فرنسا تفرج عن وثائق اتفاقيات مع قبائل موريتانية
وثائق عمرها أكثر من مائة عام
الزمان أنفو – نشرت وزارة الثقافة الفرنسية على موقع الأرشيفات القومية لما وراء البحار، ومنذ بعض الوقت، مجموعة من الاتفاقيات كانت السلطات الفرنسية قد وقعتها مع الإمارات الموريتانية الخمس، ومع بعض القبائل الموريتانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتبلغ تلك النصوص 46 اتفاقية، بعضها من عدة صفحات وبعضها أقل من ذلك، وبعضها باللغتين العربية والفرنسية وبعضها بالفرنسية فقط.
والوثائق الموقعة كانت مع أمراء أو مع شخصيات نافذة في الإمارات الموريتانية الخمس المعروفة وهي: إمارة آدرار، وإمارة إدوعيش، وإمارة أولاد امبارك، وإمارة البراكنة، وإمارة الترارزة. أما المجموعات غير الأميرية التي نشر الفرنسيون اتفاقياتهم معها فخمس قبائل هي: إداوالحاج وإدابلحسن وأولا بالسباع وإدكباچه وأولاد خليفة، والقبيلتان الأخيرتان من مجموعات الترارزه الكحل أو الخالفة الكحلاء.
وأكثر الوثائق كانت مع أمراء الترارزة والشخصيات التروزية البارزة وتبلغ 25 اتفاقية، وتليها إمارة البراكنة بثماني اتفاقيات، فقبيلة إدوالحاج بأربع اتفاقيات، ثم إمارة تكانت بثلاث اتفاقيات، ثم إمارة آدرار وإمارة أولاد امبارك وقبيلة إدابلحسن وقبيلة أولاد بالسباع وقبيلة إدكباچه وقبيلة أولاد خليفة كلها اتفاقية واحدة.
وسنعطي في سلسلة من ثلاثة مقالات معلومات عامة عن كل اتفاقية دون التعمق كثيرا؛ لنعود، إن سمح الوقت بشيء من التفصيل لتلك النصوص، في مقالات لاحقة. وسيكون تناول هذه الوثائق بحسب الترتيب الأبجدي للإمارات والمجموعات القبلية.
أولا: وثيقة إمارة آدرار هي الوحيدة التي وقعها رئيس فرنسا
اتفاقية إمارة آدرار هي الاتفاقية الوحيدة الذي وقعها في يونيو 1894م رئيس الجمهورية الفرنسي سادي كارنو (Sadi CARNOT) والذي سيقتل سنة بعد توقيعه تلك الاتفاقية مع أمير آدرار لأسباب معروفة عند المؤرخين. كما وقع اتفاقية إمارة آدرار الوزيران الفرنسيان: وزير الخارجية حينها السيد جول دوفيل (Jules Develle) المتوفى سنة 1919م، ووزير التجارة والصناعة والمستعمرات السيد لويس تيرييه (Louis Terrier) المتوفى سنة 1895م. وقد وقعها من الجانب الآدراري الأمير أحمد بن سيدي أحمد بن أحمد بن عيده في 20 أكتوبر 1891م.
واتفاقية إمارة آدرار مكونة من خمس مواد، وأبرز ما فيها -في نظري- نقطتان: أولاهما إلتزام أمير آدرار بعدم توقيع أي اتفاقية مع أية قوة أجنبية، والثانية: أن الاتفاقية تبقى سارية المفعول لمدة ثلاثين سنة من تاريخ توقيعها واعتمادها. هذا فضلا عن مواد ثانوية مثل تشجيع التبادل التجاري والإكراميات، وهي شروط لا يخلو منها أي نص من تلك الاتفاقيات.
والسؤال لماذا وثيقة إمارة آدرار هي الوثيقة الوحيدة التي وقعها الرئيس الفرنسي بنفسه وووقعها اثنان من أبرز وزراء حكومته (وزير الخارجية ووزير التجارة والصناعة والمستعمرات) بينما لم يوقع الاتفاقيات المبرمة مع الإمارات الموريتانية الأخرى أو القبائل غير الأميرية غير الوالي الفرنسي المقيم بالسنغال أو الوالي الفرنسي المقيم بالسودان الفرنسي خصوصا احدى اتفاقيات إدوعيش الثلاث واتفاقية إمارة أولاد امبارك؟
يبدو أن فرنسا حرصت على أن تكون الاتفاقية مع إمارة آدرار ذات طابع دولي، وموقعة من أعلى المستويات لسببين: أولهما: أن الفرنسيين قد تأكدوا في نهاية القرن التاسع عشر من أن أراضي منطقة آدرار تحتوي على مناجم عديدة من أبرزها الحديد، خصوصا وأن بعض المستكشفين الفرنسيين مثل الضابط فينسان، الذي زار آدرار سنة 1860، أكد على غنى تلك الأراضي بالمعادن المختلفة، وهو ما يعني ضرورة وضع اليد عليها قبل أي دولة أوروبية. والفرنسيون أصبح لديهم من المعلومات الطبيعية والجيولوجية عن منطقة آدرار ما لا يمتلكه غيرهم، ومن الضروري العمل على سبق غيرهم من القوى الأوروبية المتنافسة على القارة الافريقية.
