جولة استطلاعية في معاقل التابوهات المحلية/سيدعلي بلعمش
الزمان أنفو- بسبب حدِّيَّتي في المواقف و عدم مجاملتي في المقدسات الوطنية، كنت دائما من أقل الناس تداولا للمواضيع الاجتماعية عالية الحساسية ، خوفا من الانزلاق في مرارة الحقيقة ؛ فلا أحد في هذا البلد يريد أن يسمع الحقيقة و لا أحد فيه يتجرأ على قولها ..
أصبح الجميع يلوي عنق الحقيقة لمصلحته الخاصة و يتاجر بالمواقف من أجل مصلحته الخاصة و يركب أي موجة عابرة من دون أن يدري أين سترميه ، معتقدا أنه بمثل هذا الترنح سيصبح مثقفا أو تقدميا أو ديمقراطيا ، من دون أن يدرك أن هذه الحرباوية لن يصنع منها و لن تصنع منه غير الإساءة إلى الثقافة و انحراف التقدمية و سخافة ديمقراطية العامية..
لا أحد يستطيع أن ينكر أنه كان لنا نصيبنا (المتبجح أحيانا)، من أمراض التخلف و مخلفاته و مخلفاتها و هو ما يشكل اليوم مطبات تعثر استقرار مستقبلنا ، سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا .
كل شعوب العالم الذكية تجاوزت عقدة الاستعمار بكل آلامها و العبودية بكل بشاعاتها و الحروب البينية و الأهلية بكل مآسيها ..
وحدهم من قرروا السير إلى الأمام مشيا على جراحهم ، هم من اجتازوا آلام الماضي بنجاح و أمَّنوا مستقبلا مريحا لأجيالهم القادمة..
و وحدهم من يعيشون على نبش آلام الماضي من ما زالوا يتخبطون في ويلات مآسيه ..
لقد وَقَعت موريتانيا في مَصْيَدة جَهَلةِ التاريخ و أدعياء الثقافة و سماسرة الأزمات و غوغاء الديمقراطية و حبائل شراك النسخة البريطانية للإسلام (الإخوان و مجرتهم الإرهابية : القاعدة و داعش و الجهاد…) .
لم تعرف أي من الدول التي وقعت في نفس المصيدة (الصومال ، السودان ، اليمن ، ليبيا…) ، كيف تخرج منها و ظلت مشاكلهم مستعصية على كل الحلول المحلية و الأممية حتى اليوم.
و رغم وقوع موريتانيا في نفس الفخ و مُشاغلة نخبها بنفس الألاعيب و أنظمتها بنفس العراقيل ، إلا أن ثقتي كاملة (و أعرف جيدا أنه تأكيد مزعج للكثيرين و مضحك للكثيرين)، أن الموريتانيين ، بذكائهم الفطري الخارق الذي ؛ أخرج “ميفيرما” من البلد بمعجزة،
و استبدل الفرنك غرب إفريقي (cfa) بعملة وطنية هي اليوم أهم رموز سيادتنا،
و أعلن الحياد في قضية الصحراء مع وجود 11 ألف جندي مغربي على أراضيه،
و أنهى التعاون العسكري الفرنسي و طرد ضباطهم من قيادة الأركان في أصعب لحظة من تاريخ البلد،
و خرج مؤامرة 89 مرفوع الرأس، رغم مؤازرة فرنسا و بلجيكا و المغرب للجانب السنغالي المعتدي،
سيخرُجونها كالشعرة من العسل ، لأن من يتمنون سقوط موريتانيا و يراهنون على سهولته، يجهلون التاريخ . و لن يصنع التاريخ من يجهله :
– كيف عجزت دول غرب إفريقيا حتى الحين عن التخلص من لعنة (cfa) ، بعد خمسين سنة من ثورتنا على أكثر ما يغضب فرنسا و يدوس على العصب الحساس لاقتصادها؟
– من كان يتصور أن تطرد موريتانيا ليلا، تحت وابل حجارة غضب شبابها ، سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في نواكشوط ، بعد نكسة 67 ؟
يخطئ بولار السنيغال (صايدو كان ، كان حاميدو بابا، صامبا تيام و حشود هجرتهم المنظمة منذ الاستقلال حتى اليوم في إطار بيعتهم السرية مع فرنسا (التمسك بالفرنسية كلغة رسمية للبلد مقابل دعم فرنسا لانفصالهم و خلق كيان لهم في بلد يشكلون فيه أصغر أقلية على خارطة تواجدهم في دول الجوار) ، إذا كانوا يعتقدون أن موريتانيا أضعف حلقة في المنطقة . و يخطئون أكثر إذا كانوا يعتقدون أنهم يمكن أن يبنوا عليها قيادة أركانهم و قاعدة انطلاقهم في كل الاتجاهات في المنطقة ، كما يحاولون (حالمين) ، منذ كذبة “الزنجي المضطهد”.
