يبدو أن تراجُع العنصر العسكري كثيراً لصالح الإقتصادي في الحرب الأوكرانية يقلب المعادلة التاريخية بين الحرب والإقتصاد على مستوى العالم. فبعد أن كان الدافع للحروب على الأرض اقتصادي أصبح الإقتصاد الآن دافعاً لوقف الحروب. فبعد أشهر قليلة من انخراط أمريكا والغرب بهذه الحرب العسكرية التي تبدو مبرمجة ضد روسيا بالذات، نراهم ينخرطون في اتقاء شرور النتائج الإقتصادية كأولوية لهم. حيث انعكست تبادلية سلاح العقوبات الإقتصادية وشموله لحركة مرور البضائع ونقص الغذاء والدواء وإمدادات الطاقة على الأمن والإستقرار الداخليين لهذه الدول لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، مما جعل الإمبريالية اليوم في خطر أو لتحول تاريخي لم تخطط له. بل جعل نظامها المالي الورقي في خطر. وليس هذا كله سوء تقدير في استهداف دولة بحجم روسيا من قبل معسكر كامل. فالشعوب الأوروبية والأمريكية المتمتعة بأنظمة ديمقراطية وبرخاء غامر يعيشون اليوم خطر فقدانه دون أن يشعروا بأن هذا الرخاء كان غنيمة استعمارية على حساب نصف الكرة الجنوبية، وبالتالي فإن أنظمتهم اليوم مهددة بالتراجع نحو التغيير.
الحرب في أوكرانيا هي حرب هادفة على روسيا ووصلت لنقطة محرجة لأنظمة امريكا والدول الأوروبية. وإن استدامة هذه الحرب من شأنها منطقيا أن تصنع شرخاً في وحدة المصالح الأوروبية من جهة وفي تبعيتها للقرار السياسي الأمريكي من جهة ثانية، كما من شأنها أن تنعكس بتداعياتها الاقتصادية على أمن واستقرار العالم. وأمريكا تدرك ذلك ولا تدرك كيف انساقت للحرب. ولا شجاعة أدبية أو سياسية ستقنع الغطرسة الأمريكية بالتراجع العلني عن دعمها لهذه الحرب، فهذا قد يُكلفها زعامتها للمعسكر الغربي وينهي على ما تبقى من مصداقية لها لدى بقية الدول. وحيث أن أمريكا تدرك استحالة كسر الارادة العسكرية الروسية في هذه الحرب، وتدرك بنفس الوقت أن مبادرتها في التفاهم السياسي مع روسيا بشأن اوكرانيا صعب عليها وسيكون تفاهما بين منتصر هي روسيا ومنكسر هي الولايات المتحدة، فإن أسهل الحلول المتاحة أمام أوروبا وأفضلها هو الحل الروسي أو التفاهم الروسي الأوروبي. وفي هذه الحالة سيكون حل المنتصر، ولن يتوقف عند المطالب السابقة وتتوالد أزمات جديدة. بينما الولايات المتحدة لا خيار لإدارتها الحالية لتاريخه سوى اعتمادها على طول النفس ومداواة جراحتها الداخلية. وروسيا تفهم هذه اللعبة وتبني لنفسها استراتيجية دولية جديدة.
هذه الحالة العامة لا تقبل خاتمة الغالب والمغلوب لا سلماً ولا حرباً. ولا يلوح فيها تسوية سياسية مع أن بقاءها ليس في صالح طرف. والعائق الأساسي أمام التسوية أننا لسنا أمام معسكرين في حالة سليمة، فالمعسكر الأمريكي غير متماسك وتواجه حكوماته مسائلات شعبية، والمعسكر الروسي غير متشكل، فلا تربط أعضاؤه المفترضين الأهداف والرؤى ولا الإستراتيجيات، فهو أقرب إلى الإفتراضية، وبقية دول العالم من الثالث للعاشر هو ما بين طفيليات تتفكك وتبحث عن من يحملها، وتبعيات تبحث عن حماية، ومحميات تبحث عن خيارات. والتحالفات الكبيرة تتجه للتفكيك الى تحالفات صغيرة في إطارات جديدة.
