حبيب الله ولد أحمد في مقال ينضح حزنا ووفاء يؤكد أن عبد الباري لم يستقل
تربطني علاقة حميمة بالأستاذ عبد الباري عطوان…علاقة من ذلك النوع الذي ينسج عبر “الأقمار الصناعية” وإن بعدت المسافات، وعز اللقاء..!!
قصتي مع هذا الرجل الفلسطيني هي – ربما – قصته مع عامة الناس في الوطن العربي المغلوب على أمره.. كنت أتابعه على مختلف الفضائيات، وأتتبع أحاديثه المعجونة بالغضب والحزن والمرارة، وبملامح فلسطينية صارمة يخيل لك أن صاحبها مضرب عن “الإبتسام” في عالم يراه يموج بحمرة الدماء، وعلقمية الظلم، ومرارة القهر.
كنا نتهجى في حديثه الحنون الأريحي الصادق شجاعة الصحفي العربي، وخوفه على وطنه العربي الكبير، وإيمانه بعدالة قضية وطنه الصغير فلسطين..
عند انطلاق يومية “الفجر” التي كان لي شرف رئاسة تحريرها في مرحلة ما بعد الانطلاقة قررنا إجراء مقابلة مع عبد الباري، تيامنا بمواقفه الوطنية والقومية وصدقه ومهنيته، خاصة وأن عدد جريدتنا الأول صدر يوم 23 يوليو، وهو يوم بطعم استثنائي شمسه أكثر دفئا وألقا وخلودا، لما يرمز إليه من قيم الكفاح العربي، التي مثلها الرمز الخالد جمال عبد الناصر، وجيله الناصري العظيم..
أرسلنا للأستاذ عبد الباري الأسئلة عبر “الإيميل” بعد موافقته بأريحية عربية لافتة، ولم ننتظر طويلا، فقد جاءتنا الردود عفوية قوية، تحمل هموم وتطلعات المواطن العربي ونظرة جريئة للواقع العربي وقراءة في آفاقه المستقبلية.
لم يكن الرجل يزايد، ولا يتراجع أبدا عن نهجه وخطه القومي (“القومجي” برواية أخرى) الناصع بلون الحليب والثلج وبياض السريرة..
بعض الإعلاميين من جيله ومدرسته أصبحوا أثرياء في لمح البصر، وحصلوا مقابل مواقفهم وضمائرهم على إقطاعيات ومؤسسات لا تغيب عنها الشمس في عواصم الغرب والشرق..!!
وحده عبد الباري بوجهه الغاضب الحزين ظل رجلا عربيا فلسطينيا صامدا يجوع ولا يأكل قلمه..!!
مرة كان في حوار فضائي مع أحد المرتزقة العرب (وما أكثرهم) بشأن العراق، وكان عطوان ينتقد الحرب على العراق ويطالب بحماية العراقيين، ويرى في موقف الشهيد صدام حسين – رغم نقاط خلافية – موقف رجل عربي أصيل يدافع عن بلده وشعبه وأمته..
قال له المرتزق: “أنت تدافع عن صدام لأنه يمول جريدتك وتأخذ منه المال”
لم يتضايق عبد الباري (ف”كرشه” ليس بها عظام) بل أجاب بهدوء: “تأكد وليتأكد الجميع أن “القدس العربي” لا تأخذ أموالا من أي كان، لأنها ليست شقة مفروشة ولا غرفا للتأجير، هي صوت للعرب كل العرب، ورسالتها تتناقض مع الحصول على تمويلات من أي كان، وسواء بقي صدام حسين أم ذهب ف”القدس” ستبقى كما كانت، فهي لا ترتبط بشخص ولا بنظام”..
كان ما كان من إعدام الشهيد صدام حسين، وتقويض أركان حكمه، وتدمير العراق، ونهب ثرواته، وتقسيمه طائفيا، وفعلا وجد عبد الباري فرصة سانحة ليرد على المرتزق سنوات بعد حوارهما قائلا: “اليوم ذهب الشهيد صدام حسين وبقيت صحيفة القدس وستبقى وفية لرسالتها ومبادئها”
كان غضب عبد الباري على الفضائيات حميميا أليفا، يبعث فينا كمستضعفين عرب شعورا خفيا بالكرامة، فهو يغضب لنا…لأرضنا المغتصبة في فلسطين…لعراقنا المذبوح..لأوطاننا المستباحة.
