كيف وصل الدولار للقمة وكيف سيهبط منها؟
بقلم ذ.محمد ولد الراظي:
الزمان أنفو –
في عالم الطبيعة هناك أحداث عنيفة كالزلازل والبراكين والأعاصير تجمعها صفة الكوارث تفاجئ ضحاياها فلا تترك لهم فرصة نجاة فتأتي علي الأرواح والمتاع والثروة والعمران في لحظة وينقضي الأمر في ثوان وينتهي كل شيئ حتي الموعد القادم ولا يملك الإنسان من سبيل لمواجهتها إلا بالابتعاد عن مظان حدوثها.
وهناك أحداث طبيعية هادئة تحبو في مسارها ولا يشعر بها الكثيرون ولكنها موجودة وتنتج تحولات بيئية كبيرة في أفق جيل أو أجيال وتكون آثارها أكبر بكثير من هزة هنا أو فورة هناك أو رياح عاتية وأمواج هادرة لا يكاد الواصف يكمل وصفها حتي تغيب عن مرآه.
ولأن الإنسان ابن الطبيعة وجزء منها والفاعل الأقوي في حركيتها فمثله كمثلها يراكم تحولات هادئة تحدث تطورا في العقل وتعطي ملكات عمارة وبناء تنتج الحضارة والتطور ويحدث أيضا هزات وفورات عنيفة تعرف بالحروب فتأتي علي الكثير مما راكم من بناء وتحدث تحولات جذرية ترسم حدود ومسالك القادم من أيامه والفارق هنا أن الإنسان بعكس الطبيعة فاعل في الكوارث التي يخلقها من خلال حروبه وفاعل في نتائجها وفاعل في استنتاج ما عليه القيام به بعدها ولا تلد الحروب تحولات بسيطة مطلقا ولا تبقي علي الحال الذي سبقها مهما كانت محليتها…..
وإذا استثنينا الحروب ذات الطابع الديني فلم تقع حرب إلا سعيا لمنافع اقتصادية قد يعلن أصحابها عنها صراحة وقد يتسترون ولكنها تبقي هي الدافع الأهم وما سواها أمور ثانوية تفصيلية مصبها النهائي منفعة مادية أو كسب سياسي يوصل إليها……
والإقتصاد دون التبادل نشاط جامد والتبادل دون العملات مجرد ذكريات من الزمن السحيق……..فما هي العملة ؟ وكيف توارت جميع العملات أمام الدولار الأمريكي في هذا العصر؟ وهل من عودة عن هذه الأحادية وكيف يكون ذلك الإحتمال ممكنا ؟
العملة عقد اجتماعي مبني علي الثقة لا تعريف لها إلا بوظائفها وهذه الوظائف بدأت ثلاثة ويزيد لها البعض بأخريات مع تطور الحياة وتنوع الحاجات.
وللعملات تاريخ طويل قد يكون من المفيد الحديث عنه لتقريب الصورة أكثر لكنه جزء من تاريخ لم يعد له كبير معني في حياة الفرد والدولة في هذا العصر……كانت يوما قرون البقر ومرت بالمحار وباختصار كل وسيلة نالت ثقة السلطان وأمضي عليها.
فهي في وظائفها وسيلة تبادل ووحدة حساب ومخزن قيمة والعملات لها حيز جغرافي تكون فيه مقبولة وقد يكون في مقاطعة من بلد فتسمي عملة محلية وقد يكون في بلد بكامله فتكون عملة وطنية وقد يكون مجال بعض العملات أرحب بكثير كما هو حال الدولار الذي يعتبر اليوم عملة دولية.
بعيد الحرب الثانية كانت أمريكا تملك ما يربو علي ثلاثة أرباع المخزون العالمي من الذهب….ساعدها في ذلك الحجم الكبير للمدفوعات القادمة من دول أوروبا الغربية ثمنا للأسلحة والذخائر التي أمدت بها الحلفاء وتلك التي استهلكتها القوات الأمريكية إبان الحرب…..ولأنها لم تدخل الحرب إلا في سنتها الأخيرة ولم يلحق أي أذي بصناعتها ولا زراعتها ولا خدماتها.
