حكايات من الواقع: 1السيدة خضرا
الزمان انفو – حكاية حقيقية، و ليست من الخيال رواها السفير الراحل الأستاذ حسين احمد امين (ابن المفكر والأديب الراحل احمد امين ) حدثت له نوردها لقراء”الزمان” ملخصة..بدأت الحكاية فى اكتوبر 1977، حين عاد السفير واسرته من نيجيريا للقاهرة واحتاجوا الى خادمة ترعى شؤون البيت وكان ان احضرت لهم حماة السفير من العزبة فى كمشيش ابنة فلاح فقير لتعمل عندهم وكانت فتاة امية سوداء البشرة فى الثانية عشر من عمرها تدعى “خضرة” واخبرتهم انها اتفقت مع والد الفتاة على ان يكون راتبها الشهرى 4 جنيهات (وقتها كان مبلغا معقولا) على ان تدفع للأب.
ولم يعترض السفير وزوجته على شىء الا صغر سن البنت وعدم الخبرة غير ان مالاحظاه على البنت من الأسبوع الأول طمانهما الى امكان الأعتماد عليها فقد لاحظا ذكائها اللامع واستعدادها للتعلم وذاكرتها القوية
يحكى السفير وهو يتذكر عندما احضرها والدها الى القاهرة التى لم تكن زارتها من قبل
ثم الى شقتهم كانت ترتدى جلباب مهلهل وصندل ممزق ومنديل احمر على رأسها يخفى شعرها وثلاثة ارباع جبينها وقد ظهر فى عينيها وعلى وجهها الوسيم وهى تقف عند باب الصالة علامات الفزع والخوف غير انها لم تبكى عندما ودعها ابوها وانصرف ولاظهر عليها اى تأثير لفراقه وسرعان ماانطلقت
بعد ان اغلقوا الباب خلفه تروح وتجىء فى حجرات الشقة بمفردها ودون ادنى حرج تتفحص قطع الأثاث والأجهزة الكهربائية فيها تلمسها بيديها وتسال الزوجة والبنات الثلاثة عنها : التليفون والتليفزيون والراديو والثلاجة والخلاط والأباجورة والكثير منها كانت تراها لأول مرة
بدأت الزوجة تدريبها على مهام المنزل حتى اتقنتها جميعا ثم انتقلت الى تعليمها طهى الطعام وظهر ان الأمر ليس صعب عليها لأنها كانت تساعد امها فى القرية غير ان عملها كان ينتهى فى العادة بعد انتهاء الغداء وغسيل الأوانى والصحون فكانت بعدها تجلس على الأرض فى غرفة الجلوس لمشاهدة التليفزيون
حتى تعود البنات من المدرسة فتدخل ورائهن حجرتهن لتراقبهن وهن يذاكرن دروسهن
أحبتها البنات كل الحب واشركنها معهن فى العابهن واحاديثهن وفى النزهة واعطينها الكثير من ملابسهن ثم عندما لاحظن ذكائها قررن ان يعلموها القراءة والكتابة والحساب فى اوقات فراغهن وبعد مضى اقل من عام
كانت قد تعلمت كل هذا فى سهولة ويسر وانصرفت عن التليفزيون الى قصص كامل الكيلانى وغيرها من قصص الأطفال تقرأ فيها اثناء انشغال البنات بالمذاكرة
فى ابريل 1980 صدر قرار بتعيين السفير كوزير مفوض فى سفارتنا بألمانيا الغربية فلما استأذن والد خضرة فى اصطحابها معهم تردد بعض الوقت ثم وافق
على شرط مضاعفة الأجر الذى يحصل عليه وهو ماحدث ويحكى السفير انه راقبها وهى تجهز حقيبتها فوجدها تدس فيها مجموعة من الكتب العربية فطلب منها ان يرى هذه الكتب فوجد قصص شكسبير للأطفال ومجموعة قصص لأحسان عبد القدوس وثلاثية نجيب محفوظ وروايته “بداية ونهاية”
وثلاث مجموعات قصصية ليوسف ادريس و5 مجلدات من ازجال بيرم التونسى وكانت وقتها فى الخامسة عشر من عمرها
عندما ركبوا الطائرة من مطار القاهرة لم يظهر على وجهها اى خوف ولااى رهبة او اندهاش عندما هبطوا فى مطار فرانكفورت ولم تنبهر بمظاهر التقدم والحضارة فى المانيا
