أين الرئيس؟.. محاولة حاضرة للرد على تساؤلات حائرة../محفوظ الحنفى
ما تزال الأخبار عن صحة الرئيس محمد ولد عبد العزيز وحقيقة ظروف ومكان إقامته في الخارج شحيحة ومتضاربة بشكل مثير للحيرة والاستغراب.
وتكاد كل الروايات المتداولة في هذا الشأن تتفق على ما ميزها جميعا من انعدام شروط اليقين، والافتقار للمصادر المضبوطة التي يمكن الاطمئنان لصحة ما يصدر عنها، أو ما يزعم أنه صادر عنها..
فكل خبر يتم تداوله هذه الأيام هو خبر منسوب لمصادر مجهولة ونكرة: (مصر رسمي، مصادر عليمة، مصادر عائلية، مصادر سياسية)، أو هو استنتاج خاطئ من مقدمات خاطئة، أو من مقدمات صحيحة لكنه لا يترتب عنها بالضرورة ما يستنتج منها بأسلوب يوحي بأن شد انتباه القارئ هو الغاية الوحيدة من إعداد “تحليلات” تفتقر لأهم شروط الموضوعية والصرامة المنطقية!!
من ذلك مثلا ما امتلأت به مواقع الأخبار من تكهنات عن خطاب العيد الذي سيلقيه الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ رغم أنه لا يوجد في البلد أي تقليد سياسي رسمي بتوجيه خطاب رئاسي بمناسبة عيد الأضحى المبارك.
ومنه كذلك؛ ما ذهبت إليه بعض المواقع من استنتاجات غريبة تقول بأن الوكالة الموريتانية للأنباء خرقت القوانين السارية، وذلك عندما نشرت بيانا صادرا عن رئاسة الجمهورية يعلن أن يوم غد الأحد سيكون عطلة معوضة، بحجة أن العطل المعوضة تتم برسوم رئاسي وليس ببيان؛ دون أن تعرف أن المراسيم الرئاسية يتم الإخبار عنها بواسطة بيانات رئاسية، ودون أن تعرف أيضا أن هذه ليست هي المرة الأولى التي تعلن فيها وسائل الإعلام الرسمية وبالنص الحرفي عن عطلة معوضة حسب “بيان صادر عن رئاسة الجمهورية”.. لكن هذه الصيغة لم تلفت انتباه أحد خلال السنوات الماضية؛ لأنه ليس لديه ما يريد ترتيبه عليها من استنتاجات تخدم الدعاية السياسية ؛وليس الحقيقة الموضوعية!!
ولا شك أن جهل أغلب “المحللين الإخباريين” لهذه الحقيقة هو ما جعلهم يستنتجون من الرسالة الخطية التي وجهها الرئيس للشعب الموريتاني، أن حالته الصحية حرجة، بدليل أن “خطاب العيد” لم يكن مسموعا ولا مصورا!!
مع أنه لم يكن هناك في الواقع “خطاب للعيد”، وإنما رسالة رمزية ربما اختار الرئيس عيد الأضحى مناسبة لها من أجل طمأنة مواطنيه وشكرهم على التعاطف الذي أبدوه معه!!
ونعتقد أنه لو كان الرئيس وجه “خطابا” بالشكل المعهود في الأعياد الرسمية (الاستقلال، الفطر، حلول شهر رمضان)؛ لاعتبر ذلك دليلا أكثر معقولية على توتر الوضع السياسي في البلاد وعلى قلق الرئيس ومخاوفه جراء ذلك الوضع، بشكل فرض عليه الخروج على الأعراف والتقاليد البروتوكولية المعهودة بتوجيه خطاب رئاسي في غير مناسبة معهودة من أجل إظهار حضوره في مشهد توهم آخرون أنه خرج منه إلى غير رجعة؟!!
وشبيه بذلكم ما ذهبت إليه بعض مواقع الأخبار من حديث “واثق” عن أن إشراف الوزير الأول على صلاة العيد هو دليل قاطع على نهاية الرئيس وسوء حالته الصحية؛ وكأن ثمة إجماعا على مسلمة أو بديهية تؤكد على أن الرؤساء لا يمرضون في أعياد الأضحى؛ وإن حل عيد على رئيس مريض قبل أن يشفى فهو دليل على استحالة شفائه وتردي أحواله!!
