ثلاثة عقود على معرفة محنض باب ولد امّيْنْ /محمدمحمود ولد بكار
الزمان أنفو ـ كان ذلك في مطلع التسعينيات، في أصيل أحد الأيام، حينما قدمت مع أخي الحسين ولد محنض لزيارة ذلك الرجل الصالح الذي لم يتفق أن التقيت به رغم ما أحاطني من ذكره المثير للدهشة في محيطه الاجتماعي..
دلفنا من الباب الأمامي. كان المدخل طويلا بعض الشيء، يقود إلى بيت في مستويين: أرضي وعلوي. لم يكن المنزل سوى شقة متوسطة يؤجرها محمد ولد محنض، تقع شرقي مصحة الشفاء في حي “باند آوزو” بتفرغ زينه. عرفت من الحسين أن الرجل قليل النوم في الليل، ولذلك لابد من التأكد من أنه قد استيقظ.. كان رفيقي يمشي بخطى خفيفة ووئيدة وكأنه قلّص وزنه الخفيف أصلا (سبع مرات على سبيل المبالغة) خلال المشي في ذلك الزقاق المنزلي لدرجة أنك لا تكاد تسمع لقدميه أي وقْع. وكنت حينها ثقيل الظل، أتعمد العنجهية، ومع ذلك رضيت بمجاراته قدر الإمكان، فليس من طبعي التصنع ولا أحسنه. وهكذا، أو يخيل إليّ أن طقطقة نعلي لم تعد تتناهى لمسمعي. وكنت للذكرى أنتعل نعلا تقليديا من جلد المها يسمي “آركميم “، يتم صنعه محليا، وهو يفرك الأرض فركا، ومع ذلك انتبه الرجل بسمع مرهف لتسللنا، فسأل، بصوت مسموع مفعم بشحنة الإبلاغ وكأنه يريد تنبيهنا على أنه مستيقظ: “ذاك منهُ؟”، بحيث يبقى للحرف الأخير من الكلمة طنين أو رجعٌ من خلال أدائه له، كأنما يريد شد الانتباه أو توكيد الاستفهام. أعادها مرات متتالية مع فصل خفيف بينها وكأنه يستعجل الجواب. أجابه الحسين بأن عرّفه على نفسه، فقال له: “گرّب جايْ، أقدِم”، وهي إحدى مفرداته حتى اليوم، حينما يمنحك الإذن بالقدوم إليه. كان المنزل خاليا من الناس إمعانا في احترامه والابتعاد عن إزعاجه، فيُخلون له المنزل في النهار، رغم أنها كانت أسرة صغيرة من شخصين أو ثلاثة. ثم أشفع الرجل كلمة الإذن بالاقتراب، بعدما صعدنا السلم ناحية البيت الذي يسكن فيه، وكان قد خرج منه إلى شرفته على مقربة من الباب وجلس دون أن يلمس التراب منه غير رجليه، وهي جلسته المفضلة التي يمكن أن يمضي بها وقتا طويلا رغم صعوبتها. وكان مقراجه بيده، وهو أحد لوازمه وأحد مفرداته أيضا. ثم قال ملوحا بالسؤال للحسين: “هذا إلٍّ امعاك مِنهُ؟”، فأجابه بتعريفي اجتماعيا، فسّلم عليّ مردفا: “وخيرت، ذوك هومَ وأبو فراس الحمداني، ما إطيحُ اعل الناس في الليل”، وأنشد البيتين:
ولا أصبح الحـي الخلـوف بغـارة
ولو كان لي فيه من المغنـم الوفـرُ
ولم أستجز قتـل البـريء وسيلـة
ولا الجيش مالم تأتـه قبلـيّ النـذر
وأتبعها بالقول مرة أخرى: “إدوعيش هوم وأبو فراس الحمداني ما إطيحُ إعلَ الناس في الليل”. وهذان بيتان من قصيدة أبي فراس الحمداني الشهيرة التي مطلعها:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
وهي من روائع الأدب العربي، وتشتمل على أروع الأمثلة على الشهامة والفروسية والشجاعة، وهو محل استشهاد محنض بابه في قيم الفروسية بين حيّنا وحيّ أبي فراس الحمداني خاصة في ما يتعلق “بعدم الغدر”.
