العرض المسرحي كما هو معروف يقدم لنا حياة أخرى تختلف في تفاصيلها عن نظائرها في التلفزيون او الاذاعة او السينما . وايضا عن الحياة الواقعية ، رغم انه هناك الكثير من التماسات بين كل الوسائل الفنية ببعض ، ولكن المسرح به شيء يختلف ويشكل الفرق عن بقية الفنون الأخرى ، به آنية في الفعل الدرامي. فالفعل الدرامي يحدث الآن امام المتلقي (المتفرج ) فعل حي ،ن حقيقي ، نابض ، متحرك ، وهذا ما يميزه المسرح عن بقية الفنون الاخر يلانه حاضرا حيا ام الجمهور.
هناك الإرتباط بين المتفرج والمسرح ، وهذا الارتباط جعل حميمية ناتجة من التجاور بين الممثل والمتلقي والفعل المسرحي بمعني هذا الارتباط وهذه الحميمية هي المسؤولة عن فعل التعاطف.
هذا الفعل ا لذي من شانه ان يجرنا الي الخوف والشفقة . وكما قال ارسطو في (فن الشعر قديما ، وهو ما يقل تدريجيا من وسيلة الي اخري ، فقط هذه هي الصفة الوحيدة التي تميز فن المسرح عن بقية الفنون.
في مقال مختصر لإبراهيم الحسيني عن موت العرض المسرحي يكتب :
لم يعد القول المكرور المسرح ابو الفنون جميعا ، قولا له معني فما يمكن ان نطلق عليها هذه لمقولة هو فن السينما ، لأنها تحوي بداخله كل الفنون والخدع ، تلك لتي لا يستطيع المسرح ان يجاريها ، فالفضاء المسرحي محدود جدا ،وإمكانياته مهما تقدمت تكنولوجيتها محدودة ايضا ،ولهذا لا يمكن نجاح كل المذاهب والاتجاهات الفنية داخل هذا الفضاء المسرحي ، فلا يمكن مثلا تصوير قطيع من الخيول يجري علي شاطي نهر الا اذا لجاءنا للسينما او للإيحاء بأية وسيلة ، وكذلك يمكننا تصوير ادق الانفعالات ، الا اذا لجاءنا ايضا للوسائل مساعدة كالموسيقي، الاضاءة ، الحركة.
نخلص من هذا الي انه لا يمكننا تقديم الحياة لطبيعية علي خشبة المسرح ، يجب ان نقدم حياة اخري له علاقة بمفرداتها المسرح اكثر من علاقتها بمفردات الحياة الواقعية . هذه الحياة الفنية التي نحن بصدد رسم ملامحها يجب ان تكسر كل حدة النصوص التقليدية المعروفة . ولكي نصل اليها بشكل مباشر يجب ان نسال انفسنا في البداية سؤالا : لماذا تجاوزت للحظة الرمزية الراهنة في فنونها وآدابها المذاهب والاتجاهات الكلاسيكية ، الواقعية ، الطبيعية ، السريالية ، العبث ، الرومانسية ، التأثيرية ، الحداثة وما بعدها ؟ الاجابة بسيطة وهي خاصة بتغير الزمن وصيرورته ، فلا يمكن لاحد ان ينزل الي النهر وفي المكان نفسه مرتين .. فانت حين تقرأ الان هذه السطور شخص اخر غير الذي تسلم المجلة منذ لحظات ، الاختلاف هنا مرجعه الي الزمن ، المزاد ، الجو المحيط..
كل تفاصيل اللحظة المعاشة بدء من درجة الحرارة حتي لون الزي الذي ترتديه .. اذا انت متجدد ولو علي مستوي شغلك لحيز متغير متجدد من الكون ، وعليه فالحياة التي تحيط بك وتحيا داخلها متجددة هي الأخرى وتجددها الدائم ناتج عن تجدد مفرداتها ، والفنون هي واحدة من مفردات هذه الحياة وهبها الله بنسب للبشر.
واليوم علي ظل المتغيرات الهائلة في وسائل الاتصال والتكنولوجيا والمفاهيم والفلسفات اصبح الانسان ممزقا ومخترقا من كل الاتجاهات ، العقل الانساني يعمل بسرعة رهيبة ، ومع هذا فهو لا يستطيع احتواء كل افاق التكنولوجيا التي تلقي كل صباح امامه :. انه في لحظة يشعر بالألية ، وفي اخري يشعر بالعدم او بالخواء او بضرورة الجري واللهاث وللحاق بالمعرفة ، احيانا يؤذي هذا الجري واللهاث الي تسييد النمط الاستهلاكي ، وفي احيان قليلة اخري يؤدي عند بعض الناس الي نوع من التفكير الجانبي فيحول نفسه من نمط الاستهلاك الي نمط الانتاج. من هذا النوع الاخير الفنان، ذلك الانسان القادر علي اختواء مفردات الكون واعادة صياغتها في عمل فني ، واقصد هنا تحديدا الفنان لا طفيلي الفن.
