الأدب والبحر .. المُجَرّد والمحسوس
عبد الحق ميفراني
الزمان أنفو ـ يمثّل كتاب «البحر في الأدب الفرنسي، من فرانسوا رابلي إلى بيير لوتي» (2003) للناقد سيمون لييس، مرجعاً مهمّاً لاستقصاء علاقة البحر بالأدب الفرنسي ورصد لصور حضوره. لقد ظل البحر نقطة جذب وإلهام للعديد من الكتّاب. ورصداً لهذا المسار يتتبَّع الناقد سيمون لييس هذه العلاقة في الأدب الفرنسي خصوصاً، من خلال مجلَّدين: الأول يمتد من فرانسوا رابليس إلى ألكسندر دوما، والثاني من فيكتور هيغو إلى بيير لوتي. يشير لييس إلى أن البحر أصبح ذريعة لكتابة النص الأدبي عند فولتير، كما تحوَّل إلى مكوِّن درامي للتشكيل الفني، ويشير إلى أنه بفضل كتاب الرواية تمكَّن البحر من أن يصبح موضوعاً أدبياً.
يبحر لييس في العديد من التجارب الإبداعية التي استحضرت البحر موضوعاً رئيسياً لها، ففي سنة 1780 تحوَّل «المحيط» إلى موضةحتى قبل ظهور أعمال برنادت سانت بيير. في الشعر- أيضاً- مع روشييه وشانييه؛ إذ أمسى البحر يشير إلى الامتداد والرهبة ويوحي بالمغامرة. عند روشيه في عمله الإبداعي «الشهور» وصف للبحر الميتولوجي المخادع. مع شاتوبريان أمكننا الحديث عن شعرية البحر، إذ أمسى «المحيط» استعارة لقوة مخيفة وغامضة في أشعاره، صوت مخيف يثير الرعب بألوانه الداكنة، هو «بحر لا يضحك..».
عموماً تحوَّلت صورة البحر مع المتن الإبداعي والفني، كي ترادف دلالات متعدِّدة: الألوان، الظل، لعبة الضوء، الصوت، الأشكال، بل أكثر لقد حاول «شاتوبريان» أن يدرج عالم الإنسان والبحر كي يشكل بورتريهاً نفسياً.
وتمتدّ علاقة البحر بالأدب والفن عموماً إلى فترات بعيدة في التاريخ الإنساني، وتجسّدت كـ«صراع» بين الإنسان وقوة «هلامية» ظلت على الدوام تحتفظ بأسرارها. فالإغريق قدَّموا صوراً «أسطورية» أضفت على الأدب صوراً أكثر إخصاباً: نتذكَّر ملحمة «الأوديسة» لهوميروس حيث صراع أوديسيوس ونبتون. لتتوالى بعدها، وعبر التاريخ الإنساني، روائع من الأدب كان البحر موضوعها الملهم، كما نتذكَّر رواية الروائي الأميركي هرمان ملفل (1819 – 1891) «موبي ديك»، مجموعة موبسان «في البحر» نشرت 1883 والتي يتعرَّض فيها لسفينة غرقت في مدخل ميناء بولون، «عمال البحر» لفيكتور هيغو (1866)، «جزيرة الكنوز» للكاتب الاسكتنلدي روبير لويس ستيفنسون (1833)، رواية «الشيخ والبحر» للأميركي ارنست همنغواي، الذي حاز على جائزة نوبل 1954. ويعدّ كثير من النقاد هذه الرواية تمثِّل «أعظم ما كُتِب في أدب البحر، وديوان «أوراق العشب» للشاعر الأميركي والت ويتمان، هذا إلى جانب أعمال هنري دومنفرد أو الملقَّب بـ «عبدالحي» المغامر والكاتب والبحّار والفوتوغرافي والرسام الذي تعلَّم اللغة العربية، وتحوَّل إلى بحّار يتاجر بالأسلحة واللؤلؤ، كتب ما يقارب 75 مؤلّفاً يتعرَّض فيها لمغامراته. وقد ترجمت أعماله إلى 12 لغة.