ثم سأله محنض بابه ثانية: ومن هي أمه؟، فقال له: إنها بنت سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم. فهب واقفا ملء قامته، ماسكا بيدي حتى وقفت معه، وجعل يمرر يده على رأسي وهو يكرر: “سيدي عبد الله أغجر”. كررها مرات، وكان يقولها بلغة بطيئة، وكأنه ينفث شحنة هواء امتلأ بها صدره ممزوجة باحترام وإعجاب. وجعل يصوب في هذه الأثناء نظراته المتفحصة نحوي وكأنه يتفرسني. وأعتقد أنه حينها لم يكن ليرى سوى شاب بين دروب الهوى والطموح يبحث عمن ينير له دربه، رغم أن الروح كانت متعلقة بالصالحين..
كنا في تيه فكري، ففي بلدنا –للأسف- لا يكسب أحد فكرا ولا قيما أو ثقافة بسبب فقر وانعدام نمطنا التعليمي، فلا تغرس المدرسة أي قيم في النشء، ولا فكرا أو تاريخا يفخر به الطالب، فكل يأتي بما عنده من أهله.
هذه في الحقيقة ليست تربية وطنية. ولهذا تلقفنا الايديولوجيا ونحن في صبانا لتروية ظمأ الخواء الفكري والثقافي، فلا نمتلك روحا ولا ثقافة وطنية ولا الارتباط بالبلد من خلال أمجاده وتاريخه. كلها مجرد دروس قليلة في إطار التعليم البنكي: معلومات مقدرة خلال السنة، وفقط . وإضافة لكل ذلك لم يحدد البلد خياره الثقافي، ولذلك ظل يخرج مواطنين غير متفاهمين. لقد كنا معرضين للضياع بحق. نحن مدينون لله بالحمد الوافر على أن حمانا من الضياع بعنايته. إنه بلد نمت وترعرعت نخبته في هذا التوجه الأهوج .
هالني مظهر الرجل، شديد بياض ثياب هي عبارة عن دراعة من أبسط أنواع القماش (الشِّگه الرقيقة)، في مقاس قصير من الجهتين، في خروج زاهد عن نمط لبسنا اليوم، وتحتها إزار من نفس اللون، كما تظهر عليه وعلى لبسه نظافة ليست من طباع أهل البدو، ويملك نمطا خاصا من السلوك بداية بالسلام حيث يمد يده بطول ذراعه ناحيتك وهو يسلم عليك، ثم يجلسك حيث أنت. إنها نفس المسافة الصحية التي تنصح بها منظمة الصحة العالمية حاليا، كما أن له طريقة تستبطن فطنة ونفاذ بصيرة غير عاديين في تعاطيه مع زواره من خلال سؤاله الافتتاحي (عن آشْ لاهِ اتسوّلْنِ): عن أي شيء ستسألني، ليذهب كل واحد بما يرضيه … لا تغري محنض بابه مسحة التعظيم التي يحيطه بها الناس والتي تبدو غير مفتعلة، فلعله يستحق ذلك، فهو لا يريد “وضع رأسه في تلك الربقة، كما تبدى لي حين أسقطت ما سمعت على ما شاهدت.
كان محنض بابه طويلا تبدو عليه قوة البنية التي أخذ ينسلخ منها بفعل نمط غذائه الخاص، فقد روّض نفسه على الابتعاد عن كل ملذات الحياة في جهاد حقيقي للنفس التي انفصل عنها منذ مدة كما سأتعرف على تفاصيل ذلك أكثر لاحقا. كنت أسمع بعض الأحاديث عنه في محيط الحسين، وأعتبره محض ترويج له لا غير، لأن كثيرا منه لم يكن معقولا في علم الواقع وبالنسبة لي، كما سيتضح لاحقا .
كان يطرح سيلا من الأسئلة، وخلال الأجوبة كان يثير أسئلة أخرى في تعطش لمعرفة الأجوبة حول ما يسأل عنه، رغم أن أسئلته قد تبدو للمتلقي غير ذات أهمية وكأنه يريد أن يشحن بها مجلسه القصير بالأساس، لكن نسق الأسئلة وطريقة طرحها تحيلك إلى أن صاحبها يبحث عن أشياء ربما ليست فقط أجوبة سطحية كما سنلاحظ في بعض لقاءاته.
