المقاومة الوطنية بين رد الاعتبار و التيار التشكيكي / الولي ولد سيدي هيبه
فيما يزداد وعي شريحة عريضة من الشعب بوجود مقاومة وطنية للاحتلال الفرنسي أبلت في ساحات المقارعة بالسلاح و صمدت بقوة الدين و عمق الثقافة في وجه المسخ الحضاري المصاحب؛ وعي يتمدد تدريجيا – و إن ببطء – في دائرة الاهتمام بإعادة كتابة تاريخ البلد الملبد بغيوم الشكوك و ضعف الدلائل الوثائقية و العلامات الأثرية، تجد شريحة أخرى نفسها مرغمة على التحفظ، من منطلق وعيها – في دائرة الدولة المشكلة على أيدي ممثلي و أعوان المستعمر نهجا و عمليا –
بأن المقاومة و إن وجدت لم تسم إلى مراتب النضج الوطني المرهف كغيرها من المقاومات التي تأصلت في ذاكرة و تاريخ بلدانها و شعوبها، و أنها لم تحمل يوما مفرداتها الحميمة حتى تجبر على احترامها و اعتبار كل رمزيتها في مقدم سياق تاريخ البلد و الأمة. وجهتان لقراءة موحدة – بالرغم عنهما- في تاريخ حقبة تضاربت فيها مفاهيم كيان الدولة و انقسمت إلى: – مؤيد بأن مفاهيم السيادة و أسس حمايتها، من ضبط للحدود و توزيع للعدالة في الوارد و الصادر من مقومات الحياة و الفكر، و سياسة الكيان الموحد، كانت قائمة و إن تحت مسميات “الإمارة” بأوسع المعاني و “المحصر” و “الحلة” و “ازمان” بمعان أضيق لا تقلل من نفوذ الأسياد عليها، و تعدد أوجه هذه الأطر الناظمة على مساحة ما عرفه المستعمر انطلاقا من واقع الأمر و دقة الخصوصية فيما بعد بـ”تراب البيظان” دون المغرب الأقصى و كذا أرض السودان و إن ضمها إلى هذا الحيز الذي دعاه فيما بعد بـ”السودان الفرنسي” تمييزا لأرض نفوذه عن سودان النيل الذي كان تحت نفوذ إنكلترا، – و مؤيد بأن الأرض كانت مستوطن “قانون الغاب” حيث يأكل القوي الضعيف و إن انتظم لذلك الأمر ووجد تبريرات “واهية” في ضبطه داخل أطر و قوالب مصطنعة ظل أبرزها و أقواها على الإطلاق “الطبقية” التي قسمت المجتمع إلى فئات فرض على كل منها القبول بدور محدد المعالم و الأهداف و المهام و الاستظلال بمكانة ضمانا أوحد للبقاء. و هي الوضعية التي ظل يطلق عليها اصطلاحا “حال أرض السيبه” إلى أن حل المستعمر الفرنسي ليوحد كل كياناتها و يطلق عليها مجتمعة اسم “موريتانيا” و يعمد بعد ذلك إلى صهر كل مكوناتها و طبقاتها في بوتقة واحدة تحمل كل سمات الدولة الحديثة. و فيما كان الطرف الأول يستنطق التاريخ لتوضيب أوراق حقبة الاستعمار منذ دخوله إلى جلائه متوقفا عند أوجه الصدام عسكريا بالمتاح من السلاح و ثقافيا بالرفض و الصد من خلال الفتاوى الدينية و إملاءات الموروث التاريخي و الأدبي، كانت العقبات تعترض من حين لآخر ذلك المجهود و تقف أحيانا حائلا أمام إثبات بعض الوقائع الهامة و مانعا أمام الرصد المتقن لبعض المحطات بما يكرس قيمتها التاريخية الجليلة؛ عقبات كأداء ألقى بعضها بظلاله على التدوين الرصين الممنهج و الموثق و ترك ثغرات تدخل منها من حين لآخر آفات التشكيك الوافدة من جهات تعددت بتعدد القراءات التي اعتمدت و أوجهها و نوازعها الخلفية و مبرراتها و التي منها و ليس دونها: – تيار يحسبه بعض مؤرخي المقاومة المتحمسين على المنحدرين من أعوان الاستعمار و عملائه من أهل البلد، – و تيار يضم بعض المثمنين لدخول الاستعمار و المستبشرين به على اعتبار أنه من وجهة نظرهم قد نقل البلد من حقبة “التشرذم” في رحاب “بلاد السيبه” إلى حيز دولة النظام و العدل و