ولا شك أن محاولة تقديم شيء جديد في هذا الموضوع هي حالة صحية وطبيعية لدى وسائل الإعلام؛ لكن محاولة اختلاق الجديد و”السبق الصحفي” بكل حيلة وكل سبيل حتى لو تطلب الأمر الخروج على قواعد “العلم” والمنطق والمعقول، هو أمر لا يشي بالنضج الصحفي ولا بالمهنية في التحليل والإخبار.
ومن ذلك؛ العنوان اللافت الذي ظهر في أغلب مواقع الأخبار عن “تجاهل العاهل المغربي لإصابة الرئيس في رسالة التهنئة بعيد الأضحى”؛ حيث إن العامة وحدهم هم من يمكن أن يثير استغرابهم عدم إشارة تلك الرسالة لتلك الإصابة؛ أما الصحفي الحق فلا شك أنه يملك حدا أدنى من الثقافة العامة تجعله يعرف (على الأقل) أن الرسائل التي تصدر عن رؤساء الدول في مناسبات ثابتة كالأعياد تكون صيغتها ثابتة وموحدة بشكل لا يهتم فيه بمتغيرات الأحوال والظروف.. والذي يقرأ رسائل العاهل المغربي إلى رؤساء دول اتحاد المغربي (مثلا) بنفس المناسبة لن يجد فرقا بين تلك الرسائل سوى في أسماء الدول ورؤسائها!!
وهذه كلها أخطاء قد تجد مبررها في جوانب القصور المهني التي تعانيها صحافتنا المستقلة في ظل انعدام التكوين والتأطير، فضلا عن فوضوية ممارسة المهنة دون قيود ولا ضوابط، لكننا وجدنا من الأخطاء ما لا يمكن تبريره أو حمله على أي محمل مقبول..
إنها أخطاء بحجم الخطايا؛ حيث تعتمد الكذب المتعمد والمغفل لاستثارة القارئ والضحك عليه في آن معا!!!
من تلك الخطايا ذلك “السبق الصحفي” الذي طالعنا به أحد المواقع الألكترونية نقلا عن “مصادره الخاصة” والمتضمن خبر “لقاء خاص” جمع في سرية تامة بين حرم رئيس الجمهورية وسفيرنا في باريس وتم خلاله التخطيط لكي يتولى معالي السفير السلطة الفعلية في البلاد ورئاسة الوزراء في هذه الظروف..
انظروا: لقاء شديد الحساسية والسرية والخطورة، بين شخصين فقط؛ تتوصل بخبره مصادر ذلك الموقع الألكتروني وتزودنا بكل تفاصيله..
فمن هي تلك المصادر؟؟ بالتأكيد أنها إما أن تكون السيدة الرئيسة أو معالي السفير، أو هما معا يكشفان سرهما قبل بلوغ هدفهما!!
ومع كل ذلك؛ فإن التحقق والتحقيق في حقيقة الوضعية الصحية للرئيس واحتمالات عودته قريبا إلى أرض الوطن هي مواضيع تستحق الاهتمام، خصوصا في ظل “خواء” وسائل الإعلام الرسمية من أي مواكبة لهذا الملف وتطوراته المستقطبة لاهتمامات كل الموريتانيين، وإن كنا قد نجد لذلك “الخواء” أسبابا معقولة ومفهومة قد لا يكون هذا مجال بسطها.
فمن أين يمكننا الحصول على مقاربة للوضعية تعطينا تصورا أكثر واقعية وصدقية للحالة دون الوقوع في شرك التخمينات وأوهام المغالطات؟
نعتقد أننا كلما ما ابتعدنا عن المصادر الباريسية والفرنسية واتجهنا لاستنطاق مؤشرات الواقع الموريتاني الداخلي؛ كلما كنا أكثر قربا من تحصيل إجابة أكثر مصداقية لأهم التساؤلات الحائرة المتداولة هذه الأيام.
فماذا يقول الواقع الموريتاني بعد إصابة الرئيس؟
إن الواقع الظاهر والجلي يقول لنا بأكبر قدر من الوضوح: إنه لا جديد في البلد سوى أن الرئيس أصيب، وأنه غادر إلى فرنسا، وأن شعبه ملهوف بالتساؤل عنه.. أما عدى عن ذلك فلا جديد: المؤسسات العمومية تسير كما عهدناها لا أفضل ولا أسوأ.. الحكومة وأعضاؤها يمارسون نفس المهام ويقومون بذات الأنشطة؛ وكأن شيئا لم يحدث.. الوضع الأمني العام مستتب ولا مظاهر أمنية استثنائية أو غير مألوفة.. لا حديث عن تحركات أو لقاءات أو اجتماعات غير معهودة للقادة العسكريين ولا القادة السياسيين، لا نشاط يلفت النظر لمراكز القوى والتأثير السياسية والاجتماعية..