لم يطل بنا المقام معه، ومع ذلك خرجت باندهاش من مفردات الحديث وبنظرة مختلفة عما توقعت مشاهدته، وقد تلقيت أسئلة لم أتوقع أن تكون محط اهتمام رجل دين وزهد مثله، يسكن بعيدا عنا، يسأل عن معلومات في الغالب ليست مدونة ليحصل عليها بواسطة الاطلاع، ما زاد من اندهاشي وتعطشي للتعرف على هذا الرجل عن قرب والتزود مما عنده حيث خرجت بانطباع بأنه يخفي سرا أكبر مما توقعت وحتى مما كنت أسمع أو -على أقل تقدير- مصداقا لما كان يتردد على مسمعي وكنت أهمله. وهذا أمر تشي به مجالسته دون مواربة، فهو يسأل عن اتهيدين، وعن لغن، وعن الأرض وتضاريسها، وعن بعض الكلمات، وعن بعض الأسر، وعن العبارات، وعن بعض المواقف خلال المعارك، وعن معارك بعينها وأحداث تخللتها أو ترتبت عليها، وعن تاريخ المرابطين، وهل أمراء إدوعيش ينتهون لأبي بكر بن عامر أو ليحيى أخيه الأكبر، وهل تحقق لدينا أن الضريح الموجود في “مَگسم بوبكر” في تكانت يعود فعلا لبوبكر بن عامر حسب تواتر الأجيال، وأين يقع بالضبط وبالمسافة الدقيقة. وغالبا ما يملك محنض بابه الإجابة لكنه يريد جمع الروايات. وأثناء الحديث (السؤال والجواب) يأتي بتعليقات ضاربة في العمق، تمنحك تفصيلات لم تكن تعرفها أو تذكرك بأمر دقيق قد نسيته. إنك في الحقيقة أمام شخصية استثنائية. إنه يتحدث عن أمور لا يمكن أن يحصل العلم بها إلا لمن هو في درجة عالية من الاطلاع والاهتمام بتفاصيل التفاصيل، وكأنه يريد أن يؤسس عليها أشياء أخرى. ولهذا لابد أن تكون فتاويه تختلف في المستوى والعمق.
ورغم ما هالني من الرجل، كنت مشغولا من جهة ثانية بالفكر الاشتراكي. وكنت أتلقى تكوينا ايديولوجيا على يد رجل يدعى الطالب، وهو في الأخير صديق متضلع من الفكر الاشتراكي الماركسي اتروتسكي. كان يعيش مدلول البروليتاريا ويتمثلها في حياته، وكان يسكن عريشا في توجنين عبارة عن حي اعتباطي تم تكوينه على رأس هضبة في طرف توجنين الجنوبي من نزوح مجموعات من المواطنين من الداخل، ويشعر فيه براحة لا تقدر وغير مصطنعة. كنا نتلقى على يديه محاضرات حول ذلك الفكر الاشتراكي، وكنا عرضه بسيطا تتخلله ضحكات وكأنها لإنعاش المجلس لأنها تأتي عبر تعليقات جانبية (لكي لا تذهبوا بعيدا لم تكن الدروس بالمعنى المتعارف عليه من حيث الشكل، بل كانت أحاديث على مائدة شاي حول وليمة خبز نصف يابس دفن فيه صاحب الحانوت قطعة من الزبدة على نحو رأس شفرة السكين التي يقطع ويخلط بها الزبدة والتي غالبا ما تكون هي الأداة لكثير من الأشغال الأخرى غير المتناسقة داخل الحانوت، ومرات يلتفت لاتساخها فيمسحها بما اتفق من الأمور اللينة الصالحة لذلك: قطعة ورق،كمّه، أي شيء). وهنا من المهم أن أورد قصة قصيرة كانت تحدثني بها والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وهي أن امرأة في الحي عندما تريد أن تفصل دقيق الزرع عن القشور لتحضير النشاء، ولا يكون بجوارها أحد، تأخذ سجادتها التي هي من ” إرعيعيد” أو “أزران” وتضعها على القدح وتصب عليها الدقيق ثم تحركه بيدها وتكرر: “الحاظْرَ أَبْرَكْهَ وِالوّاعْرَ اتْرَكْهَ”. إنه في النهاية هو أسلوب الموريتانيين في الحياة حتى اليوم وهم يسيرون دولة عصرية”.