إلى متى يظل “الزنجي المضطهد” في السنيغال و مالي و غينيا (…)، يؤم حائط مبكاه في موريتانيا كلما ضاقت عليه الحياة في موطنه ، كما لو كانت موريتانيا بلا رب يحميها ؟
لا يمكن فهم مايحدث في موريتانيا ، من دون إدراك أن فرنسا (مهما أظهرت من مواقف تكتيكية ، لا تفسر غير رسوخ باعها في المجال)، هي من تقف (منذ أصبحت دولة) على الخط الأمامي للعداء للعرب و المسلمين.
ما عدا الأسر البولارية التي كانت تدفع “الضرائب” للمستعمر كبقية القبائل الموريتانية (و كل أسمائهم موجودة في الأرشيف الفرنسي كبقية مكونات المجتمع)، كل البقية وافدة من دول الجوار و متجنسة بطرق غير شرعية في الغالب و لا تلتزم فوق ذلك كله بشروط التجنيس و لا شروط المواطنة و لا حتى أدنى حد لشروط التعايش السلمي و التمازج المتحضر..!؟
حين انتهت مهمة أول سفير لموريتانيا في باريس ، عاد إلى وطنه (السنيغال) و عُين فيه وزيرا..!
لقد كانت أخطاء المختار ولد داداه في هذا المجال أكثر من أن تحصى و أبشع من أن توصف بغير الخيانة العظمى (سفراء ، وزراء ، ضباط سامون في الجيش و الأمن ، نواب ، عمد ، مستشارون و حتى معارضون للنظام يطالبون بفرض لغة أسيادهم بدل اللغة الرسمية للبلد…) !؟
لن أسأل بتعجب من كان المختار ولد داداه كما يملي الموقف ، لأنني أدرك (مع احترام آراء الآخرين ) أنه ما كان يمكن أن يكون أكثر من حاكم فرنسي مثل جل جيله من “رؤساء” غرب إفريقيا.
كل الألقاب التي أطلقت على ولد داداه (أبو الأمة، ابنها البار، مؤسس الدولة…)، كانت مجرد محاولات لنفي إخفاقاته و أخطائه الفادحة : كل مشاكل موريتانيا العصية اليوم من دون أي استثناء ، تعود إلى مرحلة التأسيس. و لا يمكن أن يكون الرجل بهذا العيار وتكون أخطاؤه بهذا العمق . و إن كنت أعي جيدا أن عصبيته لا تترك مجالا لأي رأي مخالف لرأيهم فيه .
رحم الله ولد داداه و غفر له و تجاوز عنه.
و قد استفادت المافيات الانتهازية في البلد في العقود الأخيرة ، من وجود أحكام مستهترة ، ناقصة الشرعية ، تبحث عن معارضة صورية تبيع كل شيء و مستعدة للعب كل دور مدفوع الثمن .
كما ساهم ضعف تكوين المعارضة الوطنية و قصور فهمها ، في اختراق صفوفها من قبل هذه المافيات . و كانت حتى عاجزة عن تحديد أي تعريف للمعارضة و أي معايير للشرعية النضالية.
هذه المرحلة، رغم صعوبتها ، تظل بالغة الأهمية ، لأننا أصبحنا الآن نرى كل عيوبنا و نواقصنا و أخطائنا بوضوح ؛ على مستوى النظام و المعارضة و الشعب .
و أدركنا بوضوح من تَخدُمهم هذه الفوضى و يعملون على تعميقها و من تهدد استقرارهم و يرفضون استمرارها .
– عرفنا فوق هذا و ذاك ، كيف نكشف جرائم فرنسا في المنطقة لإفشال كل أوراق ضغطها ؛ لتصبح علاقتنا بها تخضع لتبادل طرح الشروط.
– عرفنا كيف نفضح تواطؤ أجهزة الأمم المتحدة مع قوى الشر في الأرض، لإفهامها (عند الحاجة)، أنها ليست أفضل من يعطي الدروس في الأخلاق..
– عرفنا كيف نخجل البنك الدولي و صندوق النقد الدولي من خلال جرائمهم في العالم الثالث و تقاريرهم المزورة ، حين يحاولان ممارسة التحرش بكرامتنا..
– و عرفنا أكثر و أكثر كيف نتعامل مع “لعبة الأمم” و متى نعترض موجة توازنات القوة و متى نغطس في وجهها ..