ومثّلَ البحر لدى العرب موضوعاً أثيراً انبثق في الشعر الجاهلي مع طرفة بن العبد وامرئ القيس، وامتدّ إلى أدب الرحلة. نتذكَّر «ألف ليلة وليلة» في محكيّاتها العجائبية من سندباد إلى مغامرات البحر العجيبة.
وظل البحر يشغل البشرية إلى الحَدّ الذي نتج عنه صور ترتبط- في الأعم- ببلدان وإثنيات وشعوب وفق عادات وتقاليد تتحكَّم في مخيالها الشعبي. والتراث العربي القديم حافل بأمهات الكتب التي تناولت البحر، من كتب الرحّالة البحريين، وهو ما أُطلق عليه «أدب الرحّالين العرب»، من أمثال: المسعودي (المتوفى سنة 346هـ) الذي كان أديباً ورحّالة ومؤرِّخاً وجغرافياً، قام برحلاته في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وخَلَّفَ «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، ودوَّنَ الرحالة المغربي (ابن بطوطة) في مؤلّفه «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» رحلاته البحرية من البحر المتوسط إلى الصين، وأيضاً كتاب الطبري «تاريخ الرسل والملوك».
في جنس الرواية العربية، أغرت عوالم البحر الروائيين العرب، وعلى رأسهم روائي البحر حنا مينا صاحب «الياطر» و«الشراع والعاصفة» و«ثلاثية حكاية بحار» وغيرها، إلى جانب رواية «السفينة» للفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وروايتَيْ «حين تركنا الجسر» و«مدن الملح» للروائي السعودي عبد الرحمن منيف، ورواية «الشراع الكبير» للروائي العماني عبدالله بن محمد الطائي.
وفي عالم الفن، تظهر صور البحر أكثر تجريداً وحضوراً بشكل تشير فيه إلى التوجُّه المدرسي. نشير هنا إلى الموجة الكبيرة في كاناغاوا اليابانية، وهي لوحة يابانية للفنان هوكاساي رائد مدرسة التصوير الحديث «كاتسوشيكا هوكوساي» KATSUSHIKA HOKUSAI)1849 – 1760) عام 1832م خلال فترة الإيدو، وتُعَدّ لوحة هذا الفنان واسمها «تحت موجة كاناغاوا» رمزاً مصوّراً لمواجهة الإنسان لقوة البحر وجبروته، وقد ألهمت اللوحة العديد من الفنانين التشكليين، وأثرت تجربتهم الفنية على امتداد الحركة التشكيلية في أوروبا والعالم.
وكما التشكيل والمسرح والسينما، توسَّعت مجالات حضور البحر في أنواع الكتابة الإبداعية. ليتحوَّل السؤال أخيراً إلى: كيف يحضر البحر في الكتابة الإبداعية عموماً؟ وما هي تمظهرات هذا الحضور للبحر في الكتابة؟
فيما يلي آراء بعض النقّاد والباحثين المغاربة حول حضور أدب البحر، في الأعمال والنصوص الأدبية. من كشوفات المستشرق كراتشكوفسكي الذي عنى عناية فائقة بالتأريخ للأدب.
إبراهيم أولحيان: لكل نص روائي “بحره”
في تقديمه لتجلّيات البحر في الرواية، يشير الناقد إبراهيم أولحيان إلى أن البحر يشغل مكانة أساسية في الكتابة الإبداعية منذ القدم. حيث تَمَّ توظيفه، بشكل كبير، في الكتابة النثرية والكتابة الشعرية.
