع العدالة “أوسع غير مدرك إلا بالقوة” و تؤسس بها لديمومة الوطن. و لم تلبث طويلا حتى كانت لها الغلبة فاختارت من أحشائها صناع وعيها فأوعزت إليهم مسؤولية تسيير المركبة في بحر الانتقالية إلى بر مرحلة “التجذر” في الأرض الثابتة الصلبة و الخصبة المعطاء. وضعيتان كلاهما مر تحجب قرص الشمس ليظل الظلام الدامس مخيما و البرد القارص مجمدا و مانعا عن الحراك حثيثا إلى الإصلاح. نخب تعيش أسوأ مراحل انفصامها و قد رهنت البلاد لنزوات ذاتها الطوباوية و كأنها لم تع يوما – بما حصلت و كدست من المعارف – أن الابتعاد عن القواعد الشعبية العريضة و الانفراد بمكاسب ضيقة يورث الفشل عند أي مسعى و أن للثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 وامتدت حتى 1799 سبق تنبيه الشعوب إلى محوريتها بأن خضع إزائها و بعدها المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل جذري مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية وبروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية والسلطة الملكية.. و ليس الشعب الفرنسي و كل الشعوب الأخرى التي استوعبت دروس هذه الثورة إلا نتاج التحول الذي عرفته عن تلك الوضعية التي ما زلنا نحن نعيشها في الصميم و نترجمها عمليا على أرض واقعنا المزري وعلى قياس إقطاعيتنا وأفكارنا السائدة عن تسلسل هرمنا الطبقي و غياب مفهوم الدولة عن وعينا و في تصرفنا. إذا كانت الأحزاب السياسية في ظل الديمقراطية هي الوعاء الأمثل لانصهار الجماهير في بوتقات و كتل وازنة لتحديد مسارات الدولة السياسية نحو الأفضل، فإن ذلك يتطلب حتما أن تستوعب هذه الأحزاب الجميع على أسس و قيم و مبادئ المساواة و تثمين المجهود و العطاء الصادر عن الأفراد و الجماعات بعيدا عن شخصتنها و الاستئثار بزيف الريادة. و لا يعني ذلك مطلقا رفض أن يكون في التشكيلات من يحظون بمكانة عالية و يصبحون رموزا معتبرة نظرا إلى عطائهم الثر و كاريزميتهم الإيجابية المستندة على نقاء الفكر و سمو المقاصد و التحلي بروح الترفع عن المهاترات و عن التصلب على المواقف الخاطئة. و إن لم تكن الأحزاب كذلك فإن من حق كل طبقات الشعب، التي تعاني من تجاهل حضورها و طمس أدوارها، أن تتحرر من “ربقة” كل الاعتبارات الخاطئة التي تطوقها و تشلها عن الخروج عن هذا الطوق الظالم؛ و هي الاعتبارات التي تتعدد بتعدد أمراض المجتمع المزمنة من قبلية و جهوية و طبقية و إثنية و نفعية و ربحية في سوق بيع و شراء الذمم، حتى يكون لديها رصيد من الثقة في النفس و وعي بضرورة التميز عنها حرصا على أنفسها حتى لا تظل تضفي المصداقية على أطر لا تستحق ذلك و حتى لا تظل الديمقراطية مطية خشبية يعتلى صهوتها كل وصولي و سيفا مسلطا على رقاب أفراد الشعب.
و لقد أظهر التتبع الميداني والمعرفي لموضوع النخبة بوضوح أنه لا مجال لتعميم تعريف تحليلي صالح لكل زمان ومكان… و لأنه للنخبة الاعتبار الكبير في إطار موضوعات علم الاجتماع السياسي لأهمية ما تملكه على العادة من أدوات مؤثرة في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر والتوجه العقيدي.. إلخ، بناء على ذكاء و إبداع واجتهاد و طموح و قوة أو قدرة أفرادها على التأثير على الآخرين فتقنعهم أو تغريهم أو تهددهم و تنتهي إلى توجيههم وقيادتهم والاستفادة منهم حسب أهداف معينة، فإن كل فرد طموح و مشبع بقيم الوطنية و قادر على لعب دور في وعي قضايا المواطن والمجتمع والأمة مطالب بأن يسعى للفت الانتباه إليه و كنه مقاصده و السعي إلى تشكيل حراك تنصهر فيه طاقات من مثله فينادوا بالانفصام عن كل مركبة لا تتوجه في مسارها إلى الالتحام مع محطة بناء دولة المواطنة و العدل و الرخاء.