والصياغة التي نقصدها هي العمل الفني / المسرحي هنا . هذا العمل الذي يستطيع تجاوز اللحظة الزمنية والحضارية الراهنة ليكون شاهدا عليها . ومستشرفا لأفاق المستقبل في ظل هذه التغيرات التي تحكم العالم والتي اصبحت السمة الوحيدة له ، اذا فسمات هذا العمل لابد وان تكون مختلفة في مفرداتها عن الاعمال الفنية السابقة عليها ، فلا يعقل ان نقدم الان مسرحا لنحكي حواديث عن رجل ولد ، تزوج ، سافر ، جاء ، اكل ، شرب ،مات ، ا؟ الحياة نفسها لا تجري علي هدا الشكل التتابعي المرتب ، الحياة متداخلة بأجزائها ومفرداتها تداخلا يصعب فكه ، كما ان الثقافات هي الأخرى متداخلة ومنصهرة رابنا في ذلك او لام نرغب بطريقة يصعب ،نبل يستحيل معها ان نجد ما يمكن ان نسميه بالنقاء النوعي للثقافة ، ولذا فعلينا الاستفادة من كل الثقافات والخبرات الانسانية في تشكيل وعي المشهد المسرحي الذي نحن بصدد كتابته او اخراجه . وعليه فالمشهد المسرحي الحديث من الممكن وحسب اختيارات الدراما ان يحتوي علي السينما، الرواية ، الراوي ، الإذاعة ، التشكيل ، الرقص الحديث، الاضاءات بصورها وتجلياتها المختلفة .. فالمسرح نوع خاص جدا من الطقوسية التي تستوعب وتوظف كل ما تعارفنا عليه من الطقوس الكونية والناسوتية . ا ذا فنحن نستخدم مفردات هذا العصر المادية والفكرية في صناع ابداع المشهد المسرحي ، وعليه فانه وفي زمن قادم ستكون هناك مفردات عصرية جديدة اكثر تعقيدا او اكثر سهولة .. او .. او ..
أيا كانت هذه المفردات المستقبلية الجديدة سيكون لها ايضا المشهد المسرحي الجديد الذي يناسبها ،وعلي ذلك فالنص المسرحي التقليدي اصبح الان تراثا . وبالرغم من ذلك لا يمكن نبذه وعدم تقديمه علي خشبة المسرح بل يقدم ولكن مع تخليصه من شروط لحظته الزمنية الماضوية بكل اعبائها ومشاكله الخصاصة ليستطيع المتفرد الان ان يلضم نفسه في جملة مفيدة مع هذا العرض.
والمدقق في النصوص المسرحية التي تكتب الان يجد ان 90/% منها يتخذ الشكل الاتي في الكتابة :
نص ارشادي يصف المكان ودخول وخروج الشخصيات ثم عدد من المشاهد قل او زاد ، هذا لا يهم كثيرا ، ثم حوار طويل ثقيل يفضي في النهاية الي بعض المعلومات عن الشخصيات : حياتها ، مجتمعها ، موقف كل منها تجاه الاخر ، وفي نهاية الامر نجد حدوته ما ينتصر فيه الخير علي الشر ، وهذه الافكار عن الخير والشر وما بينهما هي دائما او في غالب الاخر تكون افكارا جاهزة لدي الكاتب ، انه يريد ان يقول بعض الآراء في المجتمع ، في الناس ،في الحكومات ، في أي شيء .
والاعتراض هنا ليس علي طريقة الكتابة فقط، وانما علي هذه المضامين والافكار المستهلكة التي تدور حولها لنصل في النهاية الي مقولة معروفة مسبقا ، معروفة حتي لدي الشخص العادي جدا ..
واذا لنعترف معا، او لاعترف بمفردي، ان مسرح الحواديث والمونولجات الطويلة التي لا تقول شيئا ، والخطب العنترية التي تصرح بآراء وانتقادات ومفاهيم و.. و.. قد انتهي .. مات ، وعلي ذلك فالعرض المسرحي القائم عليه هو محاولة فاشلة لإحياء هذا الذي مات .. لاعترف ايضا انني في هجومي هذا علي هذه النوعية من المسرح لا اخلو من بعض الحماسة وهدا الاحساس الدفين بالرغبة في التدمير ، تدمير القيم ولكنني لا استطيع تعميم هذا الراي ، فما زلت اقف مشدوها امام اعمال لشكسبير وبريخت وجان كوكتو ، تنسي وليامز / وبالرغم من هذا لست مع القول بقدسية هده النصوص وتقديمها كما كتبت ، بهذا نكون قد متنا هذه النصوص ، ومن ثم امتنا العرض المسرحي المبني عليها.
