مصر والامتحان العسير
لقد أظهرت مصر من خلال انقلاب ” تمرد ” و السيسي على الشعب المصري حماقة هائلة ، فما معنى إلغاء نتائج صناديق الانتخابات البرلمانية بشفافية ونجاح محمد مرسي في الرئاسيات ، ونتيجة الاستفتاء على الدستور؟ معنى ذلك باختصار ، أنه لا احترام إطلاقا للصندوق الانتخابي في الوطن العربي ، والغرب في مجمله يشجع ذلك بوضوح، تحت ضغط إسرائيل، ويكره الإسلاميين، رغم ما أبدوه من المرونة والتعقل .
لقد اجتمعت قوى علمانية كثيرة في مصر لإجهاض صعود الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع ، وبدافع الحقد وكره المشروع الإسلامي ، وبدعم قوى من قيادات الجيش المصري .
لقد كفر الجميع بالديمقراطية الوليدة الهشة ، وعزلوا مرسي وسجنوا قيادات الإخوان وأغلقوا قنوات إسلامية ، و مقرات الإخوان وحزب الوحدة والعدالة ، وضايقوا قناة ” الجزيرة “.
كل هذا في وقت وجيز ، متوجا بمجزرة مخزية ضد مصلي الفجر العزل .
لن يثني ما حدث الإسلاميين ، وخصوصا الإخوان وباقي القوى الإسلامية المعتدلة عن مزاولة العمل السياسي السلمي ، ومهما طالت الأزمة أسابيع أو أشهر ، فإن الجيش وأشياعه من الانقلابيين العلمانيين مضطر، للبحث عن المخارج مع الإسلاميين .
ومن المرجح أن يعود الإسلاميون إلى الحكم- بتحالف أوسع- في ظل انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة ، مما قد يصعب من جديد التآمر على الكسب الانتخابي، المعزز لنفوذ أصحاب الشرعية .
إن الوضع الأمني والسياسي لن يهدأ من دون تصالح مع الإسلاميين ، لقوتهم الشعبية ومراسهم السياسي الطويل مع الأنظمة ومؤامرتها وسجونها وكيدها وهو أمر سيفرض على الطرف الانقلابي اللجوء سريعا إلى مائدة التفاوض والبحث عن مخارج للازمة الخانقة الراهنة المتفاقمة.
أما في حالة إصرار الجيش وأنصاره على إقصاء الإسلاميين والتنكيل بهم ، إرضاء لروح الحقد والكراهية لأشخاصهم ومشروعهم فذلك مؤشر لضياع مصر والوطن العربي من ورائها في أتون التناحر الأيدلوجي، والبادئ أظلم . وقد لا تخرج الأمة بسهولة من هذا المأزق الخطير المنذر، لا قدر الله
لقد أظهر تحامل كثير من الليبراليين والعلمانيين على الإسلاميين ، أشخاصا ومشروعا وإعلاما ، على مدى ذبول وتدني الوعي الديمقراطي لدى هؤلاء .
وإن لم يتمكن الإسلاميون – أيام مرسي – من عقد شراكة أوسع ، إلا أن حرية التعبير والممارسة كانت في وضع جيد ،مكن هؤلاء من الظهور ، الذي أغرى الجيش بالانقلاب على الشرعية .
إن إخراج رئيس منتخب من قصره إلى السجن ، دون مبرر قانوني مفحم ،أمر معيب في تاريخ الديمقراطية المصرية ، والعرب عموما .
ولقد كان ترحيب السعودية والإمارات بالانقلاب ، تعبيرا عن الرفض الشديد للمشروع الإسلامي ، الذي يقوده الإخوان المسلمون وحلفائهم ، الذين كسبوا اللعبة بسلم وجدارة .
إن العرب حسب مؤشرات الحدث المصري الراهن ، وخصوصا المصريين ، أبعد ما يكونون عن الاستعداد النفسي والأخلاقي ، لتجسيد التعايش السلمي ، بين مختلف الآراء ، تحت مظلة ديمقراطية شاملة .
فما جرى من قتل وتجاهل وإقصاء للإخوان ، وتآمر انقلابي على مكاسبهم الانتخابية الجلية ، يؤكد صعوبة نجاح الديمقراطية في ديارنا العربية .
إن عدم التقيد بالقوانين في وطننا العربي ، وسهولة تجاوز كل المواثيق ، يهدد بنسف الاستقرار الهش ، الذي نعيشه في بعض دولنا .
وإن تصدر مصر لهذا المشهد ، يهدد بسهولة تصديره وتعميقه في كل أرجاء الوطن العربي خصوصا، والعالم الإسلامي عموما.
فعلا مصر والعالم العربي والإسلامي ، أمام امتحان عسير مفصلي .
