لو زارنا جورج..
جورج ناصيف، صحافي لبناني متمرس، يعمل منذ سنوات منتجا لبرنامج مهمة خاصة في قناة العربية، قادته الأقدار وإياي إلى زيارة العاصمة الموريتانية نواكشوط، مطلع فبراير الماضي، كانت الزيارة الأولى له إلى موريتانيا..
لم يكثر أسئلته عنها قبل الوصول، فصحافي مثله يدرك أن العين أصدق من الأذن، خاصة حين تسافر مع عربي إلى بلده، ولم أكثر له المديح ولا القدح، وثقت بعينه كما أثق بعدسته.
وشهر فبراير من أفضل الأشهر التي يمكن أن تزور فيها موريتانيا، حيث الطقس معتدل، لم أشرح لصديقي أي شيء فقد كنت أتولى التنسيق مع الجانب الحكومي حول إجراءات الزيارة ومع المعنيين بالملفات التي سنعالجها، لكن موريتانيا ترفض دائما من يداري عيوبها.
كانت الصدمة الأولى لجورج في دبي، فكونه يحمل جوازا لبنانيا يحتاج تأشيرة دخول، والإجراء الروتيني الذي ألفه جورج مع غير السفارات الموريتانية أن ترسل القناة سائقها معه الوثائق المطلوبة والرسوم المستحقة، ورسالة تكليف.
ولأننا بلد مختلف – مع جواز التصحيف – كان الرد بعد يومين من السفارة أن التأشيرات الخاصة بالصحفيين لا بد لها من موافقة السفير شخصيا، وبطريقتي الخاصة حصلت على رقم السفير، كان مهذبا جدا وأبدى الكثير من الرغبة في “تعدال الغاية” ولكن الأمر يتجاوزه فهو يحتاج أن ترسل إليه موافقة من الخارجية، اتصلنا بالخارجية وكان بها زميل سابق لنا، وهو الآخر مهذب جدا، وخدوم، ولكن الأمر ليس بيده، فهو يحتاج رسالة موقعة من وزارة الإعلام وليس دور الخارجية إلا إرسال الرسالة إلى السفارة، وفي وزارة الإعلام من حسن حظ جورج أن بها زملاء سابقين مهذبين وخدومين، ولكنهم يحتاجون رسالة من القناة موقعة من إدارتها تشرح طبيعة المهمة.. والخلاصة أننا بعد أسبوع حصلنا على تأشيرة لجورج.
جورج قادم قبل أسبوعين من أحياء الصفيح في مصر، وقبلها من مخيمات اللاجئين الفلسطيين في لبنان، ما يعني أن أي مشهد يؤذي العين لن يكون غريبا عليه، لذلك لم أزده ونحن ننزل من سلم الطائرة على قولي “لا تنتظر حافلة توجه مباشرة إلى مدخل المطار”.
في المطار (…) لن أطيل القصة أنتم تعرفون ما يحصل هناك.. لكن اللافت فيها أن القناة أرسلت معنا رسالة مختومة تتضمن كل المعدات التي بحوزتنا لنسلمها إلى جمارك المطار، وحين أردت فتح الحقيبة لأعطيها للجمركي، قال لي بالحرف الواحد “أح اتحرك لا تحصر الخلق”، استحييت من إعادة الرسالة للمؤسسة وما زالت احتفظ بها.
أمضى جورج خمسة عشر يوما في نواكشوط، تنقل فيها بين أحيائه المختلفة، وحرصت كل الحرص، – ربما يقرأها جورج الآن للمرة الأولى- أن لا أمر به على أحياء مزرية الحال، وكان يقيم في فندق بتفرغ زينه، اشتكى فيه الباعوض، وغيّره لأن به صراصير.. مع أنه فندق من أربع نجوم ويعقد فيه وزير الإعلام بمحض الصدفة ورشة في اليوم نفسه.
خرج جورج بثلاث ملاحظات عن البلد أولها أن أهله مثقفون وواعون بكل أحداث العالم.. بطريقة مهذبة “أهلو ما فايتهم شي”.
وأنهم غير مستعجلين إطلاقا، لذلك لم يحدث أن جاءنا شخص في الموعد الذي اتفقتا عليه قبل ساعة من انتظاره، إلا مرة واحدة وكانت عن طريق الخطأ، حيث ذهبنا إلى الموعد بعد ساعة وصادفنا الضيف يدخل، بطريقة مهذبة “لا يقيمون وزنا للوقت”.
الملاحظة الثالثة أنهم مجتمع متدين، ولأنه مسيحي متدين فقد أعجبه ذلك.
حين عدنا إلى دبي اختصر لي جورج وجهة نظره في حال البلد بعبارة أسرتني، قال:
” لا أجد تفسيرا لما تعيشه موريتانيا الا تفسيرا واحدا وهو انهم مجتمع متشبع بالتصوف منشغل قلبه بالآخرة فلا يرى ما في الدنيا.. إذ يستحيل ان يكون هناك من يشعر بالسوء وتبقى الحال كما رأيت”.
لم يكتب جورج أي شيء عن رحلته، وأنا أشكره جدا لأنه لم يفعل، فلو كتب لانهالت عليه سهام كتائب البشمركة و”الوطنيين” الغيورين على سمعة بلدهم.
أتذكر هنا عبارة قالها مرة مصور من غانا كان في مدينة النعمة وكان الوحيد الذي يملك محلا للصورة الفوتوغرافية الجاهزة، صور امرأة دميمة فاشتكت من ذلك واحتجت عليه فقال كوفي “أيوه أنا أللا صور توف”..
جورج زارنا في شهر فبراير وسكن في تفرغ زينه، ولكن ماذا لو زارنا الآن؟
أحمد ولد إسلم
جورج مثل كوفي.. لا يضيف تعديلا على المشهد.. إنه يصور فقط. الحمد لله أنه في إجازة الآن…