العالم يتشكل من جديد و لن يعبر إلى بر الأمان من يمتلك المال و لا من يمتلك القوة و لا من يؤسس أسطورته على جثث ضحايا القنبلة الديموغرافية و إنما فقط من يمتلك الحقيقة و المعلومات و يفهم أسرار و ميكانيزمات اللعبة.
لا أريد الحديث عن الديمقراطية لأنه يعيدنا إلى مربع الجدل العقيم كما يُراد لنا (الديمقراطية مثل كرة القدم ؛ يعتقد الجميع أنه يستطيع ممارستها). أريد الانطلاق إلى الأمام من خلال اقتحام أهم ما يراد من الديمقراطية التي لم نلاحظ تعثرنا فيها بما لا يعنينا من ثقافة الشعوب الغربية الساخرة من ثقافتنا و المزدرية لعقولنا.
- علينا أن نكتب بالخط العريض على أعلى جدران وجداننا “لا إكراه في الوطنية” ، لمن يفضلون أن يموتوا تسكعا على أرصفة التشرد الغربية..
- علينا أن نحزم أمرنا و نتوكل على الله و لا نلتفت خلفنا .
الدولة وحدها هي من ترعى الجميع ..
الدولة وحدها هي من تدافع عن الجميع ..
الدولة وحدها هي من تحمي الجميع ..
لا بديل للدولة و لا وسيط بين الدولة و مواطنيها و لا أحد يتهم الدولة بالتقصير في حق مواطنيها.
ذلك ما يجب إفهامه اليوم للجميع.
و تلك هي الدولة و حين تقوم بواجبها حقا بصدق و مسؤولية ، ستقطع لسان كل دعي و الحبال في أيادي كل سماسرة حقوق الإنسان المكذوبة.. - العبودية مُجرَّمة في القوانين الموريتانية و لها محاكم متخصصة . انتهت قصتها في البلد: على من تمارس عليه العبودية اليوم ، أن يشتكي أو يقبلها ؛ تلك مشكلته. لم يعد لأي آخر أي دور في الأمر.
- مخلفات العبودية مجرد جزء من مخلفات الفقر و الجفاف و الغبن و التخلف و سوء الإدارة التي عرفتها البلاد و لا يمكن معالجتها و لا إثارتها خارج هذه المفاهيم الكفيلة بحلها إذا كانت جادة و صارمة و وجدت ما تحتاجه من وقت و من رغبة في تجاوزها ..
- ربط الإرث الإنساني بالعنصرية مقلوب المفاهيم في الواقع : كان انقلاب 87 عنصريا (ضد البيظان أساسا (بيضا و سودا) و ضد بقية القوميات بشكل أقل)و كانت ردة فعل النظام مشابهة لانقلاب 16 مارس و غيره من الانقلابات ، أي يمكن وصفها بكل أنواع الخشونة و أي شيء آخر غير العنصرية التي كان يمثلها الآخر في أبشع تجلياتها . و كانت و لا تزال حتى اليوم مطالب أصحابها عنصرية حتى النخاع حين حين يرفضوا بوعي و إسرار أي ذكر لضحايا بقية الانقلابات المشابهة في كل شيء غير التركيبة العنصرية..!؟
هذه المفاهيم المقلوبة يجب توضيحها للرأي العام و التعامل معها بتشخيص أدق .. - نعترف بجل أمراض التخلف التي يعاني منها مجتمعنا لكن العنصرية لم توجد في موريتانيا قبل افلام و إيرا . و هي عنصرية معلنة بأعلى درجات الجهل و الوقاحة و حقارة أصحابها . و قد تعامل معها النظام و بقية مكونات المجتمع بأعلى درجات ضبط النفس و المسؤولية بشهادة كل العالم . و اليوم أصبحت كل خيارات التعامل معها مفتوحة بعد فضح أسباب و دوافع أصحابها.
العنصرية أبشع و أقبح من أن يستطيع حاملها إخفاءها..
العنصرية أسوأ من أن يستطيع حتى العدو إظهارها مثلما يتبجح بها بيرام و تيام صامبا ..
العنصرية مخبأ للجهل ، لا يرضاه غير مفلس حد الانتقام من نفسه.
لا أحد في البلد يطالب بمطاردة السحرة و لا بقطع أرزاق الناس و لا بالزج بهم في السجون .
نريد لمجتمعنا حياة رخاء و تواد و انسجام.
لكن، ما لم ينظف النظام واجهته و خلفيته من مرضى العنصرية و بارونات الفساد، لن يكسب ثقة المجتمع بأي معجزة .
مشكلة النظام اليوم هي أزمة الثقة مع المجتمع. و عليه فقط أن يقرر أن يختار بين شعبه و مفسديه و المتبجحين بالسوء ، قبل أن يعدل الشعب عن تفويض هذا الخيار.