العجوز والأرض/نجيب محفوظ
الزمان أنفو- لفت نظري منظر جديد أثناء مسيرتى اليومية على شاطئ النيل بشارع الجبلاية الساعة السابعة صباحا، أوائل الربيع.. الطريق يكاد يخلو تماما من أي عابر، رأيت على سفح المنحدر نحو النهر رجلا وامرأة.
الرجل عجوز يقارب الثمانين، طويل القامة، أبيض الشعر خفيفه، عتيق القسمات، يرتدى بدلة مهندلة من التيل السجابى، والمرأة فوق الستين، أمحت من صفحة وجهها أمارات الأنوثة وحل الجفاف والخشونة، وعلى الأرض بينهما انطرحت خيمة مطوية وتناثرت حلل نحاسية وآنية شاى وموقد غاز، فخطر لي أنهما جاءا يمضيان يوما على شاطئ النيل تسلية عن الوحدة والكبر، فأشفقت على صفوهما من حصا المنحدر والقاذورات المتراكمة فوق أديمه.
وفى اليوم التالى أدهشنى أن أرى الاثنين بنفس موضع الأمس، وضاعف من دهشتى أن أراهما منهمكين في رفع الحصى وكنس القاذورات على مدى مسافة غير قصيرة من الشاطئ.. ترى ما شأنهما؟ وهل يبغيان إقامة طويلة؟، وتمهلت في السير ممعنا النظر.
انتبها إلىَ فتطلعا نحوى بأعين متوجسة مرتابة، فلم أر بُدا من الإسراع في الخطو دفعا للحرج.. هل داخلهما شك في نيتى؟ هل حسا أننى أراقبهما من موقع مسئوليتي عن الشاطئ؟ هل شعرت نحوهما بالعطف والرثاء وتمنيت على الله ألا يخيب لهما رجاء.
في صباح اليوم الثالث رأيت الأرض خططت فأصبحت أحواضا متتابعة على هيئة مستطيلات، على حين ركب أسفل المنحدر شادوف لرفع المياه، وغير بعيد جلس الزوجان يحتسيان الشاى.. ولما رأيانى مقبلا رفعا رأسهما نحوى في قلق فاق قلق الأمس.
مررت مسرعا مشفقا متحاشيا التقاء الأعين.. أنه الخوف عليه اللعنة، يطاردهما في مهجرهما الجديد ولا شك.. وثمة سبب يمكن تخمينه رغم جهلى بتلك الأمور.. أنهما يسيئان الظن بمسيرتى الصباحية ويتوهمان أنها تدور من أجل مراقبتهما.. كيف أعفيهما من جرعة النكد اليومية التي أصبتهما بها؟ لا غناء لى عن الطريق ولكن بوسعى أن اتجاهلهما أو اشعرهما بذلك.
يوما بعد يوم تغير وجه الأرض فأذن بمولد حياة جديدة.. ويوما بعد يوم ذرت القرون الخضراء كالأغاريد الخفيفة مبشرة بالبهجة المشرقة.. تمنيت لو كان في قدرتهما أن ينشرا العمران في الشاطئ كله ويريحا البصر من سوء مطلعه، ولم يكدر صفوى الا إصرارهما على التوجس والحذر، حتى قررت يوما أن أحيي وأبتسم. وما كدت أفعل حتى لوح لي العجوز بيده، وصعد نحوي حتى وقف أمامي، ثم سألني:
- حضرتك موظف؟
فأجبت بالإيجاب.. فعاد يسأل -
في المحافظة؟
فقلت بوضوح، كلا لا علاقة لى بالمحافظة ولا الداخلية ولا ما شاكل ذلك.
فصمت حائرا فقلت ضاحكا: لماذا تنظر إلى في ارتياب كأنى عدو؟
فقال بنبرة اعترافية: أنا رجل عجوز على المعاش، كنت موظفا بالزراعة، وأخلت الشرطة بيتنا الآيل للسقوط، فكرت في سكنى الشاطئ بدلا من المقابر!
- فكرة جميلة.
-المعاش قليل، قلت أزرع لآكل وأتاجر، بعنا العفش القديم واشترينا ما يلزمنا كالخيمة والشادوف.
-فقلت خيرا…
فتردد قليلا ثم قال: أعتقد أن هذا لا يسيء إلى أحد؟
– حسبك أنك جملت رقعة من الشاطئ القذر
– ولكنى أخاف التعليمات والاجراءات
فقلت بصدق: الحق أنه لا دراية لى بذلك.
وتمنيت له الخير ثم صافحته وذهبت.
ولما هلَّ الصيف قمت بإجازتى السنوية، وعدت من المصيف بعد شهر ونصف الشهر لأواصل حياتي المألوفة، واستأنفت مسيرتى الصباحية، ولما اقتربت من شارع الجبلاية تذكرت – ربما لأول مرة – الرجل والمرأة.
أقبلت نحو موضعهما تواقا للاستطلاع، ولكنى لم أجد أثرًا لهما ولا للحقل، فرجع المنحدر إلى حاله القديمة من الخراب والقذارة، ولا تفسير لذلك إلا أن مخاوف العجوز وقعت وتحققت، فأحس قلبى بالأسى وأنا أتساءل عن مصير العجوزين، ورأيت جندى المرور على مبعدة يسير من المكان، فقصدته وتبادلنا التحية كعادتنا منذ سنوات، وقلت له:
- كان هناك رجل وامرأة يزرعان الأرض.
فضحك الرجل قائلا: “لم يدم الحال وسبحان من له الدوام، جاء شرطى ذات يوم للتحقيق وقاد الرجل إلى القسم لعمل محضر مخالفة.
صمتا مغتما متفكرا فقال الجندى: “أرض الحكومة ليست لكل من هب ودب، وجاء عمال فاقتلعوا الزرع قبل أن ينضج، ولا علم لى بما حصل للرجل بعد ذلك.
انقبض صدرى حزنا على آدم وحواء وحقلهما، وصحبتني ذكراهما زمنا حتى تلاشت في خضم الحياة اليومية.
مضى اليوم على ذاك التاريخ أكثر من 20 عاما، أذكره أحيانًا عند مروري بالموضع إياه، أذكر الرجل والمرأة والحقل الأخضر الذي عصفت به التعليمات المقدسة.