رغم احترامي الكبير لهذا الرجل (الطالب) الذي سيتحول فيما بعد لصديق عزيز، وتشوقي الكبير للقاءاته وللمعلومات والتفسيرات التي يعطينا (هو في الحقيقة رجل بيداغوجي يستدل من الواقع على ما يريد التعبير عنه ويملك قاموسا يمزج بين السخرية والجدية والأريحية مما منحه ملكوت الإقناع، وهكذا تكون محاضراته في النهاية مثل حديث بين الأصدقاء، لكن ثقافته تجعله، من بيننا، يتصدر المجلس دائما ويظل هو المرجع). لم يستطع أن يغير من قناعتين راسختين لديّ قيد أنملة، وهما الفكر القومي ومسحة التعليلات الدينية. لا يعني ذلك أنه لم يكن يؤمن بالدين، لكنه كان يريد فصل الكثير من الظواهر والمسائل كشوائب، وربما كان ذلك يعني لنا أنه يوغل في الابتعاد عما عرفناه وتلقيناه في مجتمعنا من فهم للدين بحيث يعتبره هو خرافات. كنت دائما أهتم بالجانب الاقتصادي أكثر من الجانب الأيديولوجي، كما كنت أحب الصالحين وأبحث عنهم، لكنني لا أنكر أني تأثرت ببعض التفسيرات والخلفيات التي يقدمها لنا الطالب دائما كي لا نغتر بالكثير من الترهات ما جعلني على شفا المروق من الاعتراف بالكثير من معايير الصلاح والمشيخة الدينية. وقد أسهم ذلك على نحو كبير في اهتمامي المتزايد بمحنض بابه عندما اكتشفته، فلم يكن يقدم يده للتقبيل، ولا يأخذ مقابل علمه ولا صلاحه، ولا يريد الموردين. لقد كان عدم استغلاله للناس يوافق هوى في نفسي. إنه بذلك أيضا يقع خارج تلك الدائرة كما نتصورها وكما نسميها: “دائرة بائعي الريق والأوهام والدجل للمساكين”، ومع ذلك كنت أعيش هذه الازدواجية بداخلي: “التقدمية” من جهة و”المحافظة” من جهة ثانية، ولم يستطع أي علم تعلمته بعد ذلك أن يخلق التصور الذي يغلب أحدهما على الأخرى، ففهمي للاشتراكية مزيج من حب العدالة والمساواة وتقديم المجتمع على الفرد، وحبي للمحافظة هو حماية للمجتمع: بنيته، قيمه، تاريخه…
لقد تركت تلك الزيارة ظمأً لا أدرك كنهه ولا حدوده لمعرفة شيء من علم هذا الرجل، أعني محنض بابه بالضبط. لقد وجدت طعم العقل ونمط التجديد في الكثير مما دار في ذلك الحديث، ووجدت فيه الخروج مما عرفناه وعشناه وكنا ننتقده في داخلنا لدرجة أنه لم يعد يثير فينا أي إحساس ولا يقرب منا أي مفهوم، بل يصيبنا بالامتعاض ويبعدنا عن ذلك النمط من الناس الذين يستغلون الدين … ومع بعض الغرابة في ما يقول فإنك تتذوقه، ولذلك يشدك إليه أكثر .
كنت حينها شديد الولع بالمطالعة، وكان لا يفارقني كتاب أتأبطه حتى وإن كان المقام لا يسمح بذلك أو ليس الكتاب جزءا من مفرداته .
كُتب لي أن التقيت محنض بابه بعد ذلك مرات، بل كنت أتحسسه وأترصده، فقد كان مجيئه لنواكشوط مرات فقط خلال السنة، وبالتالي كان لقاؤه فرصة ثمينة، فهو مع ذلك لا يحب مخالطة الناس. وكنت كلما زرته شعرت برهبة الرجل وهيبته واستمتعت بطابعه الخاص الذي يستهويني ويشكل مكمن إعجابي به. كانت له نظرات صارمة يصوبها إليك فيخيل إليك أنها تعبر إلى داخلك كما لو أنها أشعة، وينتابك حينها إحساس أنها تفتش عن حقيقة ما بداخلك. هذا إحساس صوري لكنه شديد الوقع وكثيرا ما يقع، ومع ذلك كنت جسورا في طرح الأسئلة، وكنت كل مرة أواجه أجوبة غير تقليدية تقودني لمعرفة الحكم على الأشياء من زاوية أخرى أو تصورها على نحو مختلف أو الحكم عليها، وذلك يدفعني إلى أن أظل أعيش في فراغ داخلي يتسع بالدوام أو قل بكل وضوح يدفعني إلى التعطش للازدياد من معين هذا الرجل الذي أجدني مرة أخرى أنجذب إليه بسبب بعض فتاويه ومواقفه من بعض النوازل .