بخصوص الرواية العربية نجد البحر قد شغل مكانة هامة في فضائها، ويمثِّل لذلك برواية جبرا إبراهيم جبرا «السفينة» التي تعاملت مع البحر بشكل مباشر، حيث عزل الروائي شخصياته في سفينة كمواجهة من قِبَل بعضهم للبعض الآخر. ولمواجهة أنفسهم أيضاً، ويقول عنها الدكتور نجم عبدالله كاظم: «السفينة» رواية وعنصر وأداة رئيسية تتحول عليها الشخصيات، وتقع الأحداث فوقها…إنها صدى للوضع العربي أو الأوضاع السياسية، التي سادت الوطن العربي، قبل نكسة حزيران 1967». وهناك أيضاً رواية العراقي غائب طعمة فرمان بعنوان «المركب» وهي رحلة إلى جزيرة أم الخنازير، وصفها محمد برادة في إحدى دراساته بـ «رحلة الدولة المتعثِّرة نحو التحديث» بالإضافة إلى روايات السوري حنا مينا التي تحتفي بالبحر جاعلة إياه الفضاء المميَّز لأحداثها. بالنسبة للرواية المغربية نجد «الأفعى والبحر» لمحمد زفزاف، «الوردة والبحر» لإدريس بلمليح، «رحيل البحر» لمحمد عزالدين التازي، «بحر الظلمات» لمحمد الدغمومي، و«عشاء البحر» لأبي يوسف طه.
وعن سؤال: كيف وُظِّف البحر في الرواية؟، يحدِّد الناقد إبراهيم أولحيان أنه من خلال قراءات لمجموعة من النصوص الروائية، وجد أن لكل نص روائي «بحره» الخاص، لكنه يجمل ذلك- على المستوى المنهجي- في أربعة مستويات:
- البحر كاشتغال فضائي، بمعنى أنه يوظّف بوصفه مكوِّناً من مكوِّنات العالم الروائي؛ فهو فضاء تجري فيه الأحداث، وتتنفَّس فيه الشخصيات. وتوظيف فضاء البحر في الرواية يسهم في «الإيهام بالواقع»، وإحداث وقع في القارئ والتأثير فيه، وأيضاً يساعد في بناء المعنى، وفي تشكيل موقف الشخصيات من العالم.
-
البحر بوصفه رمزاً من الرموز، أي يشتغل في النص كمتخيَّل لا يمكن القبض عليه إلا في ارتباطه بكل أجزاء النص، ولا يمكن فصل البحر عن رمزية الماء بشكل عام، لأن دلالات هذه الأخيرة تنبثق من رمزية البحر. فالبحر رمز لحركية الحياة وفعّالياتها، فهو مكان الولادة والتحوُّلات والبعث. إنه رمز الخصب. ويدلّ- أيضاً- على واقع «الارتياب والشك والحيرة الذي يمكن أن يؤول إلى خير أو شر. من هنا كان البحر صورة الحياة وصورة الموت».
-
البحر بوصفه صورة روائية، ويتمّ القبض على الصورة الروائية بالبحث في التشبيهات والاستعارات التي يستعملها الروائي، وغالباً ما تكون منغرسة في البنية السياقية للرواية.
-
البحر بوصفه تيمة. قد يكون البحر تيمة مركزية في عمل ما، لكن يجب ألا نخلط بين التيمة والرمز والصورة، رغم التفاعل الموجود فيما بينهم في نسيج العمل الروائي، كما لا تنبغي أن نخلطها مع اللفظة، بل لابد من البحث عنها في هندسة العمل الأدبي.
عبدالرحيم مؤذِّن:
في الاسم والمسمّى
المتصفِّح للمعجم البحري التراثي، سيصطدم بالنعوت والصفات المنتشرة في المتن الرحلي، وكتب الجغرافية، والأطوال والعُروض، وكتب الخطط، ومعاجم البلدان، أقول سيصطدم بالنعت القائم على التوجُّس والغرابة والعجز والجبروت. في العجز نجد الاستسلام أمام سلطته القاهرة. يقول أحد المتصوِّفة الذي تأمَّل البحر:
لا أركب البحر أخشى عليَّ فيه من المعاطب
طين أنا وهو ماء والطين في الماء ذائـــــب
وفي الغرابة، يصبح البحر حاملاً لهوية الذي يعتلي أمواجه محتكراً فضاءه بكافة الوسائل. فالبحر المتوسّط رادف، بعد غزو الغرب، بحر الروم كمرادف للعدو، أو الأجنبي. فمنذ القرن التاسع عشر، إن لم يكن قبل ذلك، على حد تعبير عبد الله العروي، لم يعد هذا البحر بحراً عربياً.
