قصة . ” الزمن والدم”./المختار السالم” مع المخابرات.
بالأمس نشرت النص الكامل لـ”قصيدة الزمن والدم” للشاعر الكبير بدي أبنو.. لفت انتباهي إلى ضرورة إعادة نشر القصيدة هو قيام وكالات ومواقع بنشرها غير كاملة..
وطبعا لفت انتباهي تعليق أستاذي ومعلمي ناجي محمد الإمام على هذه القصيدة، وهو التعليق “الومضة” التي أضاءت جوانب كثيرة في هذه القصيدة لمن لا يعلم.. ذلك أن “متنبي موريتانيا” تحدث بإشاراته الخاصة عن قواسم مشتركة كثيرة بين شعره وشعر بدي أبنو.. حتى على مستوى المفردات… الرحيل.. والرموز الكثيرة التي تشكل قاموسي الشاعرين رضيعي لبان القافية.. لكنني الآن أكتب لكم قصة هذه القصيدة.. أعني قصتها الصحفية لا غير.. فكل قصيدة يطول الحديث بشان قصتها الحقيقية حين نتناولها تماما كقصة أي امرأة جميلة في شفق لازوردي… كتب بدي أبنو “قصيدة الزمن وما بين باريس ومراكش، وفي “زمكان ممزق”.. ومن الواضح أن القصيدة ليست خديجا شعريا… بل هي محيط مرجاني عميق وهادر الأمواج.. تضمنت القصيدة رؤية فكرية وتاريخية، فهي استعراض مجسور موسيقيا بعوالم رمزية وإحالاتية يصعب على المختصين الإلمام بها في أي دراسة.. باختصار هي “قصيدة مثقفة”.. وليست من نوع الإبداع الخام الذي تصيب قراءته أمثال ناجي الإمام بضيق التنفس.. لكن للقصيدة بعدها السياسي غير الخافي، فقد كتبت في أحلك سنوات نظام ولد الطايع.. وبعد فشل محاولات انقلابية ضد نظامه خطط لها وقام بها صالح ولد حننه ورفاقه.. كانت السجون مليئة بالشرفاء.. وكانت أخبار تعذيب المساجين تملأ الأسماع.. كان البلد يغرق في وحل أحضان “إسرائيل”.. و”غربنة” القيم… كان الوضع جمريا إلى حد لا يطاق.. وبدأ “الأحرار” يتساقطون على مائدة ولد الطايع.. ولم يبق في ذلك الليل البهيم الموحش سوى إشراقات قليلة من نوع بدي أبنو.. إذن، بعد كتابة القصيدة بعثها إلي بدي وهي “طازجة” عبر البريد الألكتروني.. وكان إهداؤها مكتوبا إلى “صالح ولد حننه ورفاقه”.. قررت نشر القصيدة على الفور في صحيفتي “جهينة”… وقمت بإخراج العدد، ثم أرسلته إلى المطبعة مع أحد “تلامذتي” الإعلاميين.. ثم ركبت سيارتي المتهالكة وتوجهت إلى أبي العزيز في الريف.. هاتفت بدي وأخبرته بأني قررت نشر القصيدة… فاستغرب.. وطلب إلي عدم الإقدام على ذلك لما قد يسببه لي من مشاكل.. كنت وقتها أتولى توزيع بعض بيانات “فرسان التغيير” طبعا بعد أن تصلني من بدي أبنو.. سلم المسؤولون في المطبعة الوطنية 5 نسخ من الصحيفة إلى وزارة الداخلية صباح الخميس.. وفي المساء اجتمع ما يعرف وقتها ب”المجلس الأمني”، الذي يضم وزير الداخيلة ومدير الاستخبارات وكان جدول الأعمال مقتصرا على “التعامل مع عدد جهينة” و”ما وراء هذا العدد”.. طبعا خرج الاجتماع بحظر العدد فورا.. وتوصية بحظر صدور الصحيفة، التي تعتمد على جيبي الضيق… أبلغتني جهة ما بالقرار وأنا أحتسي الشاي مع أبي في الريف… توجهت إلى نواكشوط فورا، وفي الطريق قلت لمّ لا ألعب مع هؤلاء لعبة غميضة أمنية صغيرة..