ويقول السفير انه اكيد كان هناك خوف ودهشة وانبهار غير انها نجحت تماما فى اخفاء مشاعرها حتى لاتبدو امامهم وامام الألمان قروية ساذجة قادمة من ورا الجاموسة وكانت المرة الوحيدة التى اتسعت عيناها ذعرا حين جلسوا يوما فى المنزل فى بون عاصمة المانيا الغربية وقتها
يشاهدون الحلقة الأولى من مسلسل عن رواية لأديب نوبل الألمانى الشهير “توماس مان ” وظهرت البطلة عارية تماما وتمارس الجنس مع عشيقها على السرير
اشتروا لها الثياب فى المانيا فكانت انيقة كبنات السفير وتذهب معهن الى الكوافير مرة كل شهر ولما كان عليها ان تذهب كل صباح الى السوق
لشراء مايحتاجونه من الطعام والمشروبات وغيرها كانت سعيدة بتعلم الكلمات الألمانية التى تحتاجها لتشترى هذه الأشياء مع قدر مناسب من الأفعال والمفاجأه ان احبها كل من كانت تتعامل معهم من الألمان خاصة لسواد بشرتها وجمال ملامحها ووداعتها ودماثة طبيعية فى اخلاقها ووقارها الملفت للنظر
لدرجة ان بعضهم كان يحسبها ابنة بعض السفراء الأفارقة
يحكى السفير انهم فى المانيا جعلوها تجلس معهم على المائدة لتناول الوجبات بعد ان كانت فى مصر تتناولها وحدها فى المطبخ بعد انتهاء اهل البيت من الطعام وعلموها استعمال الشوكة والسكين وسمحوا لها ان تحتل مقعد بجوار مقاعدهم
فى غرفة الجلوس بعد ان كانت فى مصر تجلس على الأرض واستمر الوضع كذلك حتى بعد عودتهم للقاهرة مما اثار دهشة اقربائهم واصدقائهم اذ فوجئوا بها بعد تحضير السفرة تأتى للجلوس وسطهم والمشاركة فى الحديث معهم
حين تم نقل السفير الى مصر سنة 1983 كانت فى سن 18 سنة وقد تقدم لخطبتها
خلال اول شهرين من وصولهم 3 من شباب قريتها فرفضتهم الواحد بعد الآخر ويحكى السفير انه احس ببعض الأنزعاج خشية ان تكون اقامتها فى المانيا وماحصلت عليه من تعليم وسع الفجوة بينها وبين اهل قريتها مما ينذر بأن زواجها سيكون مشكلة عسيرة
ثم كان ان اقدمت هى على توسيع هذه الفجوة يوما بعد يوم
بانصرافها بكل تصميم وعزم على تثقيف نفسها فيحكى السفير انه دخل عليها المطبخ يوما فوجد على احد الرفوف نسخته من ديوان ابى القاسم الشابى وحين سأل عمن اخذه من مكتبته واتى به للمطبخ اتضح انها خضرة ثم بدأ يلاحظ ماكانت تأخذه معها الى المطبخ لتقرأه اثناء اعدادها الطعام
او الى التراس حيث تجلس عادة بعد انتهاء غسيل الصحون فكانت تأخذ كتب مثل : اولاد حارتنا لنجيب محفوظ وديوان ابراهيم ناجى وجان دارك لبرنارد شو ومسرحيات موليير والأيام لطه حسين ورجال وفئران لجون شتايبينك والمساكين لدوستويفسكى واعترافات تولستوى والعجوز والبحر لهيمنجواى
وغيرها من روائع الأدب العالمى والعربى وكلها كتب اما اخذتها من مكتبة السفير او اشترتها من مرتبها الذى بدأت منذ عودتها من المانيا تحتفظ به لنفسها وترفض دفعه لأبيها
فى نفس هذه الفترة كانت قد تخلصت نهائيامن لهجتها الريفية والى جانب هذا الأقبال الشديد على القراءة اظهرت خضرة مواهب اخرى
فقد اصبحت الآن تتولى اصلاح اى جهاز كهربائى فى البيت يصيبه خلل وتقوم بكافة اعمال السباكة سواء فى بيت السفير او من بيوت الأقارب التى يزورونها وهى معهم وهى التى تقوم بأعادة تركيب الدواليب ودق المسامير فى الحوائط ودهان الحجرات ولصق ورق الحائط وتسجيل الأفلام على جهاز الفيديو وغيرها