وفي الجبروت لا يتردَّد الرحّالة في تبنّي مفردات الجغرافي العربي، ناعتاً البحر الأحمر باسم مميَّز هو «بحر القلزم» الذي لايتردَّد في التهام- على حَدّ تعبير ابن خالويه- «كل من ركبه، فهو المكان الذي غرق فيه فرعون وآله». وفي التوجُّس لايتردَّد والد المختار السوسي في القول، في أثناء رحلته، في إطلاق هذا النظْم الحِكَمي القائم على التجربة:
ثلاثة ما منهم أمان: البحر، والسلطان، والزمان». هكذا فضَّل الرحّالة العربي عامة، والمغربي خاصة، السفر براً ، عوض السفر بحراً، بالرغم من وجود العنقاء، والغول، الجن، والإنس،- دون أن يتعارض ذلك مع الإحساس بالأمن والأمان، رفقة سفينة الصحراء (لاحظ الصورة البحرية البرية) مصحوباً برفقة تدعم هذا الإحساس الذي يفتقده البحر الموسوم بالمفاجأة والكائنات الغريبة، والعوالم المستعصية على الفهم والتحديد. فالبحر «لايعلم أحد ما خلفه، ولا وقف بشر على خبر صحيح عنه، لصعوبة عبوره وظلام أنواره، وتعاظم أمواجه، وكثرة أهواله، وهيجان رياحه. وأمواج هذا البحر تندفع كالجبال لاينكسر ماؤها» (نقلاً عن حسين فوزي: حديث السندباد القديم 1967).
وإذا كانت الرحلة المغربية قد ألحَّت على هذا التوجُّس الدائم من البحر وأهواله، فإن ذلك لم يمنع الرحّالة من ركوبه اضطراراً لسبب أو لآخر.
وبحكم الضرورة الدينية، أو المعاشية، سجَّل العديد من الرحّالة العرب، في كتاباتهم، بعض انطباعاتهم عن البحر (خاصة الرحلة الخليجية الشراعية)، وسجلّوا تحوّلاته من جهة، ودوره في التواصل مع الآخر من جهة ثانية، شرقاً وغرباً، عبر أحاسيس البحّارة، أو المرتحلين في فضاء ظل عصيّاً على الترويض، لكنه يغري بالكشف والاكتشاف والمغامرة..
محمد زهير: البحر في الشعر
يشير الناقد محمد زهير إلى تجلّيات البحر في الشعر من خلال اشتغاله- خاصة- على ديوان الشاعر عبدالكريم الطبال «عتبة البحر»، وذلك من خلال اشتغاله على رمزية البحر في الديوان، بدءاً من العنوان، المؤشِّر الأول على حضور هذه الرمزية ذات الحس الصوفي. البحر في نصوص الشاعر الطبال يرتفع إلى مستوى القيمة الرمزية الجوهرية. إن عالم البحر بمظهره ومخبره، بأسراره وغموضه وإيحاءاته، يجتذب الذات الشاعرة، ويشدّها إليه بقوة خفية، ويتيح للخيال الشعري آفاقاً لا محدودة. للكشف وبناء العلاقات الشعرية المجازية وتوالدها. فالبحر لهذا رحم رحيب لتوليد العلاقات الخيالية، وتوليد الاستعارات المفتوحة الأساسية والمتفرِّعة.
البحر في الشعر رمز المطلق الذي تحنّ الذات إلى العودة إليه، والذوبان فيه، ومن ثم انشدادها إليه. ورحيلها الرمزي في عوالمه، والإصغاء العميق إليه لعله يمنحها من أسراره. لكنه، بقدر ما يمنحها، يتمنَّع عليها، فتتمزّق بين الرغبة فيما تريد وما تحصل عليه. ومن بؤرة هذا التمزُّق تتولّد مجازات شعرية جديدة محمَّلة بتوتُّرات الشوق والخيبة.
حسن المودن: سعة وانبساط
يؤكِّد الناقد حسن المودن أننا عندما نسمع البحر تحضرنا سعته وانبساطه، عظمته وخطورته. لكنه استعارة شعرية قديمة تدلّ على رجل كثير الكرم.
