في ظلال الحروف

الزمان أنفو-

كان لدي تقليد أتبعه دائما في اللحظات المئزريةِ؛ تلك اللحظات التي يتفطرُ حبلها السّريُّ على ضديةِ المعنى وحديته في التأويلِ.

ذلك التقليد اكتشفت أنه ليس سريّ الخاص بي وإنما هو أمر شائع بين أقراني الذين كانوا ذات حرف على ملة من ضوء شموع ومن صفحات لا تقرأ بالمقلوب.

كان تقليداً يقوم على أن أقرأ كتابا كل يوم وعند الطوارئ قراءة كتاب كل يومين.. أمضيت بذلك عاما كاملا بين هلال شعبان وعودته. كانت “الشلة” في “روصو” تعتبر غرفتي المبنية من الطين والحشائش “صومعة”، ويزعمون أنَّ رائحة الحبر تُعمّد فيها الأنوف والعيون والأذهان. خلال “عام الحرف” ذاك اعتكفت على قراءة عشرات دواوين الشعر والقصص والروايات وكتب التاريخ والثقافة والفلسفة، وسير القياصرة وكتب ثوار “الجنوب”..

أنهيت قراءة آخر كتاب لديّ.. وخرجت عشاء في ليلة باردة مظلمة تعبث فيها الريح بنوافذ وأبواب بيوت الصفيح في حي “الصطاره”، وفجأة تراءى لي طائر عملاق تصفقُ أجنحته في “الظلام الطلق” قبل أنْ يحطَّ على كتفي.. أخذته بلطف بين يديَّ، فلم يكن غير ورقة كبيرة لا أعرف من أين أتت ولكن كانت بها روح الأسفار، قفلتُ عائداً إلى “الصومعة”، وعلى ضوء الشموع وعند الساعة الواحدة فجراً، ومع توقف الريح، أنهيت كتابه قصيدة “المجنون” الأولى من نوعها في بلاد الرمال التي طمثها كلّ إنس وجان..

شربتُ كأسَ شايٍ وأدنيتُ الشَّمعة لأقرأ القصيدة الجديدة.. كنت أنشد بصوت مونولوجي وأنا قريبُ غياب عن الوعي بما حولي.. قبل أن يخيِّـمَ جوٌّ من الهمسِ والهَمْهمةِ خارج المكان.. أصخت السمع ثمَّ فتحت الباب مستطلعاً فإذا ببعض الجيران الذين جذب انتباههم “الأداء المسرحيّ” وقد أخذهم الفضول، فـ”ابن الجيران هذا لغزٌ، فهو منتسبٌ لكل الحركات السياسية، ويعيش بين صفحات الكتب.. هو قطعا “ممثل بارع”، قالت “الهيكلية” الأربعينية.

قهقهنا وشربنا الشاي معاً، وكانوا يطلبون الإعادةَ. فأنشدت القصيدة مرة أخرى.. كنت أقرأ نصا أخاله موغلاً في الحداثة والرمزية وكان الجمهور من عامة العامةِ.. وحين أنهيتُ الإنشادَ خاطبتني “زينب” وهي بائعة “اشتوكه” أمية لا تقرأ ولا تكتب، قالت: “يا شاعر لم أفهم معنى ما قلت، لكن في القراءة الأولى كان صوتك عفويا وفي الإعادةِ تكلفت فخسرتَ هويتك الصوتيةَ”. انتهى الدرس فقد علمتني بائعةُ “اشتوكه” ترك الأمور على فطرة ما يحتمل بعد الجعجعة من طحين.

اكتملت قناعتي بعد تلك اللّيلة بأخذ المبادرة وتأسيس فرقة تمثيل لم يتجاوز رصيدها مسرحية واحدة كان من بين المتفرجين عليها بعض من سيصبحون أهمّ رواد ما سيعرف بـ”مسرح الهواة”، أما أنا فقد هاجرت من الضفة إلى نواكشوط، إلى المدينة التي تفرض عليك حق المتعة قبل عقد قرانك عليها، مدينة لا تشبه كل المدائن، مدينه يتحرش بها بحر الظلمات، مجلوب الفحم أقرب شيء فيها إلى الورد، مدينة “لا تقرأ ولا تكتب”، ولكنها ذكية فهي لا تخدع الشعراء ولا تنخدع بهم.

أقول هذا فحسب لأنَّ الحنين لا يتوقف إلى حلم مسرح وطني تأجل أكثر من اللازم.

تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”