أما السبب الثاني، وهو المهم، ويتلخص في كون فرنسا تعرف أن إسبانيا قد وقعت اتفاقية في 10 شوال 1303هـ أي 12 يونيو 1886م مع أمير آدرار أحمد بن امحمد، وبموجبها يعترف هذا الأخير بالسيادة الإسبانية على نقاط محددة فى الصحراء الغربية، وتريد فرنسا من إبرام اتفاقية جديدة مع سلفه وابن عمه الأمير أحمد بن سيدي أحمد ألا تترك المجال مفتوحا لإسبانيا، بل تحصر اتفاقها مع الأمير أحمد بن امحمد في مجال محدد لا يشمل غير الصحراء الغربية، ويستثني الشمال الموريتاني الذي تعرف عنه فرنسا من المعلومات الجيولوجية ما لا تعرفه إسبانيا.
وعلى هذا الأساس ستكون الوثيقة التي أبرمتها فرنسا مع إمارة آدرار، الموقعة على أعلى المستويات (الرئيس الفرنسي وأمير آدرار)، حجة عند أي نزاع مع إسبانيا حول تقاسم هذه المنطقة، ومآلات النفوذ في الصحراء الغربية وفي شمال موريتانيا. وهذا ما تم بالفعل لما وقعت فرنسا وإسبانيا في 27 يونيو 1900 معاهدة باريس التي رسمت الحدود بين وادي الذهب الواقع تحت السيطرة الإسبانية وبين موريتانيا الواقعة تحت السيطرة الفرنسية. وفعلا كانت اتفاقية أمير آدرار أحمد بن سيدي أحمد مع الفرنسيين سببا في إقصاء فرنسا لغريمتها إسبانيا وحجة قانونية تم يموجبها تحييد إسبانيا تماما، وهو ما سمح لفرنسا في المستقبل بوضع الفرنسيين اليد على المناجم الموريتانية بآدرار، ومن هنا نفهم حرص الفرنسيين على أن تكون الاتفاقية موقعة من طرف الرئيس الفرنسي ومن طرف أمير آدرار حتى تأخذ قوة الاتفاقية الدولية الملزمة بقوة القانون.
إمارة تگانت.. اتفاقيات ذات سياق خاص
نشرت الوثائق الفرنسية ثلاث اتفاقيات أبرمتها باريس مع إمارة إدوعيش، أولاها وأقدمها تم توقيعها في باكل في 7 فبراير 1821م، وقد وقعها من جانب إدوعيش الزعيم المختار، وفي الوثيقة أن المختار المذكور وقعها باسم الأمير (دون ذكر اسمه). وفي ظني أن المعني هو المختار بن اسويد أحمد بن محمد بن امحمد شين، وقد وقعها باسم أبيه الأمير: اسويد أحمد، كما وقعها من الجانب الفرنسي الضابط البحري والإداري الشهير البارون لويس جان بابتيست لوكوبيه (Le baron Louis-Jean-Baptiste Le Coupé)، الذي وقع في نفس الفترة اتفاقية مع أحمدُ بن سيدي اعلي بن المختار بن آغريشي أمير البراكنه (أحمدُ الأول)، كما وقع اتفاقية مشابهة مع محمد الحبيب بن أعمر بن المختار أمير الترارزه. وهذه الاتفاقية التي وقعها اسويد أحمد مع الفرنسيين كانت بعد وفاة أبيه الأمير محمد بن امحمد شين بأقل من سنة؛ حيث توفي الأمير محمد رحمه الله بعد حكمٍ دام أربعا وثلاثين سنة؛ حيث مات متأثرا بانفجار كمية من دقيق البارود كان بين يديه وذلك بالصبيبير قرب المجرية.