يقدِّم الناقد المودن رؤيته ل أدب البحر من خلال نماذج محدَّدة اختار منها رواية «الأفعى والبحر» للكاتب محمد زفزاف، حيث رؤية زفزاف البحرانية الشديدة التعلُّق بالبحر. أي بالحياة، ولكن الحياة التي يقصدها زفزاف هنا هي تلك الحياة الأولى، تلك الحياة التي نعود معها إلى الطبيعة بعيداً عن الثقافة والحضارة والمدينة. مع البحر ينتقل الإنسان إلى عالم آخر، عالم سحري هو أشبه بعالم الحلم، حيث تتحرَّر الرغبات الدفينة. البحر بهذا المعنى، هو «الاستمرار في الرحلة إلى العالم الفسيح». كما أن البحر يسمح بالعودة إلى الطبيعة الأولية للإنسان، لاستعادة الإنسان الأول.
في رواية محمد زفزاف «الأفعى والبحر» احتفاء بعالم البحر، ودعوة للعودة إلى عالم الرحم/ البحر. ذلك العالم الأولي الطبيعي حيث السكون والحرية والحبّ الأوّلي والتناغم التام. إجمالاً، يمكن القول إن البحر يعني عودة المكبوت والانفتاح على اللاوعي، والانفلات من مراقبة الوعي. البحر عند زفزاف إحالة إلى صورة استعارية تنسج الرغبة في عالم الحلم، عالم السعادة، عالم تتحقَّق فيه الرغبات. أدب البحر، بهذا المعنى- أدب يدفعنا إلى أن نكتشف في ذواتنا إزاء العالم الواقعي الحضاري كائناً حائراً وقلقاً، كائناً مقذوفاً به في عالم ينحو يوماً بعد يوم نحو السلبية واللاإنسانية.
محمد آيت لعميم:
البحريجتذب الإنسان نحو المغامرة والمقامرة
يخلص الناقد محمد آيت لعميم إلى أن الرواية استطاعت أن تقتحم عوالم عديدة، ومجاهل الحياة، والنفس البشرية، وبذلك قدَّمت لنا، عبر تاريخها الحافل بالروائع، معرفة عميقة بالذات والوجود، في تنوُّعاته وتشعُّباته. ويُعَدّ الفضاء البحري من الفضاءات الخصبة التي تَمَّ استثمارها في روايات خالدة خلود البحر في إغرائه ومجهوليته. فهذه الكرة المائية التي يدعوها الجغرافيون- خطأ- الكرة الأرضية، لا تشكّل فيها اليابسة سوى نزر يسير، هي شبيهة بكثبان ملقى في صحراء، أو لنقل إننا نمتلك اليابسة في حين أن البحر يمتلكنا؛ وبذلك فالبحر- بنشيده الذي لا يملّ من تكراره، وبكائناته الحقيقية والأسطورية- يجتذب الإنسان نحو المغامرة والمقامرة كما فعل سندباد وأوليس. ولذلك نجد البحر قد تشكَّل في مخيال الإنسان برموز عديدة، ودلالات كونية.
إذا رجعنا إلى معجم الرموز نجد أن مؤلّفَيْه استطاعا أن يستقصيا أهمّ رمزيات البحر في الثقافات، والصور النمطية حوله. فقد ذهبا إلى أن البحر رمز لدينامية الحياة، فالكل خرج من البحر وإليه يعود: إنه مكان للولادات والتحوُّلات والانبعاثات. ويرمز إلى الحالة الانتقالية بين الممكنات التي مازالت غير متشكِّلة والحقائق المشكَّلة. إنه وضعية متحرِّكة، وضعية اللايقين والشك، من هنا يكون البحر- في الآن نفسه- صورة للحياة وصورة للموت، فالقدماء كانوا يهبون للبحر أضحيات من الخيل والثيران، وهذه نفسها رموز للخصوبة، لكن، من قاع البحر تطلع وحوش هي رمز لصورة العقل الباطني (معجم الرموز، باب البحر، ص 420).