أنشأت أمريكا في هذا الجو ما يعرف بمؤسسات ابروتن وودس( البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ) وحددت للدولار قيمة معلومة من الذهب وطمأنت العالم أن كل مخزون من العملة الأمريكية قابل للتحويل تلقائيا إلي الذهب(35 دولارا مقابل كل أنصة من الذهب الخالص)
لكن جرت تطورات لاحقة ومتسارعة منها المالي والنقدي والسياسي أجبرت الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون علي فك ارتباط عملته بالذهب عام 71 وتعويم قيمتها (وصلت ساعتها كتلة الدولار المتداولة في العالم إلى 53 مليار مقابل فقط ما يربو قليلا علي العشرة مليارات دولار من الذهب في الخزينة الأمريكية)
بعد التعويم حل الدولار محل الذهب كعملة أمان وثقة بفارق جوهري أن الذهب ليس سهل الإقتناء ونادر ومتاح للبعض من خلال منجم هنا وهناك وباستطاعة أي كان أن يجده في أسواق عرضه بدون رقيب ولا مُسائل في حين أن الدولار لا تملكه إلا أمريكا ولا يمكن الحصول عليه إلا بأمر منها أو قبول وموجود لديها بوفرة لا تنضب لأنه ورقة يتم تكثيرها وسحبها حسب الطلب وحسب حاجة أمريكا ووفق مصلحتها وحدها.
أصبح الدولار بمثابة الذهب فتعولم بسبب ثقة العالم في أمريكا وبسبب الأمان الذي يوفره كملاذ للقيمة بحكم قوتها الإقتصادية والعسكرية والسياسية.
لاحقا انتبهت بعض الإقتصادات الصاعدة أن العملة الأمريكية أصبحت عملة استنزاف للآخر وتعطي لأمريكا ما لا تستطيع الحصول عليه بقوتها المسلحة فأنشات هذه الإقتصادات تكتلات إقليمية وعملات للتعامل البيني وذلك للتحرر تدريجيا من تغول الدولار.
وزاد من توجس العالم وخيفته سلسلة الحصارات الإقتصادية المالية التي تقررها أمريكا في حق كل من لا يسير في الفلك المرسوم فأنتج هذا وعيا عالميا أن التشابك المصرفي والنقدي مع النظام الغربي عموما لم يعد آمنا.
الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا قد تكون القشة التي ستقصم ظهر البعير بسبب تجميد الأصول المالية والتهديد بوضع اليد عليها…..هنا تفقد العملة الأمريكية الركن الأهم والأساس الذي يجعل منها عملة دولية: الأمان
لماذا يفقد الدولار صفة العملة الدولية ؟
لم يعد الدولار ملاذا للثروة لأن أمريكا قادرة بلمسة زر أن تجمد الأصول لمن لا ترضي عنه فتتحول ثروته من آلاف المليارات إلي صفر.
يصبح أي استثمار في هذا البلد كمن يعطي رقبته لأمريكا ويرهن مستقبله وسيادته لمزاج ضيف البيت الأبيض.
ولم تعد هذه العملات (الدولار واليورو) وسيلة للتبادل الحر الآمن إذ يكفي أن تغضب أمريكا فتوقف وتابعها الأوروبي انسيابية المبادلات من وإلي الطرف المغضوب عليه….
لم يبق إذن للعملتين من وظائف النقود بالنسبة للعالم الآخر إلا أن كلتيهما وحدة حساب وفي هذا تستويان مع كل عملات العالم.
فمن ذا الذي سيجرؤ غدا علي بيع ثرواته بهاتين العملتين وإيداع عائداتها في البنوك الأمريكية والأوروبية !!!! ومن ذا الذي سيجرؤ غدا علي شراء سندات الخزينة الأمريكية !!!! ومن ذا الذي سيستثمر غدا في غرب أوروبا أو في الولايات المتحدة ؟
منذ أزمة أوكرانيا 2014 بدأت روسيا توطين موجوداتها في البنوك الغربية تدريجيا وبدأت بالإنفتاح علي الأسواق الصينية والآسيوية عموما في مجال توريد الطاقة في حين كان التحرك الصيني أكثر هدوءا لأسباب معلومة.
يتأتي التحرك الصيني الهادئ في موضوع الدولار من الحرص علي الثروة الهائلة من الدولار التي تدين بها لها أمريكا إذ كل انهيار للعملة الأمريكية يعني انتقاصا من ثروة الصين حاليا ولذلك نحت الصين هذا المنحي الكيس حتي تستحصل ديونها أو حين يصبح نفع المواجهة المفتوحة بين الرينبي والدولار أكثر من القيمة الضائعة من ثرواتها المودعة جراء انخفاض العملة الأمريكية.
لقد بدأ الكثير من دول العالم بالتنصل من الدولار في معاملاته التجارية في أفق بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب في المجال السياسي والأمني والإقتصادي والمالي والنقدي…..متي سيكون ؟ لا أحد يدري بالضبط ولكنه حتما سيكون ولن يطول الوقت حتي يكون.