عنوة الوداع (2)/ فاطمة محمد الأمين انجيان
.. لم تمر إلا دقائق حتى دخل علينا “محمد المختار”، الذي كان قد خرج في الصباح، وأخبرني بأنه يريدني في أمر دون أن ينظر في وجهي … مشيت خلفه بجسم لا حياة فيه، إلا لقلب يوشك أن يقف.. دخل غرفة النوم وتبعته ليواجهني داخل الغرفة بوجه متورم وعينين دامعتين ..!
كان ذلك الوجه الباكي يشي بهول الخبر الذي لم يلبث كثيرا لينكشف … كان وقع الخبر المفاجئ مؤلما و قاسيا وصادما …كانت تلك اللحظات القليلة التي أمضيتها في الغرفة أتجرع الخبر أشبه بدهر، واجهت فيه شر الخبر وشر نفسي وشر وساوس الشيطان، هذا الشرور الذي لولا الايمان بالله ولطف منه كبير لما خرجت منه بعقل سليم .. خرجت من الغرفة والمنزل، والألم يعصف بما تبقى مني، ألتمس طريقا وطريقة يجمعاني ببقية أهلي .. التحق بي الجميع أمام المنزل لأعيد قراءة الوجوه المشفقة، واكتشف علمها المسبق بالخبر.. يبدو أنني آخر من يعلم !!! رغم أنني كنت في قرارة نفسي مستسلمة ومُسَلِمَة بقضاء الله وقدره إلا أنني كنت أحس بأنني لا زلت أصارع بعض الشك والوساوس وأجد صعوبة بالغة في السيطرة على نفسي المضطربة .. رحت أستعجل المسير والوصول.. أسابق روحي القلقة على حال الأهل والأحباء…. كان الطريق مليئا بالحواجز العسكرية .. غريب !!! .. لأول مرة في حياتي أنظر بغَرابة وريبة إلى البدلة والآلية العسكرية بعد أن عشت في دفئهما سنين كانا فيها لي مصدر عز وفخار وإحساس بالأمن والأمان .. لقد ذهب النور الذي كان عليهما !!! فهمت أثناء الطريق بأن أمي وبقية أشقائي موجودين لدى عمي، الشقيق الأصغر لأبي”عبد الرحمن ولد انجيان”، بعدما غادروا منزلهم هربا، عند هدوء القصف قليلا في الليلة الثانية من الانقلاب، بعد أن كادوا يشهدون في الصبيحة الأولى له مواجهة كادت تندلع بين فرقة حراسة المنزل ـ من الجيش ـ وإحدى الدبابات المرابطة أمام المنزل، لولا استجابة الحراس الجنود لتوسل أمي وبكاء إخوتي، طلبا لعدم إطلاق النار على الدبابة التي كانت تصوب فوهتها إلى المنزل ـ بحسب قائد فرقة الحراسة ـ في هيئة استعداد دون أن تطلق قذيفة باتجاهه .. وصلنا منزل عمي بعد نصف ساعة من المسير، تقريبا، مرت علي كأنها دهر آخر لم يبخل عليً الآخر بأنواع الهموم والظنون…. كانت أمي وإخوتي الصغار يخرجون من الباب و يتأهبون لترك الملجأ والعودة للدار…. ترجلت من السيارة تنتابني رهبة وإحساس بأنني أقف على عتبة الفصل الأصعب، والاختبار الأكبر من مشاهد الرُّعب والألم .. كان قلبي يحترق، وأعصابي تتلف، وأنا أتبين من بين الجموع أختي “اسويلكة” وهي تصرخ وتنتحب دون أن تجدي معها أية محاولة لتهدئة روعها، تليها أمي تمشي وهي منكسرة، مثقلة الخطى، ذاهلة، و قد بدا عليها الإعياء والتعب ، وأخي الحسن ذو الأربع سنوات يتشبث بطرف “ملحفتها” خائفا يرمق الجموع بنظرات مرتابة وعلامات الذهول والاستغراب تعلو ملامح وجهه البريء…… اتجهت نحو الحبيبة مضطربة الخطى، على وقع ما أشعر به من رهبة وتوجس من أن يزيد اللقاء ما بي من وجع، وما بها من عذاب، لا أدري ماذا أقول أو أفعل؟ !!! …. كنت في مواجهتها عندما رفعت في وجهها وقالت : .. عانقتها قليلا، وقبلت رأسها دون أن أنبس ببنت شفة، قبل أن أتركها تواصل طريقها ولم تفارقني صورة الدموع المتحجرة في عينيها، من فرط الحزن والكرب .. أخذت أبحث عن بقية أخواتي وكلي قلق وخوف من مواجهة ثلاثة هن: “لالة منت مولاي الحسن”- أختي الكبيرة – و”اللولو” – الأكبر مني – و”الديدة” – الأصغر مني – وذلك لما عهدته فيهن من ضعف القلوب ورهفة الإحساس وشدة التعلق والقرب منه رحمه الله .. علمت بأن “لالة” و “اللول” ليستا موجودتين في منزل عمي، ولا أحد يدري عنهما بعد شيئا!.. و وجدت “الديدة” أو “الوالدة” كما كان يسميها رحمه الله -لأنها سمية والدته “مريم بنت أعل البخاري”- أو “البارة” كما كنا نسميها نحن “غمزا” فيها من شدة التصاقها وعنايتها به رحمه الله (كانت علاقتهما خاصة ومميزة سأتعرض لبعض من صورها في قابل المذكرات من جزء “بداية الأمل” إن شاء الله) …كانت شبه مغمى عليها وسط حلقة من النساء، لم أعد أذكر وجوههن، وكانت مغمضة العينين تتقاطر منهما الدموع، و تئن بين الحين والآخر، و كانت فجأة تفتح عينيها وتهذي بأسئلة ك … وقفت للحظات أتأملها بشفقة، وأنا أغالب رغبة في في داخلي بالبكاء والعويل، لكن الخشية من تعظيم قضاء العظيم الذي لا يعظم عليه شيء أدركتني، لأحسم أمري بالتجلد والاحتساب عند الله والمضي في تحكيم العقل والشرع.. أخذت “الديدة” و “اسويلكة” إلى السيارة التي كانت بانتظارنا، وتحركنا باتجاه منزلنا الكائن في الحي “ف” قرب الجامع السعودي، حيث التحقنا ببقية الأسرة .. في الطريق كان تعترضنا مسيرات مؤيدة لفشل الانقلاب فيخيم علينا صمت الصدمة لبرهة قبل أن تكسره “الديدة” وهي تستفيق على وقع الزغاريد لتسألني سؤالها الموجع …. كم تمنيت في تلك اللحظات لو أضع ذلك المشهد على “الصامت” وأنا أعجز عن الإجابة !!!.. لم تختلط علي مشاعري من قبلُ كما اختلطت علي في ذلك اليوم لقد كانت مزيجا معقدا بين الصبر والغضب والألم وخيبة الأمل كان شعوري كما لو أن العالم جميعا قد خذلنا !!!. حال التواجد العسكري والمدني الكبير في محيط المنزل دون وصولنا بسرعة ويسر إلى بابه مما اضطرنا إلى النزول والمشي المسافة قبل أن نصله كما لم يكن الولوج سهلا نظرا للتزاحم الشديد عند الباب وفي باحته …..كان هناك العديد من جنود الجيش وهم يشهرون سلاحهم و يصطفون على جانبيْ ممر اسفلتي صغير يؤدي إلى داخل المنزل يتجول بينهم نقيب من الجيش استطعت أن أميزه بعد ما اقترب مني ليلقي التحية و يقدم العزاء في تأثر بالغ …. كان منظرهم الغريب يوحي إلي بأحد احتمالين إما أنهم كانوا يؤمنون المنزل أو يبحثون عن شيء ما !!!.. كان البيت الباكي مكتظا ومليئا بالحركة لا تكاد تميز وجوه ساكنيه من عابريه لشدة تأثر الجميع… توافد أفراد الأسرة على البيت لدى معرفتهم بالخبر ليستكمل مشهد التداعي بقايا لقطات الانهيار مما تدمي له القلوب وتئن الأفئدة..
لقراءة التعليقات من المصدر اضغط هنا