وكان توقيع اسويد أحمد لهذه الاتفاقية في بداية حربه مع أعمامه، وذلك عند انقسام إدوعيش قسمتها الثانية إلى مجموعة أبكاك ومجموعة اشراتيت، وكان اسويد أحمد زعيمَ أبكاك، بينما كان عمه المختار زعيمَ اشراتيت. ولا شك أن توقيع هذه الاتفاقية من شأنه أن يعزز جانب الأمير اسويد أحمد؛ خصوصا أنها قد تمكنه وتمكن محيطه المباشر من جملة من الإكراميات ليس من أقلها شأنا حصول الأمير اسويد أحمد بشكل سنوي على عدد من البنادق وكميات من دقيق البارود، وهو ما تنص عليه إحدى مواد الاتفاقية. غير أن تطورات الحرب الداخلية بين قسمتي إدوعيش أبكاك واشراتيت أثرت كثيرا على تطبيق هذه الاتفاقية، وما لبث الفرنسيون أن فتحوا قنوات اتصال مع اشراتيت مثلما فتحوها مع بني عمومتهم أبكاك.
وقد تم توقيع الاتفاقية الثانية باسم أمير إدوعيش بكار بن اسويد أحمد وبين الوالي الفرنسي العام بالسنغال لويس فيديرب في 1 نوفمبر 1857م بسان لويس (اندر). وجاءت هذه الاتفاقية في ظرف دقيق ليس بالنسبة لإمارة إدوعيش بل للمنطقة كلها؛ حيث كانت حروب الحاج عمر الفوتي ضد أولاد امبارك وضد إدوعيش على أشدها. لقد تحالف جميع منافسي الأمير بكار مع الحاج عمر الفوتي، وخصوصا مشظوف وأهل سيدي محمود، وكان اشراتيت في أول الأمر ضد الحاج عمر خصوصا عندما وقف جيشهم بقيادة الأمير الرسول بن اعلي بن امحمد شين بحزم في باكل ضد كتائب الزعيم الفوتي؛ ومع الوقت سيرجع اشراتيت إلى حلفهم التقليدي أي أهل سيدي محمود ومشظوف. كما أن جيش أبكاك هزم بعض كتائب الحاج عمر الفوتي عند الدواره بمنطقة كيديماغا. وتذكر الوثائق الفرنسية أن تدبير الأمير بكار بن اسويد أحمد للحرب ضد الحاج عمر كان قمة في الذكاء والحصافة؛ حيث ظل حريصا على عدم المواجهة مع منافسيه التقليديين كأولاد الناصر وأهل سيدي محمود، بل حاول بشتى الطرق الدبلوماسية استرضاء الجميع، والدخول معهم في مفاوضات نحجت أحيانا وفشلت أحيانا أخرى. ومن بين محاولات بكار تدوير الزوايا وتصفير المشاكل أنه أهدى في تلك الفترة لزعيم أولاد الناصر محمد بن أحمد بن امبرح أربعة خيول جياد، وهو أمر ثمين في ذلك العهد، ويدل على محاولات بكار استرضاء خصومه وعدم الدخول معهم في مواجهات جانبية قد تشغله عن مراقبة ومتابعة حروب الحاج عمر الفوتي التي يرى فيها تهديدا لإمارته.
وعلى العموم فإن من أبرز ما يميز اتفاقية نوفمبر 1857 بين إدوعيش والفرنسيين أن أربعا وخمسين (54) مجموعة قبلية من تگانت والعصابة والحوض وآدرار دخلت مع الأمير بكار بن اسويد أحمد في تنسيق وتفاهم؛ بحيث توجه تجارتها مع الفرنسيين إلى مرسى باكل ومرسى ماتم على الصفة اليمنى لنهر السنغال، وهما مرسيان تشرف عليهما قبيلة إدوعيش. وهذا يدل على المكانة الضاربة التي يحظى بها الأمير بكار في الوسط الموريتاني، وكيف كان باستطاعته أن ينال بثقة هذا الكم الكبير من المجموعات المنتشرة في فضاءات متباعدة. وتوجد أسماء هذه المجموعات القبلية ملحقة بالاتفاقية.