وبالجملة؛ فإن أوضاع البلاد العامة بعد إصابة الرئيس؛ هي ذاتها قبل إصابته.. باستثناء سيل الشائعات، والتخمينات، والكتابات الغرضية المرتبطة بالحادثة، والخالية من أي معطيات واقعية؛ أو إثباتات منطقية يركن إليها..
فما معنى كل هذا؟؟
في ما له علاقة بموضوعنا، يعني كل هذا (على الأقل) انعدام الشعور بالقلق على صحة الرئيس داخل الأوساط العليمة والقائدة في الدولة، وقناعتها بأن النظام القائم لم يتأثر ولن يتأثر بإصابة الرئيس، وأن هذا الأخير عائد دون ريب لمواصلة قيادة البلاد؛ وأنه بالتأكيد على اطلاع كامل بتفاصيل كل ما يجري في البلاد، وأنه يشرف عليه إشرافا مباشرا وكاملا.
نعتقد أن أبسط تحليل منطقي سيصل ببساطة لهذه النتيجة؛ إذ كيف لبلد أن يدخل رئيسه في مرحلة تهدد بإعاقته أو تبعده يومين كاملين عن سلطة الإدارة والقرار دون أن تدخل لوبيات السلطة والنفوذ حالة من الاستنفار والتوثب والحراك المكشوف حماية لمصالحها، أو بحثا عن مواقع في الترتيبات الجديدة والأوضاع الجديدة التي حاول الكثير من المواقع إقناعنا بأن البلد دخلتها دون تقديم دليل سوى الكلام المرسل والتخمينات المفتقرة لأبسط شروط التأسيس العقلي والبناء المنطقي..
حتى ما أفاض البعض في الحديث عنه من لقاءات بين دبلوماسيين غربيين وقادة في منسقية المعارضة؛ تحضيرا ل”مرحلة ما بعد عزيز”؛ لم نجد فيه ما هو أفضل أو أكثر وضوحا وإقناعا من قول الكاهنة: “أف، وتف، وجورب، وخف”..!!
نعم؛ فقد أصر الدبلوماسيون الغربيون وقادة المعارضة على التذكير بأن كل تلك اللقاءات كانت مبرمجة قبل حادثة إطلاق النار على الرئيس؛ مقابل إصرار تلك “التحليلات” على القول إن الأمر يتعلق بمسعى فرنسي وغربي لضمان انتقال سلس للسلطة في موريتانيا “من صديق إلى صديق أو من هو أكثر صداقة”.. وكأن الموريتانيين برئيسهم، وموالاتهم، ومعارضتهم، ومؤسساتهم العسكرية والسياسية والأمنية مجرد دمى تحرك بأزرار اصطناعية من داخل مطابخ السياسة الفرنسية!!
وهو موقف لا تخفى تهافتاته المنطقية؛ فضلا عن عفونته الأخلاقية!!
إن كان ذلك كذلك؛ فأين الرئيس، ومتى يعود؟
لا جواب مفصلا لدينا، لكن الأقرب للمعقول وربما اليقين، هو أن الرئيس خرج من المستشفى فعلا، وأنه يعيش في فترة نقاهة لاستعادة كامل عافيته وصحته.. وإننا لنعلم أن في كل الدول، وفي كل المؤسسات العامة والخاصة، السيادية وغير السيادية، بشرا يتمتعون بنفس الحقوق الآدمية، وإن من بين تلك الحقوق حق “الراحة الطبية والنقاهة بعد العلاج”، وأن الأطباء المعالجين هم وحدهم من يحق له تحديد مدتها وأنجع طريقة لقضائها..
ونظن (وليس كل الظن إثما) أن عودة الرجل ستكون قريبة، وربما أقرب مما يتصوره كثيرون؛ خصوصا أننا لا نعتقد أن حزبا حاكما يستطيع المغامرة بسمعته وثقته ومصداقيته بحيث يبدأ حملة تعبئة واسعة استعدادا لاستقبال الرئيس دون أن تكون لديه معلومات مؤكدة عن قرب تلك العودة، وحتى وإن كان لا يعلم متى ستكون تحديدا، أو هو يعلمها ولكنه غير مأذون في الإفصاح عنها حاليا.. الله أعلم..
هكذا بدت لنا الأمور بمنطق أردنا له أن لا يتأسس على الشائعة ولا الرجم بالغيب..
والله من وراء القصد، وهو “يهدي السبيل”..