في العادة، لا يطلق على الأحكام الفقهية مواقف، لكنها عندما تكون قوية ومناهضة لكثير من الممارسات اليومية والطلاسمية تكون مواقف وتتطلب منزلة علمية وشجاعة للتعبير عنها، وذلك هو الأصعب، وهو ما يذكرني على سبيل الاستطراد بموقف محمذن فال ولد متالي في حادثة الفتاة المشهورة التي تحدثت عن الملائكة. وكان في موقف وحيد ضد جميع علماء المنطقة. ومع ذلك لم أكن -وهذا من طبعي- أصلح لأن أكون “تلميذ خدمة “، ولا متفرغا للتعلم رغم أن إرادة والدي رحمة الله عليه كانت تحثني لذلك الاتجاه، لكن انعدام القدرة على التكييف مع نمط مختلف عما تعودت عليه هي التي تشدني للخلف. وهذه ثاني ازدواجية غريبة أحملها بين أضلعي.
ما فتئت ألتقي بمحض بابه حتى أعجبت به أيما إعجاب.. أعجبت بعقله وعلمه وورعه وأدبه. وبعد فترة من معرفتي له، بدأ الناس يكتشفون حقيقته، وبدأ يذيع صيته، وهو يكبح ذلك بكل قوة ويتستر على كل المظاهر التي يريد الناس كشفها. كانت المعلومات الكثيرة المتداولة عنه تتعلق بزهده بالدرجة الأولى وصلاحه ثم جانب الطب منه، وكان علمه لا يتم الحديث عنه بنفس المستوى، ولا أدري سبب ذلك …كان اهتمام الناس الأول هو الطب والصلاح، وقد كان له في الطب مذاهب متعددة: منها الطب التقليدي حيث يصف للمريض حميات معينة أو خليط من السوائل كشراب، وكان يصف وصفات أخرى غريبة تتعلق بالصلاح والكشف، ويمكن سؤال الكثيرين ممن عايشوا ذلك بأنفسهم بما فيهم علامة زمانه اليوم، وكذلك التداوي بأرض المقابر وزيارة القبور وماء زمزم وذكر أسماء الأمهات وتكرار بعض أبيات الشعر التي تتضمن توحيدا أو كيفانا من لغن الحساني وغيرها. وغالبا ما يطلب محنض بابه من المريض أن يوافق استعمال الدواء يوم الجمعة وقت العصر في فلسطين خاصة القدس، وعندما سألته مرة عن سبب ذلك التوقيت، قال ان ذلك يصادف وقت نفخ الروح في آدم عليه السلام. ومن غرائب محنض بابه أنه داوى اسبانية تعانى من سرطان الدم بتراب الميمون (مدفن أهل العاقل، وهي أسرة يعترف بصالحها كثيرا، مع تراب من قبر محمدن ولد أشفاغ أعمر الذي يسميه بـ”مدّاح الرسول”). وقد قال أنه يمكن طلب الشفاء للكفار لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زمّل كبير المنافقين عبد الله إبن أبي بقميصه. كما داوى محنض بابه كثيرين من أمراض لا حصر لها على هذا النحو. لم يكن محنض، وهو على مذهب الخضر، يأخذ على ذلك أجرًا، وكان في الغالب شافيا. وهكذا أخذ اسمه يطير إلى أصقاع العالم، وبدأ الناس يأتونه من كل مكان. لم يكن يمنح من وقته أكثر من خمس دقائق للشخص إلا في حالات خاصة، وكان يتحدث أمام الناس ولم يكن يمنح اللقاءات الفردية إلا لأشخاص قلائل وفي حالات نادرة جدا ، ولم يكن يريد مريدين ولا أتباعا ومع ذلك يزداد حوله الناس خاصة عليتهم، وتزداد حوله أحاديث الإعجاب بين الناس كل مما يليه. ولعل لذلك أسبابه … وخلال قراءتي لكتاب “إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي في مجلده الأول، في الباب السادس، في بيان علماء الآخرة وعلماء السوء، زاد يقيني وثقتي في محنض بابه (علمه وورعه وصلاحه) ومدتني أكثر من ذلك بالأدلة الشرعية من خلال توضيح وذكر صفات علماء الآخرة، وقد تنزلت عليه تلك الصفات كأنما خلقت له حيث يقول الكتاب في علماء الآخرة: ألا يطلب الدنيا بعلمه وإن أقل درجات العالم أن يعرف حقارة الدنيا وخستها وكدراتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان …وأن لا يخلف قوله فعله بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو عامل به، وأن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات، وأن يكون غير ماثل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث، وأن يكون مستقصيا عن السلاطين فلا يدخل عليهم البتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلا، بل ينبغي أن يحترز عن مخالطتهم وإن جاؤوا إليه، وأن لا يكون مسارعا إلى الفتيا، وأن يكون أكثر اهتماما بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة، وأن يكون شديد العناية بتقوية اليقين، فإن اليقين هو رأس مال الدين”.