ما فائدة الزمن الدي مر اذا قدمنا شكسبير كما كان يقدم في عصره ..؟ ام هل الزمن يتوقف بكل تجلياته وتقدمه عند زمن كتابة النص ؟ ام اننا نريد التذكير بشكل النصوص وشكل اخرجها في ازمنة كتابتها؟ ام ماذي علي وجه التحديد ؟ لا احد بإمكانه ايقاف عجلة الزمن ، وكل لحظة زمنية نحيا لها وعيها الخاص بها ، ودائما وعي اللحظة الزمنية يكون حاملا في طياته وعي كل اللحظات التزامنية السابقة عليها ، وقد ازداد هذ المفهوم مع الثورة التكنولوجية الاتصالاتية والاعلامية التي جعلت العالم كله يأتي اليك في كل لحظة ودون ان تطلبه ليلقي بنفسه امامك . وعلي هذا يجب النظر الي المسرح بهذا الوعي المرن المتجدد ، وهذا الراي ليس معناه النظر الي الفن علي انه منتج استهلاكي يجب ان يتبع كل قوانين الموضوع في العالم ، ولم اقصد ايضا مسايرة الاتجاهات الغربية في الكتابة والاخراج فنكتب ونخرج علي غرارها.. بهذا اكون قد دعوت لتسييد نمط العولمة الثقافية . بهذا اكون قد محوت هوتي وثقافتي وتاريخ لأرتدي هوية وثقافة وتاريخا اخر .
انن شروط اللحظة الحضارية الراهنة التي اتحدث عنها لا شك انها تستفيد من حضارات وثقافات وفنون .. و؟ و؟؟ كل العالم ولكنها تمر عبر استفادتها ووعيها هذا بوعي حضارتنا الشرقية . العربية ، ان هذه اللحظة وبهذه المواصفات تعبر عنا اكثر من غيرنا ، تخصنا وتلزمنا اكثر مما تخص غيرنا وتلزمه . ولكن اذا نظر اليها هذا الاخر فانه بالضرورة سيجد نفسه فيها .. انها تلك اللحظة السحرية التي تجعل منك عالميا ، انها نفسها تلك اللحظة التي تجعل من حارات نجيب محفوظ وازقته حارات وازقة العالم كله ..
نخلص من هذا كله الي ان الكتابة المسرحية الجديدة يجب ان تهتم اكثر بفنون الصورة ، بالتكثيف الحواري الشديد ، يدب ان تقال الكلمة في مكانها فتدل مع اللون والحركة والموسيقي والايماءات و. و. الي المعني المطلوب . لا يجب ان نستهلك ثلاث صفحات من الحوار لنتعرف علي عتاب احدهم للأخر ، تكفي نبرة ، وكلمة ، ولحظة اضاءة تكتنفها جملة موسيقي .. لماذا لا يهتم الكاتب المسرح بالمسموع والمرئي داخل النص المسرحي المكتوب؟ لماذا لا يهتم ايضا بأجراء بحث جمالي في اللون ، الحركة ، الصوت؟ او بحوث اخري علي المتلقي ، علي الشم ،علي اللمس ،علي المشاركة بشكل عملي؟ لماذا؟
الاجابة بسيطة ، وهي ان الكاتب المسرحي يهتم بزمن الفعل الدرامي في النص المسرحي كعمل ادبي ، ولكنه يفتقر الي فهم هذا الفعل داخل العرض المسرحي ، وعلي هذا فنحن نجد نصوصا مسرحية جيدة جدا من حيث صنعتها وحبكتها ولكنها تكتظ بأحداث يتناسب ايقاعها وازمنة الافعال الخاصة بها مع ضرورات الصنعة الادبية للنص المسرحي ولا تتناسب مع ضرورات وقوانين زمن العرض المسرحي ، تلك التي تجعل العرض المسرح بأكثر حيوية واشد ايقاعا عندما يقدم للجماهير..
الا يمكن للكاتب المسرحي ان يمد عينيه الي ما هو ابعد من كتابة النص .. الا يستشرف داخل هذه الكتابة محاولة اخراجية لنصه هذا الذي يكتبه فيضمنه اياها.. ام ان هذا عيب علي الكاتب المسرحي ؟ حلال علي المخرج.. انه ترك المسؤولية كاملة علي عاتق المخرج؟ المسالة موزعة بين الاثنين : المسؤول ، المخرج ، ولقد بداء المسرح من دون وظيفة تسمي المخرج ، فالمؤلف هو مخرج مسرحياته في العصر الاغريقي ،وعليه يجب ان يقدم المؤلف نصه المسرحي متضمنا مجموعة رؤاه الفكرية والجمالية ، تلك التي تحدثنا عنها والخاص بشروط اللحظة الحضارية الراهنة بعيدا عن الأنماط السائدة والمعروفة ، اننا نصبو الي الدهشة والخصوصية ولا نصبوا ابدا الي المكرور والمعتاد والمألوف.