الفاتنة والقواد…..!
كتبت الدهماء
الفاتنة والقوَّ.ا.د.
……..ا
في قاعة فسيحة للحفلات، أخذتُ مكاني صحبة رفيقتين إلى حافة طاولة فارغة، التحقت بنا سيِّدة في مثل عمرنا، مطرزة الوجه بالأصباغ، نتقاسم معرفة سطحية رابطها أصحاب الحفل،.. أشارت على فتاتين، سأعرف منها لاحقا أنَّ إحداهما ابنتها والأخرى ابنة أختها ومُطلَّقة حديثا.. كانت الأخيرة فاتنة بمقاييس أغلب الشّعوب، وفيها جمعٌ من أسماء الجمال.
عقدنا مجلسين مُتجاورين على نفس الطاولة.. الإنعاش الفني بدأ قبل حُضورنا، وكان سيِّده “اعبار” محمد ولد حمباره الجبَّار، لاعبَ عُرَبه مع طبقات صوته وأنفاسه، ولوَّنها مُناوبة بين حدة ورخامة.
دقائق، وتحوم حولنا شخصية معروفة من تُجار “الجو”، فرس نهر أبيض، ضخم الجثة، يلهث بعضه وراء بعض ليلحق به،..
كان يطوف حول الطاولات يجلوها بعينيه، ابتعد عنا ثم قَفَل نحونا، وكانت مَطالع نظراته النافرة على الفاتنة جارتنا،.. تشاغلتُ عنه بعصف الصُّراخ بملامح ولد حمباره، وقد اندمجت انفعالاته وتشنجاته في حماسه،.. الصَّهيل الفنِّي في المناسبات لا يرتقي بالذَّائقة لكنها تَنْشغل به لحظة سدًّا لفَراغِ الفُرجة.
بعد نصف ساعة، أرخَى القَوَّ.ا.د مَراسيه على رصيف طاولتنا قُرب الفاتِنة، بالغ بتَكلُّف في تحية خالتها، ثم مالَ بِجثمانه نَحو الفتاة، نَفَثَ عليها بِضْع كلمات مُخافتًا، فردَّت بهمسٍ،.. لم أسترق السَّمع، كنتُ أستَمع بعين الحَسرة، قرَّب فمه من أذنها مرتين، وحكى لها، ثم حكى وكأنه قرين قديم،.. ما ذا قال لها؟، ربما أشياء لا يمكن قولها علنًا ولا يَحسن السُّكوت عليها تأويلا،.. ابتسمتْ، فخمَّنتُ أنَّه احتواها وأنَّه يجري لها عَمليَّةً لزرع حُلم مُهين في دماغها، وأنَّ ما يَحدث أمامي بمستوى خطأ طِبِّي في جراحة حساسة،.. فلن تستعيد الصغيرة عافيتها الذَّاتية بعد اليوم.
مَّد إليها يده بهاتفه،.. قدَّرتُ: خلاص، سقطت الفتاة في فخ الإقناع بالاستماع!.. تناولتِ الهاتف، نقشت عليه أشياء، كانت أصابعها ترتجف،.. قد تكون سكرات لبقية خجل يحتضر، رعشة تُخلصُّ بها ذاتها من حصار نظراتنا وارتباك بداياتها،..
لم يأخذ معها طقس القيد في حمأة المجهول أكثر من لحظة تحدَّت فيها نفسها، وتحرَّرت من اندهاش الحضور ليكتمل العُبور،..
دحرج القوَّ.ا.دُ صدره إلى الوراء في اهتزاز ليُوازي جذعه، وطبع شيئا في هاتفه،.. ثم تَصاعَدَ يلهث ليرفع هامته، لوَّح لخالتها المنشرحة بيده ولها بإبهامه،.. حركة تقديرٍ فيها بعض الثَّناء والأمل في العطاء،.. حتَّى نحن، أدركنا سخاء بشاشته بدافع حق الجيرة ربما!..
أمضتِ الفتاة المُضاعَة بقية سهرتها باسمة تَتَخفَّفَ من الحرج.
ظَفرتِ الجميلة بغواية ثمينة ستبني لها قصرًا من أخيلة،.. وقَّعت لتوها صفقة سقطة ستكون نذير انتماء لعالم آخر،.. ولسوف تلهو بها الشَّهوات، ولسوف تتقاذفها اللذات.. دار في ذهني أكثر من سؤال، لمن ستُشحَن هذه البضاعة التُّحفة؟.. من سيدفع لعرَّابها ولها؟ كم سيدفع لهما؟ ما هو حساب الحصص؟.. تخيَّلتها مع فارس ليلٍ مُترف بِنَهَم الجوارح، تهتك سنابك شهوانيته وعدوانيته جسدها الغض.. تخيلتها مع بقية رجل هَرِمٍ َميْسور، ابتلع قبل أن تُساق إليه قُرصًا لتنظيم ضغطه وآخر لخفض سكَّره، وقُرصا أزرق لبعث فحولةٍ اصطناعية لن تكتمل.. تخيلتها تتجرع الاشمئزاز قربه وهو يجرجرها فوق حواجز عجزه العاتي.
كان جمهور الطاولة مُنشغلا بالتهام اللَّحم على حدود الواحدة فجرا، أكرهُ طعام الولائم كُرهًا لاذعاً، ونصيبي منه تمرة للمُجاملة وقنينة ماء للتَّرطيب،.. وبالتالي ملكتُ من الفراغ ما سَمَح لي بأنْ أتأمَّل في اشفاق وجهًا كجَمال الهِلال في ميلاده وكجماله إذا اكتمل، يتحوَّل أمامي إلى غِلافٍ لروحٍ تضع خُطوتها الأولى على عَتَبة الرُّخْص، وستنطلق بلا رقيب نحو مُنحدر ركضٍ مفتوح المضمار، لا يوجد به خط نهاية.. وتألَّمتُ لكوني كنتُ شاهدة على حفل انطلاقها إلى ذلك العالم.. أحسنتُ في نفسي الرِّثاء لجمالها في صمتٍ، ويقيني أن تلك المقدمات لن تمنحه سعادة الاحتفاء بالنِّهايات.
حفظ الله بناتنا.
تحياتي.