من مهام البيت وسريعا مااصبح الأعتماد عليها فى محيط العائلة الكبيرة فى كل شىء تقريبا فالجميع ينتظر حتى تأتى خضرة لتصلح هذا اوذاك او يسألوا خضرة من اين يشترون هذا او ذاك
فى ابريل 1985 صدر قرار بنقل السفير الى ريودى جانيرو بالبرازيل ورفض ابوها ان ياذن لهم بأصطحابها معهم
فالفتاة الآن جاوزت العشرين وسيعنى بقائها معهم فى البرازيل اربع او خمس سنوات اخرى بقائها دون زواج طوال تلك المدة وهو مالايمكن لأسرتها الريفية ان تقبله غير انه وافق ان تنتقل بعد سفرهم الى منزل الحماة للأقامة معها الى ان توافق على زوج تقبله
يحكى السفيرانهم ليلة السفر كانوا يتناولون العشاء عند الأخت الكبرى لزوجته وهى مساعدة مدير المجلس البريطانى بالقاهرة وطلب منها السفير ان تهيىء لخضرة فرصة تعلم اللغة الأنجليزية ووافقت اخت الزوجة فورا ورفضت اخذ اى مصاريف وقبلتها كطالبة فى قسم تعليم الأنجليزية للكبار
وليس هذا فقط بل اعلنت انها ستعينها فى مكتبة المجلس فى وظيفة يغطى مرتبها هذه المصاريف
تتابعت الخطابات العائلية للسفير واسرته وهم فى البرازيل تنقل اخبار خضرة خلال سنوات :
تقدمها فى اللغة الأنجليزية ادهش الأساتذة
هى الآن تكتب موضوعات الأنشاء بالأنجليزية بكل سهولة ويسر
تم تعيينها مساعدة لأمين مكتبة المجلس البريطانى لكفاءتها الواضحة
امين المكتبة والطلبة يعتمدون عليها فى كافة الأمور
الطلبة يسمونها “مس كادرا” ويعاملونها بأحترام بالغ
رؤساؤها الأنجليز بالمركز شديدو الأعجاب بكفاءتها وشخصيتها ودقتها فى العمل
مس كادرا تتلقى دروس فى استخدام الكمبيوتر
امين المكتبة نقل الى منصب اخر وصدر القرار بتعيين مس كادرا مكانه
مس كادرا الآن تستخدم اللغة الأنجليزية فى كل معاملاتها بالمجلس واحيانا خارجه
مس كادرا فى طريقها لتصبح اشهر شخصية فى المجلس البريطانى بالقاهرة
ثم الخبر الأهم :
علاقة عاطفية تنشأ بين مس كادرا وموظف مصرى زميل لها بالمجلس هو ابن رئيس مجلس ادارة احدى شركات القطاع العام
ابن رئيس مجلس الأدارة يتقدم اليها بطلب الزواج
خضرة تبكى ليل نهار لاتدرى هل تصارحه ام لا بحقيقة امرها
اخت الزوجة تنصحها بمصارحته بكل شىء
خضرة تأخذ بنصيحتها
وتصارحه فيصمم فى رجولة على الزواج منها ويقوم هو بمصارحة والديه
ابواه يرفضان بشدة الموافقة على زواجه منها ويهددانه بالتبرؤ منه ان تزوجها فيقاطعهما وينتقل الى مسكن مستقل فى الدقى ويبدأ فى اعداده ليكون بيت الزوجية
ويقام حفل زفاف خضرة الى زميلها بالمجلس البريطانى فى منزل حماة السفير
يوم 19 مايو 1990 فلا يحضره احد من اقارب العريس غير ابن عم له ويحضره اكثر من مائة من فلاحى كمشيش من اقارب العروس
يعود السفير والأسرة من البرازيل فى اجازة صيفية فيزوروا العروسين للتهنئة فى شقتهما الجميلة قرب نادى الصيد
ويكون اكبر دواعى سعادة السفير فى هذه الزيارة
ان يجد فى شقة خضرة وزوجها مالم يجده فى بيوت معظم المصريين وهو غرفة خصصت بالكامل لكتب العروسين وعندما يلمح على احد الرفوف المجلدات السبعة لتاريخ ابن خلدون يسأل العريس ان كان قد قرأه او يقرأه فيخبره العريس انه كتاب خضرة المفضل
فى النهاية يتساءل سيادة السفير
كيف ان هذه الموهبة المصرية شاء الحظ ان تجد من يلتقطها ويساعدها فعلى من يقع عبء ضياع مئات الآلاف او الملايين من امثالها فى ريف وصعيد مصر تضيع وتضمحل مواهبهم ولاتجد من يمتد يده اليها ليظهرما عندها ؟