كاتبة تصف تجربتها مع ” كوفيد”
كتبت الدهماء ريم:
نقش على الماء.
…………ا
انتظرتُ منذُ سُعال الافتتاح، استلام حصَّتِي من الفيروس الغامض، ولم يُخلفني مَوْعد التَّسليم، فأنا وإيَّاه معرفة قديمة.. تُباسطني القشعريرة، يجتاحني دِفْءٌ غير ودِّي، وَهَنٌ، الشَّهية تنسل، ابني يَسعل، الآخر يغالب العطاس ويتشكَّى، والدهم يغلق زر قميصه العلوي في وجه لفحة مُتوهَّمة … نُناوب الإحساس المتناقض بين حرارة استوائية وبرد سيبيري،.. ومع أنّ الحمى رفيقة لصيقة بالحالة البشرية، لكن نُسَخَ السنوات الأخيرة المُتلاحقة والمسكوت عنها، أصبحت خارجة عن النسق، غير مرتَّبة المزاج، وليست من أجناس الحمَّى المخزَّنة في ذاكرتي المرضية.
أشعر بجيش من العفاريت يَرعى فُجور سياحة الفيروسات في دمي، يضرب مفاصلي وفقرات ظهري، وبإحساس غير سار يحتقر أعصابي.
يُحاول مرضى البيت اقناعي كيديًّا أنِّي بخير، فعَليَّ أنْ أبقى آخر المقاومين في الميدان لأظل في خدمتهم، أنانيَّتهم العَطوف تتمنَّى لي السّلامة، فهم بحاجة لدِفءِ الأم، لوُدِّ الزَّوجة، وفي جميع الأحوال لا أتساوى وإيَّاهم أبدًا في الحق في المرض، قد يتنازلون لي بلُؤم عن بعض الحق في الشَّكوى، بين جرعتين لهم من مثبطات الحرارة،.. تلك أجرة الأمومة والحمد لله على نعمه.
في عالمنا الطِّبِّي للغاية، جَنحتُ منذ فترة بعيدة للتداوي الطبيعي ما أمكن، مُحاوِلة التخلص من إغراء سرعة الوصفات المزيلة للألم، فالألم فرصة لقياس تجلُّد العقل، لذا أُلزِمُ “مرضاي” بالغذاء بديلا عن الدواء قدر جُهد صبرهم واستجابتهم،..
في هذه الحمَّى اصطدمتُ بأنفسٍ غريبة عن أنفسها، تَعاف حتى الماء ومقاومتها غير فخورة .. الثوم، الزيت، الزنجبيل، العسل، الحوامض: أخْ،.. انش اشعير: أتف،.. انش گوفْيَه: أخوخ،.. عصائر طبيعية، حساء: نوه ماماااه.. والمفارقة أنِّي في سرِّي مثلهم تمامًا، جعلتني الحمى البغيضة لا أطيق رائحة هذه اللائحة مُجتمعة، وأستعطفُ أحشائي علَّها تتحلَّى بالسكينة في حضرتها، وتهدأ.
الأغلبية الصامتة من ضحايا الحُمَّى في هذا لبلد، فئة “ما ينكسرْ عظمو” ماليًّا، تُيمِّمُ شطْرَ مغارة گوگل تستوضح منها عِلَلَها ووصفات الإنقاذ،.. فالمستشفيات المسؤولة عن تصليح الأعطال البشرية موبوءة بالعدوى، وتتثاءب تعبًا وضجرًا من كثرة المُراجعين والمنقبين في أنوفهم عن الفيروس،.. أما العيادات فمزهوة بتعبئة الأوردة عَ الماشي بالبراستامول، وحُقَّ لها، فهي تعيش ذروة موسم الإقبال القهري عليها، ومُنشغلة بتحسين رقم أعمالها من نكبة المرض الجماعية.
اتخذتُ إجراءً صارمًا بحجز “مرضاي” في غرفهم، وحظر التجول في نقاط المرور الحساسة بالبيت، للحد من توزيع حمولة الفيروسات،.. أتناسى نفسي لصالح قلق الأم، بخَوفِه وتخوُّفه،.. الضّعف سلوك قاهر يدفع العيال للانبطاح، انسحبَ المساكينُ إلى أنفسهم، ففقدت حركاتهم عفويتها.. مثلاً، التقطتُ همسًا خافتًا تلفَّظ باسمي، فدفعتني غريزة الأمومة نحو مصدر الصوت، لأجده ابني وقد سقط فاقدا للوعي عند باب الحمَّام، استحضرتُ خبرتي في الإسعافات الأولية، فقد منحتني “الحركة الكشفية” ذلك الامتياز العظيم، ويحزُّ في قلبي موتها، فبموتها مات التَّطوع المدنيّ ليستيقظ التَّطوع الوَصيّ، لقد تعهَّدتني “الكشَّافة” وكذلك بعض جيلي من شباب هذا البلد بالتكوين والتدريب في مجالات تنمية وخدمة المجتمع في ظروف الكوارث المرضية والطبيعية، وأبلى فيها الشباب الناصري بلاءً فوق التَّميِّز.. إيييهْ ياحسرة!. فميزانية مهرجان واحد تكفي لإعادة بعثها للحياة، وبها سنمنح موريتانيا فرصة لحياة أسعد..
يكاد رأسي يَتَخلَّفُ عن جسدي كلَّما حاولتُ الرَّفع من السُّجود، وأشعر بمولّد حراري يعمل بطاقة ثابتة داخل جسمي، أشعر أحيانا بغثيانِ “لُوحَمْ” فأقول: لَبَاسْ، هذي الحِمَّه ساويَهْ، فقد يَعمَد الفيروس إلى استثارة بعض شوارد البروجسترون فيوقظ خصوبة الشباب.
غالبني نُعاس الوهن، فرأيتُ فيما يرى النائم أنِّي أطرق باب وزير الصحة، أستفسرهُ كمواطنة صالحة عن ماهية الفيروس اللقيط المتسلِّط، هل اثبتَتِ الوزارة بُنوَّته الشّرعية للضنك، أم للخنازير أم لكوفيد؟،.. لكن وأنا أتجاوز عتبة بابه في سكرة الحُلم، لَطمتني موجة بشرية مندفعة قَذَفها مكتبه، وبعد الصَّدمة، اعتدلتُ وسألته: ومن تكون الجُموع السَّادرة في غَيِّها سيدي؟ قال: عفوا، هذه شعبيتي، مُسرعة لتلتحق بمهرجان للتوعية حول خطورة التَّحشد والاختلاط!.. ثم استيقظتُ.. سُحقًا، استيقظتُ من غفوة عابرة، قبل أن أسأله عن طبيعة الحُمَّى المُتجبِّرة، قلتُ لنفسي: سأعاودُ النوم ثانية لعلي ألقاه، لكني أحجمتُ.. فماله ولهذه الأسئلة البالية، التي لا تتغير منذ وقت!
صُحبة الفيروس ليست صُحبة ماجدٍ، وإن كان المشاغب اجتماعيًّا ويرفض الاحتكار والطبقية، وزيَّاراته يريدها مُدوِّية،.. لكن يومًا مَا سيُدرك أنَّ التكرار يُمَل.. وأن عليه أن يَرحل.
……..ا
سلامات للجميع.