المساواة، – و تيار رأى في تشبعه بثقافة المستعمر و الأخذ بلغته التي ساعدت و مكنت، على علة الاستعمار و رفض الشعوب لنيره، على التفتح و إدراك آفاق أرحب مما كان متاحا، و إلى تحرر واقعي، بعيدا عن دائرة الخوف الذي كان سمة عصر ما قبل دخوله، من “ربقة” تيارات فكرية جامدة و أحكام تمييزية تعسفية ولى عهدها و لم يعد من المجدي أو من المقبول حتى تبنيها في عصر له خصوصياته و ميزاته و مزاياه المكرسة للحرية و المساواة و الضامنة للحماية و الأمن تحت مظلة القانون و قوته. و ليس التعميم بشأن هذا التيار الأخير بالصائب إذ اللغة لا يمكن أن تحمل مسؤولية النكوص بأي فكر أو التنقيص بأي تاريخ أو حضارة أو معتقد أو الانتماء لغير الوطن و أهله و ثقافته، علما بأنها لا تعدو كونها وعاء ينضح بما تجود به التيارات الفكرية و الدينية و غيرها، و هي فوق ذلك وسيلة و سلاح لمن يمتلك ناصيتها و يطوعها لمراميه و خصوصياته. و قديما تعلم العرب اليونانية فترجموا و نقلوا نفائس علوم أهلها من منطق و فلسفة و هندسة ثم طوروا فأبدعوا. و ترجم الأوروبيون في حالك أزمانهم عن العرب فخرجوا من ظلمات الجهل إلى أضواء النور بما اقتنوا بواسطة لغة العرب و ما أودعت بطون الكتب من قيم العلوم و جزيلها. و لأن المستعمر الفرنسي دون بلغته و بحرفية عالية و دهاء منقطع النظير تاريخ حقبة الاحتلال فأبرز الاستعمار وجها حضاريا جعل الشعوب تخرج من دائرة التخلف، و نعت المقاومة بالعائق أمام مسيرة التحضر و بناء الدولة العصرية، فلا بد أن تتم مقارعة وثائقه بوثائق معدة بذات لغته عن المقاومة و سموها و نبل مقاصدها و خبائث الاستعمار و دسائسه حتى يجد المهتمون بتاريخ حقبة الاستعمار و إرادة التحرر مادة تاريخية دسمة لتصحيح المفاهيم كلها و جعل هذا التاريخ منطقة وسطى يتلاقى عند منابعه الباحثون و المؤرخون بعيدا عن تجاذبات النظرة الضيقة المنتمية لغير حيز البحث المجرد و الذي لا مهمة له سوى وضع الأمور في نصابها و حيزها الزمني و المكاني الصحيحين. و بين هذا و ذاك تجد المقاومة نفسها “كاملة” لا ينتقص من قدرها و لا من شأنها ما هو أصلا لفائدتها و هي التي لا مناص من الاعتراف بها واقعا سطرته أنامل الفقهاء الأجلاء و قبضات المنظرين الأفذاذ للجهاد ضد المستعمر المسيحي على أرض هذا الشعب المتنوع الأعراق و الموحد المعتقد، و بنادق و سيوف مجاهديه الأشاوس الذين ابتدعوا في مقارعته أساليب مبتكرة باعتراف بعض قادته و منظريه و تركوا للتاريخ وقائع و ملاحم لا بد من الاعتناء بها و تدوينها و استخراج و إبراز رمزيتها لفائدة الأجيال الحاضرة و القادمة.
و لا يمنع ذلك أبدا، بل و يتطلب في خضم دينامكية نفض الغبار عن حقبة الاستعمار بعيون أصحاب البلد أحفاد المقاومين، كل عمل في اتجاه هذا المسعى تدقيقا و تمحيصا و استردادا للحظات هذه المقاومة التاريخية و حتى يتبين في ذلك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الاسترجاع المنقح من شوائب الغلو و أدران الإنكار لتاريخ حقبة هي، ملك هذا الشعب الذي و إن اختلفت أعراقه ظل في بعده الثقافي حمال السمات المركبة التي تميزه اجتماعيا وروحيا وماديا وفكريا وعاطفيا و فنيا و في آدابه و أساليب حياته وحقوق البشر الأساسية لديه وموازين قيمه وتقاليده ومعتقده، و هي في نهاية المطاف عتاده و زاده في مواجهة ضغوط الحاضر و عوائق و متطلبات استشراف المستقبل المنشود