فإما أن تنجح ، فتعبر بالربيع العربي المهدد إلى الأمام ، ويأخذ الجميع دروسا تاريخية ، مما وقع في مصر ، وإما أن نرتكس إلى مرحلة جديدة – لا قدر الله – من الأحادية والتنكيل بحملة المشروع الإسلامي ، المظلومين المستهدفين باستمرار .
ولقد سنحت مؤامرة السيسي على مرسي والشرعية الدستورية، بكشف ضعف الموقف الغربي تجاه المشروع الديمقراطي في الوطن العربي . فالغرب – في المجمل الأعم – لايريد ديمقراطية عندنا بواجهة إسلامية ، وما سوى ذلك ، حسب تجربتهم ومعرفتهم ، لا يشكل إطلاقا تهديدا لمصالحهم ، ولا لحليفهم الصهيوني .
إنه من العبث أن يقبل الجيش أو الساسة ، الاحتكام على عدد النازلين إلى الشوارع ، ضاربين عرض الحائط ، بأصوات المقترعين في مختلف الانتخابات ، وربما كان ذلك مجر د حجة واهية للإقدام على الانقلاب الفج الأحمق ، الذي دبره السيسي و”تمرد” وغيرهم من المصطادين في المياه العكرة .
ومن المرجح أن يؤثر الانقلاب المصري على الأوضاع في مجملها في ساحتنا العربية ، سواء في جانبها السياسي أو الأمني أو الاقتصادي ، لأنه يشكل تراجعا كبيرا عن الديمقراطية وحالة الاستقرار النسبي، مما يفتح الأبواب على المجهول ومخاطر شتى ، قد تكون لها مضاعفات مزمنة ، إن لم يسارع العقلاء والرشداء إلى تجاوز هذه العقبة الكبيرة، الماثلة أمام قاطرة الربيع العربي ، الذي دفع أحوالنا البائسة إلى أمل منعطف حضاري حيوي واعد .
وإذا لم يتمكن الساسة من التوافق ، فإن ذلك سيفتح الباب تدريجيا ، أمام حملة البنادق ، لأن التغيير لابد أن يفرض نفسه ،نحو أفق جديد ، إما بالسلم أو الحرب ، وقد لا تحمد – قطعا – عاقبة العنف ، بدل التحاكم الحضاري ، إلى أساليب التناوب والتداول السلمي على السلطة .
ولعله جدير بالإسلاميين ، أخذ الدرس مما حدث في مصر .
فلو أتاح لك صندوق الاقتراع فرصة الحكم بفريق سياسي واحد ، فقد لا يخدم ذلك الاستقرار، وقد يقلل كما حصل في مصر من فرصة ثبات سفينة المجتمع .
إن العالم أجمع يتابع المشهد المصري المثير ، هل تنتصر الديمقراطية والشرعية الدستورية على الانقلاب الأحمق ، أم تنكسر الشرعية أمام قوة السلاح والقمع والإقصاء ؟.
وهل يكتب الله للأعراب أن يصبحوا يوما مسالمون مسلمون ، ولو مع نسبة محدودة ، من الديمقراطية ؟ .
كل الاحتمالات واردة ، ومما هو راجح – عندي – حسب معرفتي بالمدرسة الإخوانية ، أنهم لن ينجروا بسهولة إلى العنف ، ولن يتراجعوا عن مطالبهم المشروعة ، ولامناص من التفاوض والبحث ، من قبل الجميع ، عن مخارج سلمية جامعة ، تمنح مصر – إن شاء الله – تجاوز هذا الامتحان العسير والفتنة المطلة المخيفة ، لمن كان له قلب أو إدراك .
وفي انتظار انجلاء الغبار عن المسرح ، يبقى الحدث المصري فرصة حقيقة لكل المهتمين السياسيين ، لتفحص جوانبه للاعتبار .
فالإسلاميون بحاجة ماسة للانفتاح والتشارك مع أطراف مغايرة ، ولو في حالة التفوق الانتخابي .
والنخب العلمانية في المقابل ، خصوصا في مصر ، كشفت عن قدر كبير من الإقصاء وكره المشروع الإسلامي السلمي ، والجيوش مازالت مستعدة للتآمر ضد إرادة شعوبها ، ولو كانت النتائج الانتخابية بينة ، لا لبس فيها .
والغرب معارض لوصول الإسلاميين لدفة الحكم ، والصهيونية العالمية ساهرة على منع نفوذ حملة الراية الإسلامية الصريحة الجادة ، ولكن الله غالب على أمره ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
نصر الله الإسلام وأبقى رايته فوق كل الرايات ، ولتحيى جماعة الإخوان المسلمين وكل الحركات الإسلامية الداعية لتمكين الرسالة الخاتمة .
وكل رمضان والمسلمون بخير .
أعاننا الله وإياكم على صيامه وقيامه ، وأبعد الله بلادنا وبلاد المسلمين عن سائر الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة ” الأقصى” عبد الفتاح ولد اعبيدن