عن المؤتمر الثاني لسرديات نواكشوط
كتب سعيد يقطين:
الزمان أنفو – أنجزت هند ما وعدت. فجاء المؤتمر الثاني لسرديات نواكشوط امتدادا طبيعيا للمؤتمر الأول متجاوزا بذلك بعض الصعوبات التي تعترض البدايات دائما. منذ أن تم التخطيط لمبادرة هذا الملتقى العلمي من لدن وحدة بحث السرديات وتحليل الخطاب، التي يشرف عليها محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم، حول السرديات في نواكشوط قبل الجائحة. جاء المؤتمر الأول خلال الأيام: (23 ـ 25 مارس/آذار 2022) ليكون منطلقا للتفكير في السرديات وعلاقتها بالسرد العربي قديمه وحديثه، من خلال موضوع: «واقع السرديات ومستقبلها في التجربة العربية». لم يكن الهدف فقط البحث في موضوع، على غرار ما هو متداول في الندوات التي تقام في كلياتنا. كان يراد منه أن يكون مناسبة لتجمع المهتمين والباحثين في السرد العربي للتعريف بوجهات نظرهم، ومدى اهتمامهم بالسرد وإبراز تصوراتهم بهدف أسمى يتمثل في توحيد الجهود، وتقريبها، ودفعها إلى الانخراط الجماعي في التفكير في السرد العربي نظريا وتطبيقيا.
ساهم في المؤتمر الأول باحثون من أقطار عربية عديدة، إلى جانب باحثين من موريتانيا، ولتعذر حضور الكثيرين منهم، كان جزء من المداخلات عن بعد. ورغم هذا العامل الذي يحول دون التواصل والتعارف والتحاور بين المؤتمرين، كانت التجربة ناجحة، وبرزت نتائجها في إصدار حصيلة المؤتمر الأول في كتاب تحت عنوان: «السرديات في التجربة العربية: الواقع والآفاق» عن دار الأمان في الرباط (2023)، ووزع الكتاب على الحضور خلال أشغال المؤتمر الثاني الذي عقد في كلية الآداب في نواكشوط خلال الأيام: 22 ـ 24 مايو/أيار 2023.
شكّل هذا المؤتمر امتدادا وتطويرا للسابق، لقد ساهم فيه بعض الباحثين الذين شاركوا في الأول، من المغرب والجزائر وتونس، وقطر والسعودية، وأضيف آخرون من مصر والعراق. وكانت مساهمات الموريتانيين من حيث العدد دالة على التطور الذي عرفته الدراسات والأبحاث السردية في موريتانيا. تمحورت أشغال هذا المؤتمر حول موضوع: «السرديات ما بعد الكلاسيكية: من أجل رؤية عربية»، وكان تأطيرها من خلال طرح أسئلة محددة وضحتها الورقة التنظيمية على الشكل التالي: «هل يمكن الاشتغال بالسرديات ما بعد الكلاسيكية من دون الانطلاق من السرديات الكلاسيكية؟ وما هي العلاقة بينهما؟» وكان السؤال التالي محددا حول الاتجاهات التي بدأت تثير اهتمام وعناية بعض الدراسين والنقاد العرب: «ما هي أهم اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية التي يمكن الاشتغال بها حسب وجهة نظرك؟ ولماذا؟»، وكان السؤال الأخير مركزا على المستقبل: «ما هي السبل الكفيلة بتطوير السرديات العربية في الاشتغال بالسرد الحديث والقديم؟».
لقد ارتأت اللجنة التنظيمية جعل أشغال المؤتمر تنصب على طرح الأسئلة المحددة، وليس اعتماد محاور مفتوحة كما جرت العادة، لأنها كانت ترمي إلى التفكير في الأسئلة الجديدة والمتجددة، وليس تقديم أجوبة جاهزة عنها، بغية بلورة تصور عربي يفتح مجالات للبحث والنقاش والحوار الجماعي، ويدفع في اتجاه المشاركة في النقاش السردياتي السائد حاليا على المستوى العالمي.
توالت الأشغال خلال الأيام الثلاثة، وساد النقاش والحوار بين المؤتمرين، وبرز الاختلاف والائتلاف. ولم يكن الهدف هو تقديم أجوبة نهائية، ولكن تعميق الأسئلة، والدعوة إلى التفكير فيها، وإشراك الباحثين والطلبة في العمل على بلورتها وتطويرها. بخصوص السؤال الأول كاد الإجماع يكون على أن السرديات الكلاسيكية مرحلة مهمة في تاريخ الدراسات السردية، ولا يمكن تجاوزها، وأن العمل على تطويرها لا يمكن أن يتحقق إلا بتمثل منجزاتها، وكان الحديث عن الاتجاهات التي يمكن الانخراط فيها، والاشتغال من خلالها بالسرد العربي بارزا من خلال عدة اتجاهات تحددت من خلال ما يلي: السرديات الوسائطية، والمعرفية، والتلفظية، والبيئية، واللاطبيعية، والثقافية، وسواها. وإلى جانب هذه القضايا التي تركزت على الأسئلة الثلاثة، كانت بعض المداخلات، خاصة من لدن الباحثين الموريتانيين تتمحور حول تحليل نصوص سردية عربية وموريتانية باستثمار بعض الاتجاهات السردية الجديدة. وقد أبانت عن الإمكانات التي باتت تمتلئ بها الدراسات الموريتانية، وهي تعمل من أجل الإسهام في الدراسات السردية العربية المعاصرة.
إن مثل هذه الندوات حول الموضوعات المحددة، التي يسهم فيها الباحثون، ليس بهدف الترقية، أو الحصول على ورقة المشاركة، من الضرورات التي باتت تفرض نفسها لتطوير الدراسات السردية العربية خاصة، وإذا كان السؤال الأول وهو يتركز على الموقف من السرديات الكلاسيكية، وعلاقتها بما بعدها يومئ، ضمنا أو مباشرة، إلى ضرورة اشتغال الباحث في إطار تصوري محدد يبرز من اختصاص خاص، فإن تطوير السرديات لا يتأتى إلا بالانطلاق من الاختصاص المحدد. لا يمكننا أبدا الحديث عن تعدد الاختصاصات أو تداخلها من دون الانطلاق من الاختصاص أولا، والانفتاح على غيره ثانيا. هذا هو الدرس الأساسي الأول الذي يمكن الخروج به من هذا اللقاء.
إذا كان توسيع السرديات وتطويرها ضرورة، فإن اختيار الاختصاص الذي يتحدد منه الاتجاه الذي نختار، ينبغي أن يكون متلائما مع ما يفرضه السرد العربي، واختصاص الباحث. وهذا هو الدرس الأساسي الثاني. أما المستقبل فيتصل بالتفكير الجاد في السؤالين معا.