في الميثولوجيا الأيرلندية، مثلاً، جاءت الآلهة عبر البحر، وعبر البحر سنذهب إلى العالم الآخر. وفي القرآن الكريم، هناك حديث عن البحر المسجور، أي المحترق، كعلامة على الدخول إلى العالم الآخر. ويرمز البحر عند المتصوِّفة للعالم، وللقلب الإنساني،كونه مقرّاً للعواطف. فالبحر رمز للحياة العليا، للجوهر الإلهي. يقول الصوفي المغربي الشهير عبد السلام بن مشيش: «لقد ارتبطت دلالة البحر بالخصوبة والعطاء، فاشتقت للبحر كلمة في العربية تشير إلى الأمومة وهي كلمة اليم، وبالفرنسية هناك جناس بارز بين MERE (أم) وMER (بحر)».
إن هذه الرمزيات المتعدِّدة والمتنوِّعة، كانت لها جاذبية خاصة في الإبداع، بصفة عامة، وفي الكتابات الروائية، بصفة خاصة. فنماذج عديدة من الروايات العالمية استثمرت هذه الرمزيات، ولعل رواية «الشيخ والبحر» رائعة هيمنغواي، هي الرواية التي استأثرت باهتمام النقّاد، وهي تحكي عن خروج الملّاح سنتياغو إلى البحر منفرداً، بعد أربعة وثمانين يوماً استعصى عليه الصيد فيها، وهو يقرِّر -كبطل في مأساة إغريقية قديمة – أن يتوغَّل في البحر، متعدِّياً حدود الآمن والمألوف، وهو شيخ يحمل على وجهه وجسده خاتم البحر الذي عركه: التجاعيد العميقة، والقروح، والندوب. كان كل شيء فيه عجوزاً خلا عينيه، كان لونهما مثل لون البحر، وكانتا مبتهجتين باسلتين. ولسانتياغو مريد صغير، يحبّ معلِّمه الشيخ، ويرغب في مصاحبته، لكن أهله يمنعونه، وينقلونه على ظهر مركب أوفر حظّاً.
لقد أفاض نقّاد هيمنغواي في الحديث عن الرمز والمفارقة في «الشيخ والبحر»، وعن مبناها الذي يشبه القصص الرمزية في العهد الجديد. فالهيكل العظمي الممدَّد في نهاية الكتاب والرحلة، يوحي للوهلة الأولى، بأن حصاد التجربة لا يختلف كثيراً عن حكمة سِفْر الجامعة، في العهد القديم، على لسان النبي سليمان عليه السلام: «الكل باطل وقبض ريح». فالرحلة انتهت باللاشيء، ولكن سلوك سنتياغو المتمثِّل في عناده وإصراره علي العودة إلى البحر مرة أخرى، هو ما رجَّح كفة الوجود على كفة العدم (صيادو الذاكرة، رضوى عاشور، ص 29). إن رواية هيمنغواي، لبساطة سردها وعمقها الفكري والفلسفي، كانت محطّ اهتمام النقّاد والمترجمين والمبدعين، فتمَّت محاكاتها ومعارضتها في نصوص بارزة، ومن أهم النصوص التي عارضت هذه الرواية رواية الكاتب الروسي جنكيز أيتماتوف «الكلب الأبيض الراكض على حافة البحر»، وقصة الكاتب الإيطالي الشهير دينو بوزاتي «ALE KA». وفي الاتجاه المعاكس تذهب الروائية المصرية رضوى عاشور إلى أن رواية «الشيخ والبحر» هي، من إحدى الزوايا، معارضة لنص الشاعر الإنكليزي كولريدج، «الملّاح القديم»، وهي من أبرز القصائد الإنكليزية التي ترتكز إلى مفهوم وحدة الوجود.