والاتفاقية الثالثة وقعت أيضا باسم الأمير بكار في يونيو 1880م بباكل، ووقعها من الجانب الفرنسي الوالي العام بالسودان الفرنسي ألبير كروديه. وكان هدف الفرنسيين من هذه الاتفاقية ومن مثيلاتها التي تم توقيعها مع الترارزه والبراكنه التأسيس لوضع الإمارات الموريتانية تحت الوصاية الفرنسية، أي التأسيس للاستعمار وتوسيع النفوذ الفرنسي. ولم تعمر هذه الاتفاقية طويلا؛ حيث أغضب الفرنسيين استضافة الأمير بكار لعدوهم عبدول ببكر التكروري زعيم بوسيا، وعدوهم الثاني علي بوري زعيم ديولوف بالسنغال، حيث حل هذان الزعيمان ضيفين على حلة إدوعيش. وقد ظل موقف بكار العدائي من الفرنسيين يتطور ويتبلور حتى مجيء الاستعمار ودخوله في مواجهة مفتوحة معهم انتهت باستشهاده في إبريل 1905م.
أولاد امبارك.. إمارة باقية رغم عوادي الزمن
تم توقيع اتفاقية الفرنسيين مع أولاد امبارك في 4 مايو 1887م في قرية كَالُمْبَه (قالمبَه) الواقعة إلى الجنوب من مدينة النوارة المالية وبينهما ما يقارب 95 كلم، والنوارة على مشارف عدل بگرو الموريتانية بالحوض الشرقي، وبينها وبين آمرج ما يقارب 130 كلم.
وقد وقع هذه الاتفاقية عن جانب أولاد امبارك زعيم أهل الگاشوش: سيدي أحمد بن محمد الأمين بن سيدي أحمد بن المختار وهو من بيت رئاسة فاته انغلي أهل بوسيف بن امحمد الزناگي. وكان سيدي أحمد المذكور قد عقد السلم مع قبيلة مشظوف وعاد بأولاد امبارك إلى باغنة، وجمع من تفرق منهم في القرى المالية، أو من حالف قبائل الحوض، ورجع بهم إلى مستقر أوائلهم. ويسميه بول مارتي في كتاب “قبائل الحوض” سيدي أحمد بن عابدين ويسمي حلته بتجمع بلَّه، بينما تسميه هذه الوثيقة سيدي أحمد بن محمد الأمين. كما وقع على الوثيقة مع أمير أولاد امبارك سيدي أحمد المذكور ثلاثة من شخصيات أولاد امبارك عثمان بن أعمر وهو من زعماء أهل الگاشوش وقد تحدث عنه بول مارتي كذلك، بالإضافة إلى انَّ بويَ والنَّگَّه، الذي قد يكون -حسب مراسلة بيني وبين المرحوم يوسف نجاح ذكر فيه أن النگة قد يكون من أهل الگايد وهي أسرة من الجنابجة من أولاد عگبة توطنت في أولاد امبارك حسب ما هو مذكور في الحسوة البيسانية لصالح بن عبد الوهاب الناصري. ويذكر يوسف نجاح أن رواية بعض أحفاد أهل الگايد تقول إنهم شرفاء من ذرية اعلي ولد شمس الدين بن سيدي يحيى القلقمي.
وكان توقيع هذه الاتفاقية بعدما يقارب ثلاثين سنة من إطاحة الحاج عمر الفوتي بسلطنة أهل بهدل بن امحمد الزناگي سنة 1858م. ويبدو أن أولاد امبارك، على ما أصابهم جراء بطش جيوش الحاج عمر الفوتي من قتل وتشريد ونفي، استطاعوا إعادة تشكلهم من جديد، وظلت لهم قوة مذكورة في عدة مناطق مالية بشكل خاص، فقد عادوا بقوة إلى باغنة.
وتدل هذه الوثيقة على أن أولاد امبارك استطاعوا لم شملهم في نهاية القرن التاسع عشر بعد أن أضعفتهم حروب الحاج عمر الفوتي وكادت تقضي عليهم، وخصوصا مجموعة الگاشوش وأولاد الغويزي اللتان استقطبتا ما تبقى من أولاد امبارك وحلفائهم.
ويدل منطوق مواد هذه الاتفاقية على أن أولاد امبارك في تلك الفترة استعادوا الكثير من قوتهم، وأصبحوا قوة تحسب لها الإدارة الفرنسية حسابها، وترى تلك الإدارة أنه لا يمكن للتجارة أن تنهض في مناطق نيورو وخاي وغيرها دون التنسيق مع أولاد امبارك.
خاتمة:
هذا تعريف باتفاقيات تمت بين الفرنسيين وثلاث إمارات موريتانية هي: إمارة آدرار وإمارة إدوعيش وإمارة أولاد امبارك. وستنتاول تباعا إن شاء الله تعالى اتفاقيات إمارتي البراكنة والترارزة في مقال ثان، لنختم في المقال الثالث بالاتفاقيات التي تمت مع مجموعات قبلية غير أميرية.
المصدر