فالعالم يبدو في طريقه إلى فقدان السيطرة على إرادته وخياراته باتجاه الخضوع اللّا إرادي لإرادة مفروضة. هويتها صهيونية تلمودية في برج حصين داخل الولايات المتحدة تمتلك وسائل التأثير على حركة العالم من أجل برنامجها. والمفارقة المحكمة التخطيط أن سلاح الردع الذي يفرض نفسه على القوى الفاعلة لمنع حرب عسكرية عالمية ثالثه، يترافق بفضل وسائل الحرب الأكرانية مع فشل سلاح الردع الإقتصادي البديل الذي يتراجع ويتفكك تحت ضغط خطورته وأثاره على الأنظمة الشعوب.، مما يعني فشل حرب عالمية ثالثة خشنة كانت أو ناعمة. العالم في الوقع يدخل في مرحلة أو حقبة يفقد فيها خياراته العسكرية والسياسية والإقتصادية والقيمية الخاصة بحياة الشعوب، تنهار فيها الإمبريالية كما انهارت من قبلها المؤسسة الاشتراكية السوفيتييه. وبما يمكن وصفه أننا نساق الى نظام عالمي جديد مجهول على يد القوة الخفية. وبإمكاننا القول أن حالة الفشل في إقامة السلم وإقامة الحرب ودفن النظام العالمي القائم هو الذي يشكل الحرب العالمية الثالثة التي تفترضها وتقودها الدولة العميقة للعالم.
الولايات المتحدة ليست في الواقع دولة حرة وسيادتها مقادة وبها تقود أوروبا. وهذه الحقيقة تسطع أو تبهت مع قوة الرؤساء أو ضعفهم ولكنها تبقى حقيقة. وأن روسيا بوتين هي دولة حرة وتؤمن بتاريخها وسيادتها وبمصالح شعبها، وأنها الأوعى على التغلغل الصهيوني اليهودي وعلى اليد الخفية أو الدولة العميقة للعالم المتمركزة في أمريكا. وقرارها في حظر عمل الوكالة اليهودية بروسيا قد يعني رسالة بتحول مفصلي في سياستها، وربما يكون أجرأ قرار لها في تاريخها كدولة كبرى. إن هذا القرار تقرع فيه روسيا الجرس للعالم وليس مجرد رسالة للكيان. روسيا هي المستهدفة كانت وما زالت، وما ملف استهداف الصين الذي يوضع على طاولة الرئاسة الأمريكية والذي يتخذ الشكل الإقتصادي إلّا سياسي في واقعه. فالصين تاريخياً لا تبحث عن مواجهات عسكرية. وهاجسها دائما اقتصادي وحمائي في إطار تأمين سلامة ووحدة شعبها وأراضيها. والاشتراكية عندها استراتيجية اقتصادية أمنية. تتعاطف مع قضايا الشعوب، ولا تدخل في صراع عسكري مع أعداء الشعوب. وكلنا يعلم بالمشاريع الإقتصادية الإستراتيجية الطابع مع اسرائيل وبوقوفها السياسي مع الشعب الفلسطيني بنفس الوقت. ونعلم بأن روسيا بنت قوتها العسكرية الهائلة خلال ال 15 سنه الماضية على تعاون الصين الإقتصادي معها. ما أريد قوله أنها لا تدخل بحلف عسكري ما لم تحتاج إليه.
الدول العربية اليوم أمام مفصل تاريخي بما تحمله المرحلة الإنتقالية من فرصة لتدارك خطئها التاريخي القاتل حين تحالفت مع المعسكر الغربي الصهيوني المعادي للعرب ووقعت تحت استعماره أو بسطاره، وجعَل من أموالها وثرواتها الهائلة ونفطها واستراتيجية موقعها وبالا عليها وإذلالا وسخرها لخدمة احتلال فلسطين وترسيخه. ولم يسمح هذا الغرب الصهيوني لدولة منها ببناء اقتصاد صناعي أو قوة عسكرية تحمي بها شعبها وأراضيها واستقلالها، ويختمها اليوم بهجمة مبرمجة وممولة على قيمنا ومعتقدنا واشاعة الانحلال الخلقي والإلحادية ومحاولة تقنينه. هذه الفترة انتقالية تاريخية تُعَوَّمُ فيها انتماءات الدول السياسية وارتباطاتها. لا أحلاف عسكرية قادمة فيها.، إنها المرحلة الممكنة للهروب من الإستعمار القديم لمن يريد. روسيا اليوم ترى نفسها في صراع داخلي وخارجي مع الصهيونية العالمية ودولتها العميقة، وترى لذلك ولأول مرة في العرب حليفاً طبيعيا واستراتيجيا، هي ليست بحاجة لقوة وقوات العرب إنها تطمح لاتفاقيات صداقة وتعاون معهم على أسس جديدة تنبع من موقف جديد لها مع الصهيونية والكيان. فهل من انعطافة تاريخية لحكام العرب وتكفير عن جرائمهم بحق فلسطين والعرب والمسلمين والإسلام.