اتصلت على مسؤول في الشرطة، وطلبت منه رقم هاتف مدير الاستخبارات دداهي ولد عبد الله.. وبعد دقائق رد عليها دداهي قائلا “من معي”؟. – معكم الشاعر المختار السالم. – مرحبا وأهلا. – سمعت أنه تمت مصادرة عدد جهينة.. – صحيح.. كيف تنشر فيها قصيدة تمجد الانقلابات ومهداة إلى مجرمين. – والله غريب.. – ما الغريب؟ – لدي مخرج بليد تماما.. وكل ما تركته لديه المواد ليقوم بالإخراج ويحمل الجريدة إلى السحب.. ووجد نقصا أخذ أي نص وسد به النقص.. إنه لا يميز حتى بين “دلائل الخيرات” وأي كتاب عن الزراعة. رد دداهي: – إذا، أنت لم تكن تعلم.. أحسنت كونك أبلغتني.. العدد الآن تمت مصادرته بالماضي ولا يمكن أن ينشر، ولكنهم سيتراجعون عن الخطوات التي كانوا بصددها. كان ذلك أول اتصال هاتفي بيني وبين مدير أمن الدولة دداهي ولد عبد الله.. كان لدي علم بأن المجلس الأمني قرأ القصيدة في اجتماعه وبكل ما توفر لأعضائه من حاسة لمس وشم واستنباط.. ووصلت إلى المنزل وأعدت قراءة القصيدة واكتشفت فيها الكثير مما لم ألاحظه من قبل رغم أني قرأتها عدة مرات.. عند غروب ذلك اليوم، وكنت وحدي في البيت، لاحظت من زجاج النافذة سيارة متوقفة في ساحة أمام منزلي، وكانت بداخلها سيدة.. خرجت من البيت محاولا استطلاع الأمر، وأنا في مثل تلك الأوقات أتمتع بأعصاب ثلجية.. توجهت إلى الحانوت واشتريت كرة قدم ب500 أوقية، وفي طريق العودة مررت من خلف السيارة ورميت الكرة بهدوء تحت السيارة، ثم اقتربت من جانب السائق مشيرا بيدي فأنزلت المرأة زجاج باب سيارتها ورمتني بابتسامة غدارة.. كانت ذات جمال أسطوري.. قلت لها : عجيب سبحان الله.. أنا جئتك خوفا على كرة قدم ضربها طفلي فعلقت تحت سيارتك.. والآن أنا أخاف على أعصابي من جمالك. ضحكت هذه الحورية الساقطة من السماء بغنج ودلال وقالت تعال اجلس معي سأسألك. قلت في نفسي “بدأت المشاكل”.. ثم مررت إلى الجانب الآخر وفتحت باب السيارة وجلست قائلا “تفضلي”. بدت مترددة، وطال حديث الأخذ والرد.. ثم قالت سأصارحك.. أولا.. أنت من أي قبلية… وخيرت.. وخيرت.. “أهل أوتويشات”.. أنا أجرت هذا المنزل (المقابل لمنزلي)، وأنا تاجرة غنية.. ومطلقة ولدي أطفال ولا أريد الزواج علنا… أريد رجل من أسرة عريقة يعصم لي ديني.. ولن أكلفك أي شيء.. نتزوج سرا عند إمام أعرفه طيب، ثم آتيك كل ليلة الساعة الواحدة ليلا… ثم أعود لداري.. بدت الأمور واضحة.. هذه حسناء جندتها الاستخبارات.. وهذه العلاقة الميكانيكية كفيلة بتقطيعي إلى ذرات… رفضت هذا العرض بما توفر لدي من لباقة.. ودخلت منزلي وأحكمت إغلاقه ثم سمعت محرك سيارتها يدور.. بعد منتصف الليل لاحظت أن السيارة ذاتها توقفت أمام المنزل المقابل.. ونزلت منها السيدة صحبة رجل.. دخلا وأحكما إغلاق الباب خلفهما. ما إن استقيظت في الصباح حتى دخلت علي جارة لي، كنت أسميها “وكالة رويترز”، وأخبرتني الخبر اليقين.. وتفاصيله.. فالسيدة التي كنت أخاف من أن تكون عميلة استخبارات أجرت المنزل فعلا.. وتزوجت برجل من الشارع الليلة الماضية ليطلقها قبل الصباح، أنها كانت تبحث عن محلل. في ظهيرة ذلك اليوم كنت أعيد قراءة “قصيدة الزمن والدم” وحين وصلت قول الشاعر: “عند ارتواء الرحيل من الأنجم الصامتهْ”.. رن الهاتف وكان صوت بدي على الطرف الآخر.. لقد بلغه خبر مصادرة عدد الصحيفة..
قال لي لم لا تخرج ونلتقي في دكار إن شئت ونأتي هنا وتستريح في أوروبا لفترة… النظام يحتضر.. وإلى أن يرتوي الرحيل من الأنجم الصامتة سأخبركم في وقت لاحق بقصة “بدّية” أخرى مع هذا الشاعر الفذ والإنسان المشكل من كومة أخلاق ومبادئ. العنوان الأصلي : “قصيدة الزمن والدم”… القصيدة التي قرأها مجلس الأمن الموريتاني تصبحون على خير..!
نقلا عن صفحة الشاعر المختار السالم على الفيسبوك