السجال الإيديولوجي عقم في الفكر و رفض للآخر / الولي ولد سيدي هيبه
تطالعنا بين الفينة و الأخرى بعض المواقع الالكترونية بسجالات لا تخلو من الحدة محررة بأقلام متمكنة من ناصية اللغة و تبين قطعا عن قدر كبير من الأهلية على فرز التحاليل السياسية و الفكرية ذات الطابع الشمولي و عن مستوى متميز كذلك من الوعي السياسي الذي يلامس في جوهره قضايا الأمة و متطلباتها في هذا العصر المتفرد بوثبة العقل فيه إلى مدارك مجهوله.
لكنها السجالات التي لا تلبث أن تنحرف، بدوافع و مقتضيات “التزمت” الذي ما زال عملة رائجة و بنوازع “الدوغماتية” و “الدماغوجية” و “إقصاء الآخر”، إلى منحدرات البذاءة اللفظية و الشطط الفكري و تمييع المقاصد، و لتنحدر بذلك أكثر إلى مستوى السفسطية و انقلاب الفائدة منها إلى غثاء و الخير فيها إلى شر مستطير. يقول د. قدري حفني “من الشائع أن المرء كلما اقترب من التشدد والأصولية والعقائدية ضاقت مساحة المناورة المتاحة له باعتبار أن غالبية تفاصيل بنائه الفكري تعتبر من “اليقينيات الثابتة” التي يعد التزحزح عنها تراجعا عن المبادئ، يصدق ذلك على الجميع أفرادا وجماعات من أقصى اليمين إلي أقصي اليسار”. ولا تقتصر الأصولية، على الأديان و المذاهب الدينية، بل تتعداها إلى المذاهب الفكرية والأيديولوجيات و«النظريات» السياسية ومن هذه الأصوليات «الأصولية العلمانية» التي تجعل من العلمانية مذهباً إلحادي غالباً، في حين أنه من المفترض أن تكون موقفا منفتحا إزاء مسائل المعرفة ومسائل الواقع والتاريخ. وهناك أيضا أصوليات عنصرية كتلك التي قامت عليها النازية في ألمانيا و الصهيونية العالمية، وأصوليات «أثنية» قومية نشطت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي و الاتحاد اليوغسلافي. كما تجدر الإشارة إلى “المكارثية”، في الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت نوعاً من «محكمة تفتيش» أخذت على عاتقها ملاحقة المفكرين والمثقفين والسياسيين المعارضين لأيديولوجية الولايات المتحدة وسياستها، وتصفيتهم، ولاسيما في مرحلة الحرب الباردة . و لقد كان الزمن و تطور الوعي كفيلان بالقضاء على بعض أوجه هذه الأصوليات و إضعاف نبرة البعض منها التي ما زالت حية تعيق الحوار بين الحضارات و تزعزع السلم في المجتمعات الإنسانية. و لو أن كل هذه الأصوليات قد استخدمت، عن وعي، البراغماتية في وجهها العملي الذي قال عنه أحد أكبر علمائها وليام جيمس إنها “الموقف الذي يصرف النظر عن الأشياء الأولى والمبادئ، والمقولات، والضرورات المفترضة ويتجه إلى الأشياء الأخيرة، والأثار والنتائج والوقائع” و على الرغم من أنها تعارض الرأي القائل بأن “المبادئ الإنسانية والفكر وحدهما يمثلان الحقيقة بدقة”؛ فالبراغماتية إذا بهذا المنطق هي حمالة وجهين يتقاسمان الخير و الشر بحسب النوايا و المقاصد و الاستخدام و التوجيه. و إن موريتانيا في هذا الظرف الدقيق من تاريخها، و بما هي مقبلة عليه – على ما تكشف عنه مستوى الوعي المتأرجح بين التقوقع داخل قشرة اعتبارات تجاوزها الزمن و بين الشطط الفكري – من أزمات “وجودية” في حيز الحداثة و أمة الفضاء الترابي المشترك، لهي بحاجة “أكثر من ماسة” إلى هذه الأقلام المجيدة و الأفكار الطافحة و التنظير الخلاق لتتجاوز و لو نزرا قليلا من تأخرها المزمن عن ركب الأمم، و لتتخطى أيضا عقدة الانتماءات الفخرية “فكرية” كانت أم “عقائدية” – إن كان حتى أمرها ما زال موضوعيا من منظور الحداثة أو بات حقا في ذلك مدعاة لفخر لا يسمي نفسه – و قد أضحت وجها متخلفا في الحقل المطهر للعطاء الفكري تلفظ فيه الأصولية الشيوعية، و ما أدراك ما تلك، أنفاسها الأخيرة على نار التحولات الجارية في العقول. و هي الانتماءات الضيقة أيضا التي تؤخر قطعا و لا تقدم جزما في عملية بناء ما زالت تراوح عتبة وضع الأساس. و تأخذ هذه الحاجة أبهى تجلياتها في وجه غياب الوعي المدني الذي يضبط السلوك العام و يختزل الطريق الشائك إلى نهج الإعداد الذهني و العملي للتصالح مع مفهوم الدولة في أبجدياته الضرورية لأجل التماسك و السير في نفس اتجاه صهر المجتمع في بوتقة جامعة يسهل معها تحديد المسار العام و تسيير التباينات في الطرح و الاختلافات المثرية في التنظير العملي سبيلا عمليا إلى البناء الذي تكون حينها آفاقه واضحة المعالم، و في العمل الميداني الذي يكون قياسه و مغزاه و غايته تحقيق التوازن بين الرفاه الفكري المتحرر إلا من التخندق في الزوايا الضيقة و المادي المقيد بالقانون الذي يصبح سيدا يقضي على الفوارق الكاذبة و يزكي الانتماء له قلبا و قالبا.
و إذا كانت الانتماءات الفكرية، من قومية ناصرية كانت أم بعثية بشقيها المتصارعين أو كانت بالخصوصية “القذافية” أو التيارية الإسلامية المتشعبة أو الشيوعية المتنكرة أو القومية الزنجية الصارخة أو الطبقية الفئوية الثائرة على القوالب الرجعية و الإقطاعية، قد شكلت كلها أطرا استطاعت في مراحل معينة من تاريخ البلد أن تشكل محفزا و دافعا إلى ضرورة الالتفاف حول مشاريع وحدوية، توحيدية و توجيهية إلى سيادة الكيان مع صون التأكيد على الخصوصية في الاختلاف، فإن ذلك لا يعني أنها لم تكن مشوبة ببعض أسباب تقويض هذه التوجهات النبيلة على ثرائها في التنوع و تضييق أفق المعنيين بها بمحظورات و ممنوعات هي في غنى عنها.. و لا يعني الأمر كذلك أنه ثمة مانع من تكييف مكامن الخير فيها للبلد و إدراجها في سجل التوجه الفكري القومي الشمولي و الوطني الجديد الذي يخضع بمرونة ذاتية لمتطلبات التحول و مقتضيات التأقلم مع طبيعته التي لا تعرف الجمود.