مرة رأيناه على قناة أجنبية يتحدث إنجليزية (أنيقة) فسألني أحدهم: “ماذا يقول هذا الرجل..؟”
فقلت له – وأنا الجاهل بالإنجليزية جهلا مركبا درجة الأمية –” إنه يتحدث عن القمة العربية وعن هشاشة الجامعة العربية وضعف الزعماء العرب وحجم المؤامرة التي تحاك على هذه الأمة أوطانا وشعوبا ومصالح”
قال لي “كيف عرفت؟”
قلت له: “واضح جدا من نبرة صوته وملامح وجهه وحركات يديه وعصبيته الحنون أنه يتحدث عن شيء من هذا القبيل وبما أن هناك قمة عربية تنعقد الآن فلابد أنه يتحدث عنها فأنا أصبحت أفهمه ولو بلغة الإشارة”
الغريب أنني رأيت الرجل بعد ساعات، و بنفس النبرة و الملامح والحركات والتشنج الحميد، يتحدث على “الجزيرة” عن القمة العربية التي كان يبدع في توقع نتائجها الهزيلة والمخيبة للآمال..!!
عبد الباري حمل من فلسطين الزيتون ومفتاح المنزل المغتصب ومآذن القدس وأجراسها…حمل يافا وحيفا و طولكرم والناصرة، حمل الأرض والذاكرة فطاف العالم كله مبشرا بالحرية والكرامة والوحدة…في قلبه أيضا مصر وعراق ولبنان وسوريا وموريتانيا..كان صوت أمة، وحداء شعب وخارطة وطن..
لم يمنعه خلافه الفكري مع الشهيد أسامة بن لادن من أن يصفه وفى كل مناسبة ب”الشيخ الشهيد” نكاية بأعدائه ، فأسامة – مهما اختلفنا معه – رجل عربي لا يرضى الذل، ولا يقبل الهوان، قدره – كما أسلافه – أن ينتصر معانقا راية النصر، أو يموت مقبلا غير مدبر، وبيده حفنة من ترابه، وعلى جسده سطور دماء ناطقة بالعزة والكرامة العربية الأصيلة..!!
حاصروه ومنعوه وضايقوه وصادروه، لكنه ظل كشجرة الزيتون منتصبا شامخ الرأس، يوزع الظلال والغلال والحب والأمل والسلام، يعانق الأرض جذورا، ويطاول السماء خضرة وكبرياء.
عبد الباري شهد معنا المشاهد كلها…رأينا دموعه حسرة على غزة ورام الله، وحزنا على العراق الذبيح..وخلف دموعه قرأنا أملا طافحا دافقا بأن تعود خيول العرب، وقوافل العرب، وأواصر العرب، وأوطان العرب، وأيام العرب.
اليوم قيل لنا إنه استقال من منصبه في رئاسة تحرير القدس العربي..!!
قلنا لا يمكن لعبد الباري أن يستقيل لا من القدس ولا من العروبة ولا من الكفاح قلما وفكرة فكل حرف كتبه “كان سيفا عربيا يشع منه الضياء”..و(ليس بوسعها أن لا تفوح مزارع الدراق)
لا يمكن لهذا العملاق الغاضب أن يستقيل.. وهل تستقيل زيتونة من حقلها..؟!!
ولمن يسلم الفارس صهوة جواده الذي طالما خاض به ساحات الوغى..؟!!
ومن سيأخذ سيفه الصقيل بحقه..؟!!
هل تستقيل الكوفية..؟!!
وهل يمكن لمآذن القدس أن تهجر القدس..؟!!
وهل لأجراس كنائس القدس أن تغادر أزقة القدس..؟!!
هل يملك “الحبر” تغييرا لمجراه..؟!!
لا..لم يستقل..هو باق في أغصان الزيتون..هو باق في فوهة البندقية، هو باق في تاريخ من العطاء والصدق والصبر والتحمل…هو باق في قلوب ملايين العرب الذين يرون في ملامحه دفئا يفتقدونه، وصدقا يحنون إليه..!!
هو باق ما بقي الوفاء العربي، والحنين العربي للأزمنة الجميلة..باق بقاء الأمل بأن يعود الرجال العرب، بقامة عبد الناصر، وبالوجه الصبوح المتألق حد المشنقة لصدام حسين..بكوفية أبى عمار العظيم، بعمر المختار وشجاعته التي أذهلت العالم وهو يسير مرتفعا فوق المشانق دفاعا عن أرض وتشبثا بكرامة..!!
سيبقى عبد الباري فنحن أيضا نريد معه – ومع الراحل الشهيد ياسر عرفات – أن ننتشي معا برؤية زهرة من زهور فلسطين وشبل من أشبالها وهما يرفعان العلم الوطني الفلسطيني فوق قباب مساجد القدس وكنائس القدس عاصمة الدولة الفلسطينية الموحدة، فذلك هو الحلم الذي في سبيله عمدت أرض فلسطين كل فلسطين بالدماء الطاهرة..
سيبقى لأننا معه نريد وطنا عربيا يخرج من عباءات ممالك التمائم والودع، ومشيخات الذل، ومومياءات الأفكار الصفراء، قويا موحدا كامل الأوصاف..
عبد الباري لم تستقل فعد…عد..ف”الحبر بعدك مستقيل” و”الصحافة مستقيلة”..!!