لقد قال لي العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله مرة في معرض الحديث عن محنض بابه: “العلم عند ذلك الراجل الهارب ابراصُ”.
وقال لي العلامة محمد الحسن ولد أحمد الخديم مرة عندما مررت به عائدا من زيارة لمحنض بابه: “أعطني اليد التي سلمت عليه بها لألتمس بركتها”، وأردف: “تقطع المسافات للنظر في وجه ذلك الرجل “.
وقد صحبت محنض بابه أنا والحاج ولد المشري أثناء تحضير الأخير لمؤتمر إسلامي للم الشمل الديني، إلى بدَاه ولد البصيري مرة، وكان لقاءً عجيبا سأل فيه محنض بابه سؤالين أحدهما عن أيهما أفضل: خديجة بنت خويلد أم هاجر؟ وكررها عليه وهو يهز يده، فقال له بدَاه: “إلهيه عنّي مثقلك، ما نعرف”. ولعل السر من السؤال مرتبط بهاجر كجدة للرسول وخديجة كزوجة له وأم الزهراء، ربما ..وكانت هذه المرة الثانية التي يكرر عليه نفس الجواب في حادثة سابقة .. وكان السؤال الثاني ذلك الوقت وباطنه فيه شيء لم أدركه أيضا إلا بعد محاضرة ألقاها بداه أيامًا بعد ذلك …فقد سأله محنض بابه عن أغرب شيء قد شاهده في حياته وكان يشاع حول بداه حينها أنه صار أقرب للوهابية، فقص بداه كرامة قد حصلت له في الستينيات، وعندما انتهى من القصة قال له محنض بابه في اندهاش وتنبيه: “بدّاه هاذَ شِ اتسمِّيه؟”. كررها مرات …وفي الأسبوع الموالي ألقى بدّاه محاضرة تحت عنوان “ما جاز معجزة لنبي جاز كرامة لولي”. ويقال انه من ذلك الوقت لم يعد في نفس المسافة من الوهابية .
كما كتب اباه ولد عبد الله، وهو من هو في علمه وورعه، تقريظا لكتاب محنض بابه في البلاغة، قال فيه: “وبعد فقد اطلعت على بعض مؤلفات العالم العلامة إبن العلماء العاملين، المعرض عن الدنيا وأهلها، المرشد بحاله ومقاله، الغريب في زمانه وطوبى للغرباء في زمان الفتن وقلة الاعوان على الخير، سيدي الشيخ محنض بابه بن محمذن بن حامدن” ..
وفي تصريح للعلامة حمدًا ولد التاه، لموقع مراسلون، عقب لقائه بمحنض بابه، قال: من يريد أن يوجز حقيقة محنض بابه يقول إنه خريج المخظرة الخضرية التي يقول عنها الخضير نفسه كما ذكر عنه القرءان لموسى “إنك لن تستطيع معي صبرا “. وهكذا فإن الناس لا يمكنهم أن يرافقوا محنض بابه في طريقه، حتى العلماء، حتى الفقهاء، حتى طلبة العلم، لإن الرجل يعيش في عالم تام من الغيبيات والصلاح والعبادة والبعد عن الدنيا
وهنا لا يسعني إلا أن أختتم ببعض أبيات بابه ولد الشيح سيديا في حق الشيح سعدبوه:
حاسديه رويدكم قد تعبتم ….قصروا عن مداه يا حاسديه
وانتقاص تشبيه غير شبيه .. في العلا كلها بغير شبيه
ينتهي القول دون مبلغ حبر.. كامل الفخر في الورى منتهيه
كان ذلك غيض من فيض. حتى أني لم أجيد الوقت الكافي للإدلاء بشهادتي عن أحداث عايشتها بنفسي معه، ولا بعشر ما حكى علي الثقات مما عاشوه معه. والحقيقة أن أهل هذا البلد “انتفشُ امع محنض بابه”، أطال الله في عمره ونفعنا ببركته وعلمه.
محمد محمود ولد بكار