محمد أنقار:
التقابل بين الصور المطبوعة بالجمال
يشير الناقد والكاتب محمد أنقار إلى واحدة من شخصيات رواية بروست «في البحث عن الزمن الضائع»: ALBERTINE SIMONET ألبرتين «في ظلال ربيع الفتيات». ثمة فتيات رآهن مارسيل عن بعـد، وأعجب بهن زمناً، إلى أن جاءت الفرصـة بالتدريج فتعرفَهُنّ، وأصبحت ألبرتين، من بينهن، خليلته. في إحدى الصور الروائية المقتبسة من الجزء الثالث، يسترجع مارسيل جوانب من ذلك الماضي الذي كانت فيه ألبرتين مع صويحباتها مجرد أطياف غير قابلة للَّمْـس. يسترجع صورتها رسماً، لوحـةً في خلفيتها بحر «بالبيك BALBEC». ولكي يعمّق مارسيل في أذهاننا طبيعة الطيف الحاضر/الهارب لألبرتين اعتمد تشبيه الممثلة المسرحية التي نشاهدها مرة فوق الخشبة فنشكّ، آنذاك، إن كانت هي الممثّلة الحقيقية التي نحن معجبون بها أم هي بديلة عنها. هذا الشكَّ المشروع من شأنه أن يكسر قوة الطيف، وينهكها مثلما سبق أن كسّرها استحضار صورة ألبرتين رسماً. لكن مارسيل- إذ يفعل ذلك- يعمل، في الوقت نفسه، على تثبيت قـوة الصورة وترسيخها. ذاك تخريج ليس جديداً ما دام مارسيل نفسه يعترف بأن ما يشغله- أساساً- هو «التقابل بين الصور المطبوعة بالجمال». تلك- إذاً- هي المفارقـة، وتلك هي- أيضاً- أطروحة الصورة الروائية التي اقتبسناها في صـدر هذا الكلام؛ أي إضفاء القـوة الكافية على الذكرى، والطيف، والانطباع الهشّ، من أجل الإبقاء على العاطفة الإنسانية متأجِّجة، ثم خالدة. لذلك لم يقبّل مارسيل ألبرتين بعد ما أصبحت سهلة، وفي متناول يده. يكفي الآن أن يستمتع بكلامها الشهي، ويتلذّذ بها وهي طيف مستعصٍ، ومجرّدُ ذكرى بخلفية البحر. ولكي نستحضـر الأبعاد الأخرى للأطروحة ذاتها لا بد أن نعاين كيف حاول مارسيل السموّ بما هو مُجَـَّرد، على حساب ما هو محسـوس. ذلك أن ذكرى ألبرتين بخلفية البحر ليست مُجَرَّد ذكرى امرأة واحدة أو كائن بشـري أو شعور فحسب، بل هي حزمة كل تلك الانطباعات التي يمكن أن تثيرها مرتبطة بشاطئ «بالبيك» الجميل. فأن تقبِّل وجنتي ألبرتين يعني أن تقبّل الشاطئ بكامله.
إن صورة ألبرتين، وهي على شاطئ البحـر، رسمها بروست بتفريعات بلاغيـة شتى. تلك خطّته المعهودة في رسم كل صور رائعتـه «في البحث عن الزمن الضائع»، لكن ذلك لا يعني أن تلك التفريعات والاستطرادات الجزئية تخلو من أية وظيفة بلاغية. إنما الأنسب أن نقول: تقوم صورة بروست البحرية على «التقابل» بين الذكـرى والحاضر الآني، وبين المُجَـَّرد والمحسوس، وبين الواقعي والمتخيَّل. كما أن تكوينها الجمالي اعتمد ،كذلك، على بلاغة التفريعات والتشبيهات الجزئية: الذكرى أقوى من الواقع، الرسم بوصفه مساعداً على التصوير، الشك في أن الممثلة حقيقية أم غير حقيقية.
وتجميعاً لكل تلك الملاحظات يستخلص الكاتب والناقد محمد أنقار أن بروست يستحضر صور الأشياء والمعطيات من أجل أن يشتغل بها عوض اشتغاله بالواقع مباشرةً، وأن متعة المتخيَّل لديه أكبر من متعة المحسوس. وأخيراً، أنه لا يرسم، بل يُشكِّل.
عبد الحق ميفراني – عن مجلة الدوحة.